رحلة إلى الصين: 30 يومًا في المستقبل
يعود «مصطفى عبادة» إلى أدب الرحلات الشيق، الذي نفتقده كثيرًا في كتابتنا الأدبية المعاصرة، ليكتب عن رحلته إلى الصين في كتابه الجديد الذي اختار أن يسميه اسمًا دالاً هو «ثلاثون يومًا في المستقبل» والصادر حديثًا عن «مؤسسة بتانة».
يتحدّث عن تلك الرحلة التي انغمس فيها بوجدانه كليًا، والتي رأى فيها بنفسه كيف يعيش هذا الشعب العظيم، وكيف استطاع أن يتغلّب على هزيمته الكبرى في الحرب التي شنتها عليه اليابان (1945)، وكيف تعرّف على نفسه وأدرك أنه شعبٌ متخلّف عن ركب الحضارة والتقدم، وكيف استطاع في سنواتٍ قليلة أن يقفز ليس إلى مستوى العالم المتقدّم فحسب، بل إلى المستقبل فعلاً!
يقسّم الكتاب إلى واحد وعشرين فصلاً، يتناول فيهم جوانب مختلفة من حياة المجتمع الصيني كما رآها وعايشها عن قرب، يتحدث في فصل «بوابات الألفة» عن أربع شخصيات صينية قابلها هناك، عكسوا له مفهومًا جديدًا عن التسامح والجمال، كما كشفوا له عن طبيعة تعامل «الصين» الدولة العلمانية مع «المسلمين» وكيف تساعدهم في ممارسة شعائرهم بلا أي اضطهادٍ أو تفرقة، وهم في ذلك مثل غيرهم من الديانات والأعراق، بل إن الصين تحتوي على خمس ديانات كبرى يعيش أفرادها جميعًا في وئامٍ وسلام، لا يعتدي أحدٌ على الآخر ولا يسخر منه، وإن فعل أحدهم ذلك فالقانون يكفل له حقه مباشرةً دون تسويفٍ أو تعاطف، وبذلك تحقق «الصين» سلامها الاجتماعي ورخاءها الاقتصادي بالقانون.
وفي فصلٍ آخرٍ سمّاه «هل تشرب ماءنا» يتوقف الكاتب عند المعبد البوذي، ليرصد كيف يحوي هذا المكان المختلف عنه عقائديًا ودينيًا ذلك القدر من الصفاء الروحي النادر، وكيف اعتبره نموذجًا حقيقيًا لثقافة التسامح التي يبدو أنها تسري في جميع ديانات الصين وأفراد شعبها، وكيف أن مفهوم «الخطيئة» عندهم أمرٌ شخصي لا يعني أحدًا، ومفهوم الطبيعية الأخلاقية الذي يعني أن الكون والطبيعة من حولنا أخلاقية قائمة على الطهر والنقاء وعدم الخبث، فيجب علينا أن نحافظ عليها كذلك ولا نشوهها بممارساتنا الخاطئة.
يبدو إعجاب «مصطفى عُبادة» بالصين في الكتاب كبيرًا، وهو في الوقت نفسه إعجابٌ له ما يبرره، ذلك أنه يرى بنفسه ويتعامل مع أشخاصٍ يبدون أمامه كالحلم، يتحدث عن اهتمامهم بكل الثقافات والأعراق التي مرّت على أرضهم، فيغبطهم على أنهم يريدون لو أنشئوا لكل شيءٍ عندهم متحفًا، بل إنهم يبالغون في الاحتفاء بمتاحفهم تلك ويعرفون قيمتها جيدًا من كبارهم إلى صغارهم، وكثيرًا ما استوقفه منظر الأجداد والأحفاد معًا يتشاركون متعة مشاهدة تلك المتاحف والتعرف عليها.
في فصلٍ خاص بعنوان «صباح الخير أيها المستقبل» يتحدث عن متحف «الكنولوجيا والحياة المعاصرة» الذي يوثق الماضي ويضع الزائرين وجهًا لوجهٍ أمام المستقبل، وفيه تصورٌ مذهل لكيف سيكون العالم بعد عشر سنوات، وذلك في عددٍ من المجالات بدءًا بتقنية الأقمار الصناعية والأسلحة، مرورًا بباطن البحار وجسم الإنسان وصولاً إلى التكنولوجيا الحديثة التي ستكون ملازمة للسيارات والطائرات، وأجهزة الذكاء الاصطناعي الذي يتوقعون أن يفوق ذكاء الإنسان بمراحل!
لاشك أن الحديث عن تطوّر «الصين» وازدهارها ووصولها إلى ما وصلت إليه يستدعي تلقائيًا نظرة على أحوال العرب اليوم وما هم فيه في بلادهم من «تخلف» ورجعية ومشكلات يتم الحديث عنها باستمرار دون أن يقترب منها أي حل، وما نغرق فيه باستمرار من فوضى وعشوائية وتخريب مقصود ومتعمّد للنفوس والعقول ـ على حد تعبيره ـ ولعل كتابةً كهذه ورحلة كتلك تدفع بالقارئ إلى إعادة التفكير في كثيرٍ من أمور حياته، وتجعلنا ندرك أن «الصين» ليست بعيدة عنَّا إلى هذا الحد، بل ربما تكون أقرب وأرحم بنا من ذلك الغرب الجشع الرأسمالي الذي لا يريد قوّة ولا سيطرة للعالم غيره!
من جهةٍ أخرى يعكس حديث «مصطفى عُبادة» في هذا الكتاب فكرة مهمة جدًا، وهي أننا ما زلنا بحاجة ماسّة إلى الاتجاه شرقًا بقوّة، وإلى التعرّف على ثقافات وطبيعة المجتمع الشرقي الأقرب إلينا مما سواه بأنفسنا، وليس من خلال ما يبثه ويذيعه وينشره الآخر/ الغربي الكاره له في أحوالٍ كثيرة عنه.
وعلى الرغم من تتويج «نوبل» في الأدب للروائي الصيني «مويان» منذ خمسة أعوام (2012) إلا أنه يبدو أن الأدب الصيني لم يصل إلى القارئ العربي بنسبة كبيرة، رغم أن هناك ترجمات عديدة لعددٍ من الأدباء الصينيين منذ ذلك الوقت، ربما كان آخرها رواية «مساج» للأديب الصيني «بي في يو» الصادرة مؤخرًا في سلسلة الجوائز عن الهيئة المصريّة العامة للكتاب.