هل يغير «هذا المساء» معادلة الدراما المصرية؟
كلنا نعرف الهيكل التقليدي لأي قصة، الذي يتكون من ثلاث مراحل، هي: البداية، والصراع، والنهاية، ولكن كيف يكون البناء على هذا الهيكل بناءً متماسكًا وجماليًا؟
اعتادت الدراما المصرية على الشكل البسيط من البناء الدرامي، حيث الأسباب تؤدي إلى النتائج بشكل مباشر، وحيث القالب السردي يسير بشكل خطي، مع الحفاظ على الالتواءات الدرامية من حين لآخر، والتقليدية الشديدة في رسم الشخصيات، بحيث يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
أما صناع «هذا المساء» فقد جنحوا إلى الخروج على التقليدية، واعتمدوا على بناء درامي مركب، فجميع التفاصيل لها دورها في التكثيف الدرامي، ويتداخل فيها الأبيض والأسود بدرجات مختلفة ليمنحنا العديد من الظلال الرمادية. فهل يكون هذا العمل غير التقليدي بمثابة الحجر الملقى في مياه الدراما الراكدة منذ سنوات؟
في هذا التقرير نحاول الإجابة على هذا السؤال، من خلال تتبع أبرز مواطن التجديد والتميز في سيناريو «هذا المساء».
Meet Cute أو «اللقاء الجذاب»
مصطلح «Meet Cute» هو مصطلح سينمائي بدأ استخدامه مع بداية الأربعينيات من القرن العشرين. ليس هناك مقابل بالعربية لهذا المصطلح، ولهذا سنطلق عليه «اللقاء الجذاب». ويشير هذا المصطلح إلى المشهد الذي يتلاقى فيه اثنان من أبطال العمل لأول مرة، مع احتمالية وجود علاقة رومانسية مستقبلية بينهما.
في الدراما المصرية، اللقاء الجذاب هو لقاء مسلم به، وكأنه أمر متعارف عليه بين المشاهدين وصناع العمل أن البطل والبطلة ﻻبد ستجمعهما علاقة رومانسية، وعليه فليس هناك أي داعٍ لبذل مجهود في كتابة هذا المشهد، أو ابتكار طرق جديدة للقاء. ولهذا يمكننا القول إن مشهد لقاء «سمير»، و«تقى» في مسلسل «هذا المساء» من أفضل مشاهد الـmeet cute في الدراما المصرية.
غالبًا ما يأتي اللقاء الجذاب في صورة صدفة جمعت بين البطلين، ولكن الصدفة وحدها لا تكفي لتطور المشاعر الرومانسية بين الطرفين، وهنا يأتي دور البناء الدرامي المركب، حيث إن التعارف بين سمير وتقى، وإن بدأ بالصدفة، إﻻ أنه جاء على مراحل متتابعة سمحت بتطور العلاقة، ومن ثم المشاعر بينهما.
الحلقة الرابعة
جاءت الصدفة في قسم للشرطة في الحلقة الخامسة، ولكن البناء لهذه الصدفة كان قد بدأ من الحلقة الرابعة من خلال تفصيلة صغيرة خارج سياق الحلقة نفسها، فبينما كان «أكرم» يتناول الطعام بمطعم عبلة -وهو خط درامي مختلف تمامًا- جاءته مكالمة هاتفية من أخته تخبره فيها عن سرقة حقيبتها وبعض المتعلقات. وتنتهي المكالمة ويواصل أكرم حديثه مع عبلة وسمير، ويواصل هذا الخط الدرامي سيره بشكل طبيعي.
الحلقة الخامسة
يطلب أكرم من سمير أن يذهب لقسم الشرطة لاستلام المتعلقات الخاصة بأخته، والتي علمنا بسرقتها في الحلقة السابقة، وأن يخبر رئيس المباحث أنه من طرف العميد «عادل رضوان»، وهذه تفصيلة صغيرة أخرى سيتم البناء عليها ﻻحقًا. وبوصوله للقسم يصادف تقى التي ذهبت للإبلاغ عن الشخص الذي يهددها، وأثناء انتظاره لاستلام المتعلقات، يسمع طرفًا من المكالمة التي دارت بينها وبين هذا الشخص الذي يقوم بتهديدها.
بعد خروجه من القسم يتابعها سمير بنظره من بعيد، ويراها تلقي بنفسها أمام إحدى السيارات، فيقوم بنقلها للمستشفى، وبعد انتهاء الكشف الطبي والمحضر بالمستشفى يقوم بتوصيلها، ويحتفظ ببطاقتها الشخصية، كذريعة مستقبلية للقائها مرة أخرى.
الحلقة السادسة
بعدما توصل لصفحة تقى على موقع فيس بوك في الحلقة الخامسة، يتصل بها سمير في الحلقة السادسة، يخبرها أنه احتفظ ببطاقتها بالخطأ أثناء عمل المحضر بالمستشفى، ويعرض عليها اللقاء لاسترجاعها، ويتفقان على اللقاء بميدان مصطفى كامل بوسط البلد، وهذه أيضًا تفصيلة صغيرة سيتم البناء عليها ﻻحقًا.
ويأتي اللقاء الثاني في ميدان مصطفى كامل، وبمجرد توقف سمير بسيارته في قلب الميدان يصيح به شرطي المرور من الطرف الآخر من الميدان أن الوقوف في هذا المكان ممنوع، فيشير سمير إلى تقى ويقول: «الآنسة هتركب بس وهتحرك على طول»، ثم يلتفت إلى تقى ويطلب منها ركوب السيارة، ولكنها ترفض بأدب وتطلب منه بطاقتها، وتحت إلحاح الشرطي، ورفض تقى، يستجيب سمير ويعطيها البطاقة ويخبرها -في محاولة أخيرة للحفاظ على خيط العلاقة الرفيع- «تليفوني معاكي لو احتاجتي حاجة كلميني».
الحلقة السابعة
بعد انقضاء الصدفة، واللقاء الثاني، يبدو للمشاهد أنه لم تعد هناك من سبل لوجود علاقة بين هاتين الشخصيتين، لنفاجأ في أحد مشاهد الحلقة السابعة بأن تقى ستقوم هي بنفسها بالاتصال بسمير وتطلب منه اللقاء. وفي اللقاء الثالث تسأله «هو حضرتك تعرف حد في البوليس؟».
وهكذا نرى كيف صمم صناع المسلسل مشهد اللقاء الجذاب بشكل غير تقليدي اعتمادًا على البناء الدرامي المركب، تفاصيل صغيرة تؤدي لتقدم الخط الدرامي، اللقاء في قسم الشرطة، إلقاء جملة «أنا جاي من طرف العميد عادل رضوان» على مسمع من تقى، تصميم مشهد اللقاء الثاني بطريقة تقليدية، ثم التلاعب بالمشاهد بإفساد هذا اللقاء وسد الطريق أمام سمير، ليأتي اللقاء الثالث غير متوقع اعتمادًا على تفصيلة صغيرة من حلقة سابقة، مما يزيد من جرعة التشويق للمشاهد، ويسمح بمسافة زمنية مناسبة لتطور العلاقة بين الشخصيتين، والتي ستتحول فيما بعد لعلاقة رومانسية.
النكتة الضمنية والحوار الذكي
الحوار في الدراما المصرية هو أكثر العناصر الفنية التي أصابها الترهل والضعف. الكثير والكثير من الأعمال الدرامية تبدو مستنسخة من بعضها البعض لتطابق حواراتها حتى وإن اختلفت حبكتها اختلافًا تامًا. بالإضافة إلى الاعتماد على الحوار المباشر، وخاصة في المرحلة الأولى، وهي مرحلة البداية والتقديم لعالم المسلسل أو العمل الدرامي، فيبدو الحوار وكأنه معلومات مجردة يتم صبها على المشاهدين، وتبدو معه شخصيات العمل وكأنها تتعرف على بعضها البعض لأول مرة.
على خلاف الأسلوب التقليدي، نرى هنا حوارًا ضمنيًا غير مباشر يمكن من خلاله قراءة الكثير من التفاصيل، عن علاقة عبلة بسمير، وكيف أن هذه العلاقة من القرب بالحد الذي سمح لها من خلال تعليق بسيط وعفوي «ربنا يسهل يا حاج.. إدعيلنا»، أن تلاحظ تغير موقف سمير من الزواج، وأن تقرأ بفطنة المرأة أن السر يكمن في علاقة رومانسية.
ويستمر الحوار في تأكيد هذه التفصيلة من خلال نكتة ضمنية تلقيها عبلة عندما تشير إلى سمير بـ«العريس»، وهي النكتة التي تتلقفها البنت الصغيرة «نور» بذكاء حين تبدأ بغناء واحدة من أشهر أغاني الزفاف.
نموذج آخر للحوار المتقن الذي يعكس البناء الدرامي المركب، في محاولته لإقناع سمير بأنه لم يتأثر بموافقة عبلة على الزواج من أكرم بعد أن رفضت عرضه، يقول سوني بعفوية: «يا رب يسعد أوقاتهم ويرزقهم…» ثم يقطع كلامه فجأة بعد أن يقرأ تتمة هذه الجملة بعقله قبل لسانه، المشاهد أيضًا يعرف تتمة هذه الجملة، أو هذا الدعاء التقليدي لأي عروسين، بأن يرزقهم الله بالذرية الصالحة، ولكن سوني يعرف أن عبلة عاقر، فيقطع دعائه ويستبدل به دعاء آخر.
معلومة مهمة في السياق الدرامي (كون عبلة عاقرًا)، سبق أن قدمها السيناريو في حلقات سابقة، ولكنه يحتاج للتأكيد عليها مرة أخرى لما سيكون لها من أهمية في التحول الدرامي في مرحلة الصراع، فكيف تعطي المشاهد نفس المعلومة مرة أخرى بدون أن تأتي على ذكرها؟ الإجابة؛ من خلال الحوار الضمني الذكي.
من يعرف أكثر؟
يقول هتشكوك إن واحدة من أهم قواعد الـsuspense أو التشويق أن المشاهد يعرف أكثر من الشخصية، ولكن هل يكون العكس أيضًا صحيحًا؟
اعتمد سيناريو «هذا المساء» على هذا الأسلوب في زيادة جرعة التشويق، وكرره أكثر من مرة على مدى الحلقات، وفيه يعرض على المشاهد تطورًا دراميًا في مرحلة التصاعد، بحيث نجد الشخصية في منتصف أزمة ما ﻻ نعرف عنها شيئًا، ويساهم الحوار الذكي في إضفاء الغموض على تفاصيل هذه الأزمة، وفي حين يبدو أن الحل الأسهل والأمثل هنا هو اللجوء إلى الـ flash back، فإن الأحداث تستمر في التقدم، لتنكشف لنا الأزمة من خلال تطورها، أي من خلال التقدم للأمام وليس بالرجوع للخلف.
في المشهدين السابقين نتابع الحوار بين سمير وأكرم، ثم بين سمير وعبلة، ولأن المشهد يبدأ من مرحلة متقدمة، ﻻ يعرف المشاهد ما هو طلب أكرم الذي يبدو غير اعتيادي، ويزداد التشويق بسؤال عبلة في المشهد الثاني «يجوز شرعًا؟»، ويظل المشاهد على هذه الحالة من الترقب لآخر الحلقة، حينما يعرف أن طلب أكرم هو أن يكون سمير وكيله لعقد القران، حتى ﻻ يضطر أكرم للحضور بنفسه. وبالرجوع لسؤالنا فالإجابة هي: نعم، قد يكمن التشويق في أن الشخصية الدرامية تعرف أكثر من المشاهد.
مسلسل «هذا المساء» من أنجح الأعمال الدرامية في الموسم الرمضاني الماضي، إن لم يكن أنجحها وأفضلها على الإطلاق. وﻻ يقتصر السبب وراء هذا النجاح في الحبكة المتقنة، والقصة المشوقة، ولكن في الخروج على التقليدية، والجنوح للتجديد والابتكار، سواء من خلال البناء المركب على مستوى القالب السردي، أو رسم الشخصيات، أو من خلال الحوار الذكي المبتكر، وتكثيف جرعة التشويق حتى من خلال التفاصيل البسيطة.
ولكل هذه الأسباب وغيرها، يمكننا القول إن مسلسل «هذا المساء» تجربة مهمة قد تمثل نقطة تحول ونقلة نوعية على مستوى الدراما المصرية في المستقبل.