«توماس مولر»: أول من طبق التباعد الاجتماعي في كرة القدم
بينما كان الجميع يحاول مقاومة الجائحة أو بالأحرى التحايل عليها، ظهرت في الدانمارك أبرز محاولة لإعادة الحياة لمدرجات ملاعب كرة القدم، وتحديدًا في نادي «آرهوس». حيث قام النادي بوضع شاشات عملاقة في ملعبه، تظهر من خلالها الجماهير وهي تشاهد فريقها عبر تطبيق «Zoom».
وبعد أن كان اللاعب يتعامل مع الجمهور كقطعة واحدة دون القدرة على تمييز وجوههم من كثرتهم، سيصبح أمام عدد من الوجوه العملاقة التي تحدق به بشكل لم يعتده من قبل. وبقدر غرابة المشهد، لكن يمكننا المضي قدمًا وتسميته بالتشجيع الافتراضي، الذي سيكتمل بوضع صور كرتونية للمشجعين في بقية المقاعد مع إضافة أصوات مسجلة للجماهير في الخلفية.
قد تكون فكرة محاكاة ضجيج الجماهير الأكثر منطقية بين كل الأفكار، لكنها دفعت «جوناثان ليو» الصحفي بجريدة «الجارديان» إلى استلهام فكرة كوميدية على نفس المنوال. بدلاً من الضجيج، لمَ لا نضع لكل لاعب مقطع صوتي خاص به؟ فمثلًا إذا أقنعك رءوف خليف أن «أوزيل» هو عازف الليل، سنعزف بآلة الكمان بينما يستلم «أوزيل» الكرة ويمررها، وإذا عاد «بيرلو» إلى اللعب، سنضع في الخلفية موسيقى «عمر خيرت»، وهكذا كل لاعب حسب مميزاته، حتى نصل إلى «توماس مولر».
ملك التناقضات
على الأغلب ستتوقف للحظات لتفكر في مقطع صوتي مناسب، لكن في الأخير لن تجد، لأنك بالأساس لا تفهم ما المميز في طريقة لعب «مولر». لذا كان اقتراح «جوناثان ليو» عبقريًّا لتوصيف حالة اللاعب الألماني، الذي بمجرد أن تنظر إليه، ستعجز عن إطلاق حكم نهائي أو توقع نتيجة واضحة.
في مارس من عام 2010، وجد «مارادونا» – مدرب المنتخب الأرجنتيني – نفسه بجوار «مولر» على نفس الطاولة الخاصة بالمؤتمر الصحفي لمباراة ودية تجمع منتخبي ألمانيا والأرجنتين، فظنه أحد حاملي الكرات ورفض الحديث حتى خروجه. ليلتقي المنتخبان مرة أخرى في كأس العالم من نفس العام، ويفوز الألمان برباعية نظيفة، افتتحها «مولر» بنفسه، ليقول: «أعتقد أنه يعرفني جيدًا الآن».
قد تكون النتيجة غير المتوقعة ناتجة عن اجتماع عجرفة «مارادونا» مع كون «مولر» في بداية مشواره، لكن حتى عندما أتى «جوارديولا» لتدريب النادي البافاري، لم يفهم أحد وضع «مولر»، خاصةً مع متطلبات جوارديولا المعروفة للقاصي قبل الداني.
هل تعلم معدل مراوغات «توماس مولر» في موسم 2019/2020 في الدوري الألماني؟ «0.4» للمبارة الواحدة، وللعلم فإن أقصى معدل وصل إليه في مسيرته كلها كان «1.9» مراوغة، في 2010/2011. على الرغم من ذلك، قدم «مولر» أنجح مواسمه مع «بيب»، وأحرز «32» هدفًا في كل البطولات بموسم 2015/2016. بل عزا البعض بداية تدهور مستوى «مولر» إلى رحيل «جوراديولا» عن البايرن.
حتى وصلنا إلى نهاية موسم 2018/2019، حين خرجت قناة «oh my goal» على اليوتيوب بمقطع فيديو بعنوان «ما الذي حدث لتوماس مولر؟»؛ أداء باهت، أرقام متراجعة، وخلاف مع مدربه «نيكو كوفاتش»، ثم زاد «يواكيم لوف» الطين بلة بإعلانه عدم استدعاء «توماس» مرة أخرى لمنتخب المانشافت. بعد ذلك بأشهر قليلة، قدم «مولر» واحدًا من أفضل مواسمه، ليجدد عقده مع البافاري حتى عام 2023.
اللاعب الشبح
في كل مرة، كان «مولر» يقلب فيها التوقعات أو يساهم بإنجاز لفريقه، لم يكن الأمر يلقَ رواجًا لدى معظم الجماهير، لأنه ليس من النوعية المفضلة لديهم. فأنت أمام لاعب هزيل البنية، لا يتفوق في السرعة أو المراوغة، يحتفل بأهدافه كأنه لاعب بمنتخب ألمانيا الغربية من زمن الأبيض والأسود، ومع ذلك يصنَّف رقميًّا ضمن الأكثر تأثيرًا في جيله دون أن تتذكر له أي لقطة مبهرة، كعادة اللاعبين الذين يحظون بنفس المكانة.
سأضرب لك مثالاً لتقريب الصورة، في واحدة من أهم مباريات بايرن ميونيخ في موسم الثلاثية التاريخية في عام 2013، كانت مواجهة يوفنتوس-أنطونيو كونتي بدور الثمانية بدوري أبطال أوروبا. تفوق الألمان ذهابًا بهدفين نظيفين، أحرز «مولر» الثاني منهما، هل تتذكر أداءه؟
دعني أذكرك، المرة الوحيدة التي أطلق فيها الحكم صافرته بسبب «مولر» كانت لحظة إحراز الهدف، لأنه لم يقع في التسلل ولا مرة، لم يرتكِب أو يرتكَب عليه أي مخالفة، فقط ظهر كالشبح ليستقبل عرضية «ماندزوكيتش» من أقرب مسافة لخط المرمى، ثم اختفى.
وهذه تحديدًا مشكلة الشبح «توماس مولر»، فجأة يظهر لك من العدم لتكتشف أنه رابع أفضل صانع ألعاب في العقد الماضي – بصناعة 103 أهداف، بعد ميسي (136) ودي ماريا (108) وأوزيل (106) – ثم تجده في موسم 2019/2020 صانعًا لـ«20» هدفًا – قابلة للزيادة – في البونديزليجا فقط، ليصبح لزامًا علينا أن نفسر كيفية فعله لكل هذا.
لاعب يحترم التباعد الاجتماعي
في مقابلة صحفية بعام 2011، عرف «مولر» دوره في الملعب بكلمة «Raumdeuter»، وهي كلمة باللغة الألمانية تعني «مترجم المساحات». وهكذا ظهر مصطلح تكتيكي جديد من اختراع اللاعب الألماني، لينتشر بين المحللين ثم الجماهير عبر إدارجه بلعبة «Football Manager» الشهيرة.
لكن دعنا نركز على السؤال الأهم، كيف يمكن للاعب لا يتفوق في القوة أو السرعة أو المهارة، اختراع دور تكتيكي خاص به؟ لأن مميزات «مولر» القليلة بالكرة، قابلها وعي تكتيكي غير مسبوق بدونها. حيث يتمتع اللاعب الألماني بقدرة غير مسبوقة على قراءة اللعب، وتوقع تحركات منافسيه قبل زملائه، وعليه يحصل على أسبقية التواجد في المساحة المناسبة واتخاذ القرار، إما بالتمرير من لمسة واحدة، أو الحصول على الوقت الكافي بالكرة لتجنب أي مواجهة خاسرة.
ومن هنا كان «توماس» بارعًا في شم الفراغات واستغلالها، بين خطوط الخصم وخلف دفاعه، مع دقة متناهية جعلته يقع في مصيدة التسلل مرة واحدة كل مباراتين. وبهذه الكيفية الغريبة، أصبحت تمريرات «مولر» أكثر تأثيرًا على الرغم من أنه ممرر عادي. ويمكننا ملاحظة ذلك بمقارنة إحصائياته لموسم 2019/2020 بـ«جادون سانشو» و«كيفين دي بروين»،لنجد أن مساهمته في صناعة الفرص – سواء انتهت بتسديدة أم لا – عبر إحصائيتي «xG Chain/90» و«xG build up/90» تقترب بل تتجاوز الثنائي.
ما سبق يمكن اختصاره بتوصيف عبقري آخر من «جوناثان ليو»، عندما وصف «مولر» باللاعب المثالي لفترة الوباء «The perfect pandemic player»، لأنه بحرصه الدائم على الابتعاد عن لاعبي الخصم، كان يطبق التباعد الاجتماعي قبل أن نعرفه.
بالطبع يمكن أن تزيد مثل هذه التشبيهات الوضع غموضًا، لكن مهما حاولنا تقريب الصورة، فما يفعله «مولر» مع المساحات لا يمكن رصده بدقة بالمشاهدة العادية ولا حتى بالإحصائيات. لعل أقرب إحصائية حاولت تقييم المساحة ورصد كيفية خلقها واستغلالها، كانت عبر ورقة بحثية قدمها الثنائي «لوك بورن» و«خافيير هيرنانديز» في مؤتمر التحليل الرياضي التابع لمعهد ماستشوستس في عام 2018.
الأول هو نائب رئيس قسم التخطيط والتحليل بنادي «ساكرامنتو كينجز» في الـ«NBA»، والثاني أحد محللي الأداء والبيانات بنادي برشلونة، وقد قررا تقييم المساحة وفقًا لموقع الكرة نسبة لمرمى الخصم وتمركز خط دفاعه. أما عملية احتلال المساحة فقسموها إلى نوعين: «active» عبر التحرك سريعًا وقبل الخصم تجاه المساحة، و«Passive» عبر المشي تجاه المساحة في الوقت الذي يبتعد فيه الخصم عنها.
لكن إلى الآن لم تخرج إحصائيتهما إلى الجماهير، لكن عندما يحدث ذلك ويقرر أحدهما تحليل مسيرة «توماس مولر» بنفس الفكرة، فبالتأكيد سيقدم لنا إثباتًا على احتمالية تقديم لاعب لمسيرة عظيمة بفضل عبقريته بدون الكرة لا بها، تحت عنوان «One of the best bad footballers of his generation».