كذا يفعل السادة
الطبيب الشاب محمود يتلقى استدعاء من رئيس القسم. يترك المرضى الذين يحاول إنقاذ حياتهم، ويهرع مذعورًا ليدخل الغرفة الفسيحة متوقعًا أن يُلام لأنه قتل المريضة .. أي مريضة؟.. لا يعرف .. لكن هناك واحدة دائمًا ..
يرى رئيس القسم جالسًا خلف المكتب، وأمام المكتب يجلس رجل متأنق متغطرس يبدو أنه اعتاد السيطرة .. يبدو واضحًا أنه ينتمي بشكل ما لوزارة الداخلية. طريقته الآمرة وتدخينه يدلان على ذلك. وللمرة الأولى يرى أن رئيس القسم منكمش متضائل. يذكر هذا د. محمود بالحقيقة التي طالما فكر فيها: بعض الضباط يحقدون على الأطباء ويتمنون لو أنهم درسوا أكثر في الثانوية العامة ليدخلوا كلية القمة هذه، وبعض الأطباء يهابون الضباط ويخشونهم، ويتمنون لو أنهم كانوا أقوى بنية ولديهم واسطة في الداخلية ليتمكنوا من أن يصيروا ضباطًا.
-«العميد فلان بيه. سوف نستخرج له تذكرة دخول باعتباره مريضًا بتليف كبدي متقدم ..»
لم يفهم د. محمود إلا بصعوبة. العميد يريد بعض الأدوية الغالية والتحاليل على نفقة الدولة. لسبب ما لم يستطع الحصول على هذه الخدمات من الشرطة. سيقوم د. محمود باستخراج تذكرة له، لكن عميد الشرطة لن يتواجد في المستشفى .. سيأخذ إجازة لبعض الوقت في داره، ولسوف يكتب له د. محمود الأدوية الباهظة التي يريدها.
طبعًا لم يستطع طبيبنا الاعتراض، فهذه أوامر من رئيس القسم نفسه وهو الذي يشرف على رسالة الماجستير الخاصة به، وهو الذي سيمتحنه. في الجامعة لا يمكنك أن تكون شجاعًا وعاملاً في الوقت نفسه .. هناك دائمًا الشجاع المستقيل كما تعلم.
تم الأمر واختفت التذكرة في خزانة د. محمود. فقط في كل يوم (يمر على المريض) ويدون ضغط الدم والحرارة ثم يكتب العلاج. ومر الوقت.. بعد ثلاثة أسابيع حدثت مشكلة معينة لا أذكر تفاصيلها، والنتيجة هي أن مدير المستشفى عرف بأمر هذه التذكرة الزائفة، وأرغى وأزبد وأرسل في طلب الطبيب المقيم.
الممرضة التي نقلت الخبر لدكتور محمود قالت له في حسرة:
-ـ«للأسف .. الصغير هو (اللي بيروح في الرجلين).. ربنا يصبرك!»
هرع لمكتب رئيس القسم وقال له إن مدير المستشفى ينتظره في مكتبه، وقد أعد الحبل الغليظ والشاطور والسكاكين والتوابل وأشعل الفحم. امتقع وجه رئيس القسم، ونصح د. محمود بأن يهدأ ويتماسك.. لكن ليحاول أن يبعده – هو رئيس القسم – عن القصة كلها. ثم هتف في حماسة وهو يضرب المنضدة بقبضته:
-ـ«اذهب .. وثق أننا هنا معك .. لا تخف!»
هكذا انطلق الطبيب الشاب حاملأً التذكرة لمكتب المدير، وقد بدأ يشيخ بضعة أعوام ونمت لحيته وانحنى ظهره.. على الأرجح لن يقبل المدير عبارة: «لقد ارغموني على ذلك». لكن الأخير كان متفهمًا شديد الدهاء. لذا سأل الطبيب الشاب بمجرد دخول مكتبه:
-«رئيس القسم أرغمك على هذا.. أليس كذلك؟»
هز الطبيب رأسه موشكًا على البكاء، فقال المدير:
-«وفي اللحظة الحرجة يتوارى ويتركك لألتهمك أنا.. والسبب هو مجاملة صاحب رتبة مهمة في الشرطة. كلها مجاملات وكلها أمور تثير الاشمئزاز»
ثم كتب بعض الكلمات في وريقة:
-ـ«سوف يتم تحقيق صوري معك ينتهي غالبًا بتوجيه اللوم لك. فأنا أعرف جيدًا أنه لا ذنب لك»
عندما انصرف د. محمود غير مصدق، قال لنفسه: -«كذا يفعل السادة».
كانت هناك قصة جميلة لتشيكوف عن ترزي فقير جاءه جنرال مهم جدا وطلب منه أن يفصل له بذلة أنيقة. وأمره بأن يبتاع هو القماش ويكلف كل شيء، فأجره سيكون سخيًا. استدان الترزي وابتاع لوازم بدلة الجنرال، وراح يعمل ليلاً نهارًا وهو يحلم، حتى صنع البذلة وحملها للجنرال. الآن جاء دور محاولاته الذليلة للحصول على أجره. لا جدوى .. في كل مرة يطرد أو يزعم سكرتير الجنرال أن سيده متغيب. بعد شهرين وجد الجنرال خارجًا من حانة وهو يلبس نفس البذلة. لقد اتسخت وتمزقت وبلّلها الخمر، فقال لزوجته: «هكذا يفعل السادة .. لو أن أي شخص حقير منحط مثلنا لديه هذه البذلة لعاملها كأنها شيء ديني مقدس، لكن هذا الجنرال ابن عز وبوسعه أن يتلف بذلتين كل يوم». ثم ذهب للجنرال وطلب منه في خجل أن يدفع له ماله، هنا أطلق الجنرال السباب: «أنت أفسدت مزاجي أيها الترزي القذر!!» ، ووجه صفعة للترزي ثم ركله في مؤخرته بعنف. سقط الأخير على الأرض فهرعت زوجته تساعده. قال لها وهو يضحك في فرح: «كذا يفعل السادة.. نفس الشيء حدث لي مع جنرال بتروف وجنرال زيكورفتش.. فصلت بذلة فاخرة لكل منهما وعندما ذهبت للحصول على الأجر .. هوب !.. بان !.. تلقيت ركلة في مؤخرتي . هكذا يفعل السادة دائمًا. لا يدفعون أبدًا ما عليهم من مال!».
عشت موقفًا مماثلاً في المستشفى الذي أعمل به منذ أعوام طويلة. كانت هناك جلسة طويلة قام بها بعض الأساتذة (وكنت منهم)، وتمت فيها محاسبة الأطباء المقيمين، لأنهم حطب جهنم.. حفنة أوغاد بلا ضمير .. لا يجيدون سوى قتل المرضى. يعتنقون فلسفة واحدة هي الإهمال، وقد راح كل واحد فينا يحكي عن تضحياته من أجل المرضى عندما كان طبيبًا مقيمًا.
من أين يأتي هذا الدخان؟ لم يستغرق الأمر دقيقة حتى ملأ الغرفة مع السعال، وصار من الصعب أن ترى يدك، وصاحت ممرضة في مكان ما بالكلمة السحرية: «حريقة!». الكلمة التي تفجر أنهار الأدرينالين في العروق. في أمريكا ينصحون المرأة التي تتعرض لمحاولة اغتصاب أن تصرخ (حريق!) فهذا يلفت نظر الجميع، بينما لا يهتم أحد بسماع كلمة (اغتصاب)!!
فتح أحدهم نافذة في مكان ما فصارت الرؤية ممكنة بشكل ما، وسرعان ما انطلق الأساتذة مغادرين القسم، وليركب كل منهم سيارته ويختفي كالبرق. لقد أنجز أعمال اليوم والحمدلله.
كنت قد أدركت أن النار لم تأت من داخل القسم ولكن من الممر الضيق بين القسم والفناء الخلفي له،وهكذا كان ذعري أقل، ورحت أراقب ملحمة الأطباء المقيمين وبعض شباب هيئة التدريس والممرضات، وهم يخلون أسرة المرضى المذعورين ويساعدونهم على نزول الدرج. وتعاونت الممرضات على حمل المرضى غير القادرين على المشي، بأن أجلسنهم على مقاعد وتعاونت أربع منهن على إنزالها. وجاء عمال القسم بخرطوم مياه يمررونه من يد ليد، فرأيت زميلتنا تقف مع من يمررون الخرطوم الثقيل، وبدا لي حماسها زائدًا مبالغًا فيه. قلت لها ما معناه إن لها كأنثى شأنًا غير هذا، فقالت في هستيريا وعيناها دامعتان:
ـ«المرضى سيحترقون !.. المرضى سيحترقون !»
رحت أراقب الأطباء المقيمين حطب جهنم وهم يلعبون دور ملح الأرض فعليًا.. تروس القسم التي تظل تعمل حتى بعد رحيل الأجزاء الكبيرة. ولولاهم لمات المرضى مختنقين في أسرتهم، وتساءلت أين ذهب من كانوا يوجهون اللوم منذ ساعة واحدة. ثم شعرت بإعجاب شديد بهؤلاء الذين رحلوا مبكرًا .. فكذا يفعل السادة دائمًا..
بعد دقائق بدا أن عنصر الماء قد انتصر على النار.. نبيتون قد قهر هيفايستوس أخيرًا .. لكن السادة لن يعودوا اليوم.