رغم الثورة، أحلام الشباب التونسي تُغتال
لم يخطط لشيء عندما خرج من بيته صباحًا بولاية سيدي بو زيد ليجد الشرطة وقد صادرت بضاعته من الخضراوات لتتجدد مشكلة محمد بو عزيزي مع البلدية ككل يوم، لكن ذلك اليوم بالتحديد لم يكن معتادًا عندما صفعت الشرطية بو عزيزي وركله مساعدها وضرباه حتى انفجر أنفه بالدم فحاول بو عزيزي اللجوء للمحافظ لتقديم شكوى لكن دون جدوى؛ ليخرج وخلفه سباب الكاتب العام للبلدية. المشهد الذي جعله يصرخ وهو يسكب البترول الأزرق على نفسه ثم أشعل النار أمام حارس المحافظة، تلك النار التي أودت بحياة بو عزيزي متأثرًا برمادها. انطفأت نار الغيظ بداخل بو عزيزي إلا أن نار فقدانه لم تنطفئ حتى وجد المحتجون متنفسًا في التعبير عن حرقتهم عبر الإنترنت يحكون فيه عن واقعهم الذي لا يختلف كثيرًا عن واقع بوعزيزي في بلد تخطت بها نسبة البطالة 14 % بين الجامعيين.
كانت تلك الحادثة فتيلا لإشعال الثورة التونسية التي بدأت باحتجاجات سلمية ترفع شعار «حق التشغيل لابن العامل والوزير» سرعان ما خالطها العنف يوم 18 ديسمبر عام 2010م، حيث خرج آلاف الشباب رافضين لأوضاع البطالة وفقدان العدالة الاجتماعية، فقتل وجرح منهم المئات بعد صدامهم مع قوات الأمن؛ الأمر الذي استمر في الاشتعال ليتحول لرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وأخذت الأحلام في التزايد بزيادة العنف حتى خرج الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يقيل من وزرائه ويعد بعدم الترشح لولاية ثانية، لم يقدم شيئا سوى زيادة حدة الاحتجاجات حتى يوم 14 يناير عام 2011م ليخرج صوت الثورة بالشارع يردد «المجد للشهداء، ابن علي هرب، ابن علي هرب».
ثورة كان ربيعها حلم الشباب ونظام قمعي (نظام ابن علي) كان خريفه قتل الشباب، فهل نجحت الثورة التونسية في تغيير أوضاع شبابها؟.
قتل أحلام الشباب لم يتوقف
كان التعذيب في تونس قبل ثورة 2011م وسيلة في يد السلطة لتصفية حساباتها مع المعارضين لها، بمن فيهم اليساريين والليبراليين والإسلاميين، وكان يمارس بطريقة منهجية واعتيادية. وكان قمع الشباب السمة الأساسية لحكم ابن علي، فقد جاء زين العابدين بن علي، عبر انقلاب نفذه في 7 نوفمبر عام 1987م، ليصبح التعذيب جزءًا لا يتجزأ من تكوين الدولة البوليسية، إذ أصبح يمارس في المراكز الأمنية وفي السجون، حتى أدى إلى وفاة البعض، والتسبب في إعاقات جسدية ونفسية لآخرين.
في هذا الشأن، تفيد إحصائيات لجمعية «حرية وإنصاف» حول عدد ضحايا التعذيب والإهمال في حكم ابن علي، ذكرت فيها أسماء 25 ناشطًا قتلوا تحت التعذيب، وأكثر من 28 ناشطًا سياسيًا ماتوا نتيجة الإهمال، وما لحق بهم من انتهاكات جسدية تسببت لهم في عاهات جسدية ونفسية خطيرة، مثل الرائد محمد المنصوري، ونبيل البركاتي وهو ناشط يساري ينتمي إلى حزب العمال، وكذلك إسلاميين خلال التسعينات.
استمر التعذيب طوال حقبة زين العابدين، ليس فقط لردع المعارضين وإنما لضبط الأصوات الاجتماعية المحتجة، فقد كانت الأجهزة الأمنية خارجة عن سلطة المحاسبة والقانون، وتعمل بشكل واسع على قمع الطلاب والنقابيين والحقوقيين، حذر حينها المجلس الوطني للحريات في تقرير له عام 2000م، قائلًا: «إنه لم يعد أحد في تونس في مأمن من التعذيب، والسجن التعسّفي، والعقاب الجماعي، والمحاكمات الجائرة، والاعتداء الجسدي».
لم يكن من المستغرب حضور التعذيب في فترة حكم ابن علي، لكن ما يثير قلق المنظمات الحقوقية المحلية والدولية هو استمرار التعذيب في زمن ما بعد ثورة 2011م، حيث كان يتوقع أن تحسم تونس ملف التعذيب بعد الثورة. إلا أن المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب قد كشفت في تقريرها السنوي لعام 2015م، استقبالها 250 حالة تعذيب، منها 15 حالة وفاة بسبب التعذيب. وذكرت أن أعوان الشرطة هم الأكثر ممارسة للتعذيب في تونس، بنسبة 65% من حالات التعذيب المسجلة، و27% لأعوان السجون، و7% لأعوان الحرس الوطني. كما وضحت المنظمة أيضًا أن 62% منها كانت حالات عقاب، و19% اقتلاع اعترافات، و14% حالات أخرى متنوعة.
كما كشفت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان في تقريرها لعام 2015م، بأنّ نسبة العودة إلى التعذيب فاقت 45%، وسجلت العديد من الانتهاكات المرتبطة بأوضاع السجون التونسية، واصفة إياها بأنها «مؤسسات عقابية ومهينة للذات البشرية ولا علاقة لها بالإصلاح».
وسبق لمنظمة العفو الدولية أن حذرت تونس بأن التعذيب يشوه التقدم المحرز في مجال حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة بعد الثورة، واتهمت المنظمة الدولية بعض الأعوان بممارسة العنف المفرط، بما في ذلك على أطفال في حالات لا تستدعى ذلك.
لماذا لم يتوقف قتل الشباب؟
لم تمنع ثورة تونس الأجهزة الأمنية من مواصلة استعمال التعذيب كأداة للعقاب ونزع الاعترافات؛ بسبب سياق ظرفي سياسي خاص جعل من تونس الثورة لا تختلف عن تونس ابن علي. كان أحد هذه الأسباب التي وفرت البيئة المناسبة لتواصل التعذيب بتونس، هي الهجمات الدموية المنفذة من قبل جماعات إسلامية مسلحة؛ مما دفع الحكومة التونسية إلى إعلان قانون الطوارئ الذي يعطي للأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة.
وبموجب هذا القانون، يحق للداخلية تنفيذ تفتيشات ومداهمات في كل وقت، ومنع الاجتماعات، وإمكانية وضع أي شخص تحت الإقامة الجبرية، كل ذلك يتم بدون الحاجة إلى إذن قضائي؛ الأمر الذي يقدم للسلطة الأمنية التونسية حيزًا واسعًا لممارسة العنف المفرط دون الخشية من المحاسبة.
وانتقدت منظمة العفو الدولية استغلال قانون الطوارئ لممارسة التعذيب، قائلة: «إنّه مما لا شك فيه أن تونس تواجه تهديدًا خطيرًا من قبل الجماعات المسلحة، إلا أن الإجراءات الأمنية وإجراءات الطوارئ يجب أن تكون ضرورية ومتناسبة، وألا تضر بحقوق الإنسان».
وتنتقد العديد من المراكز الحقوقية الدولية، منها هيومن رايتس ووتش، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، قانون الإرهاب المعمول به في تونس، الذي وصفته المنظمات بأنه «تهديد لحقوق الإنسان»، إذ يسمح للشرطة باستجواب المشتبه فيهم دون حضور محام لمدة 15 يومًا، وهو ما يعزز فرص حدوث التعذيب.
كما لم تمر الأجهزة التونسية بعد ثورة 14 يناير عام 2011م -والتي اعتادت ممارسة التعذيب في عهد ابن علي- بعملية إصلاح داخلي؛ لتجديد كوادرها وطرق عملها، بحيث يمكنها القطع مع هذا السلوك المنافي لحقوق الإنسان.
إلى أين يفر الشباب التونسي؟
الواقع التونسي بعد اندلاع الثورة سبب صدمة كبرى في صفوف الشباب الذين لم يستوعبوا كل هذه التحولات على الصعيد السياسي في مقابل انهيار اقتصادي واجتماعي. وجد الشباب التونسي، المحبط من الظروف حوله، نفسه أمام خيارين: إما الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، أو الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، أو غيرها من التنظيمات المسلحة التي ركزت، عبر شبكة الإنترنت، على استهدافهم.
الهجرة غير الشرعية في تونس
رغم أن ظاهرة الهجرة غير الشرعية، أو «الحَرْقة» كما يفضل التونسيون تسميتها، ليست جديدة على المجتمع التونسي، إلا أن ما يثير القلق هو تناميها بشكل مُلفت، بعد الثورة التونسية، التي عادةً ما يُضرب بها المثل.
وفي دراسة أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تُبيّن أن 46% من المهاجرين، تتراوح أعمارهم بين 15 عامًا و24 عامًا، وأن 45% منهم من فئة العاملين بدوام يومي، في حين أن 24% هم من التلامذة، وهو ما يثير قلقًا بالغًا من انسداد الأفق أمام الأجيال الأصغر في تونس.
وتظهر الدراسة الخاصة بـ«خاصيات المفقودين في عمليات الهجرة السرية في بداية 2011»، أنّ «غالبية المهاجرين غير الشرعيين يأتون إما من الأحياء الشعبية، سواء من العاصمة، أو من المناطق الريفية الداخلية التي تعـيش فقرًا مدقعًا».
الانضام لتنظيم الدولة الإسلامية
وفقًا لتقرير نشرته الأمم المتحدة، تعد الجنسية التونسية هي الأكثر شيوعًا للمُسلَّحين الأجانب الذين يقاتلون لصالح الدولة الإسلامية، سواء من حيث العدد أو من حيث نسبتهم إلى السكان. حيث يقاتل الآن في سوريا وفي ليبيا حوالي 5,500 مواطن تونسيّ، وقد أوقِف حوالي 8,800 شاب تونسيّ على الحدود.
ويرجع ذلك إلى غياب سياسة الدولة الواعية تجاه الشباب، وتظل مراكز الشباب التونسية خالية، وتصل البطالة إلى معدلات مرتفعة ولا يُخطَّط لأي إصلاحات للقطاع الاقتصادي الآخذ في التراجع. كما تُسيطر النخبة على 25 بالمئة من الثروة التونسية وفقًا للبنك الدولي، وتُمثِّل قطاعات الأنشطة الكبيرة مثل النقل والتأمين والعقارات واحدا بالمئة فقط من العمالة.
كما أنَّ وحشية الشرطة ضد شباب جنوب تونس سببٌ آخر يؤدِّي إلى شعورهم بالتقييد، وكأنَّهم تحت الإقامة الجبرية، وهم محبوسون بين النشطاء المُسلَّحين وبين الشرطة، فهم يخشون كليهما. لقد خلق غياب الإصلاحات داخل الإدارة الأمنية أزمة ثقة، حيث تأتي وحشية الشرطة بنتائج عكسية بما أنَّها تُثني الناس عن التصريح بالمعلومات الجوهرية عن هؤلاء المنتمين فكريًا للجماعات المتطرفة، فضلًا عن عدم وجود برنامج فعَّال لحماية الشهود.
وفي هذا النطاق قد أشار تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر في يوليو 2015م إلى أنَّ عيوب النظام ناتجة بالأساس عن غياب احترام الإجراءات الشُرطية اليومية، المواطنون مُهمَلون؛ وهو ما يؤدِّي إلى غياب التعاون بين الشرطة وبين السُكَّان، وهو أمر حاسم في محاربة الإرهاب.
- من تاريخ التعذيب في تونس
- التعذيب في تونس: أعوان الشرطة الأكثر ممارسة للتعذيب.. و15 حالة وفاة مسترابة في 2015
- تونس: قيود مشددة على الحريات وعلى التنقل في أحدث ظواهر قانون الطوارئ القمعي
- تونس ـ قانون مكافحة الإرهاب يهدّد الحقوق
- ماهو #قانون_الطوارئ في تونس؟
- تونس: قيود مشددة على الحريات وعلى التنقل في أحدث ظواهر قانون الطوارئ القمعي
- التعذيب في تونس.. قصور التجريم والعقاب
- Foreign fighters: Urgent measures needed to stop flow from Tunisia – UN expert group warns – See more at: http://www.ohchr.org/EN/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=16223&LangID=E#sthash.jxZR1WZg.dpuf
- TopicsTunisie TagsTunisie, Corruption, projet de loi de réconciliation nationale relatif aux délits économiques, justice transitionnelle
- Tunisie : démocratie ou Etat policier ?
- Tunisie : justice transitionnelle et lutte contre la corruption
- Why are so many Tunisians joining IS?