الكذبة الثالثة: سحر البساطة
يقول الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف:
وتوازن الكاتبة الهنغارية «أغوتا كريستوف» في رواياتها بين الأسلوب البسيط ومتانة المضمون والبناء الشكلي، إذ تتميز لغة صاحبة (الأمس) بسلاسة بعيدة عن الالتواء؛ لذلك ما تقدمه في أعمالها من المشاهد والمواقف تظل ماثلة في ذهن المتلقي، نظرا لما يكمن في اللغة من قوة إيحائية مؤثرة، تكمل في روايتها الموسومة بـ(الكذبة الثالثة)، منشورات الجمل 2016، سيرة الطفلين اللذين ظلا مجهولي الاسم في الجزء الأول من ثلاثيتها (الدفتر الكبير).
في (الكذبة الثالثة) يتناوب شقيقان على رواية الوقائع في معظم أجزاء الرواية، باستثناء مقاطع محددة تسند فيها وظيفة السرد إلى الراوي المراقب، كما يتبادل التؤامان اسميهما، بحيث يحمل لوكاس الذي يفترق عن أخيه كلاوس اسم الأخير، وهو بدوره يتبنى اسم الأول، إذ يدرك المتلقي من خلال متابعة سلسلة الأحداث أن من يحكي في مفتتح الرواية هو كلاوس عقب عودته إلى مدينته.
وذلك يتضح أكثر من الحوار الدائر بين كلاوس وسجانه، إذ بعدما تتوثق علاقة الصداقة بين الاثنين يطلب كلاوس قبيل مغادرته السجن من سفارة البلد الذي اتخذه موطنا جديدا تسديد ديونه، ومنها المبالغ التي خسرها في لعبة الورقة مع الحارس، الذي يقول له إن رزقت ولدا فسأعطيه اسمك، غير أن العائد إلى المدينة يوصيه بتسمية المولود باسم شقيقه (لوكاس).
وتتضح دلالة العنوان أيضا من خلال ما ينقله لك الراوي المفارق بأن لوكاس أعطى المستجوب ثلاث أجوبة خاطئة بعد عبوره الحدود، أولا ذكر أن اسمه كلاوس، ثم كبر سنه، كما لم يكن الشخص الذي سبقه في العبور ولقي حتفه إثر انفجار اللغم به والده.. يذكر أن العنوان هنا بمثابة مفتاح تأويلي يدمج المتلقي في تضاعيف النص.
تداخل العقد
تخرج شخصيات الرواية من مستويات سطحية وتصبح متعددة الأبعاد، كما لا تبنى القصة على عقدة واحدة، بل هناك ثيمات وعقد مختلفة يجمعها سياق واحد، إذ تتمثل وظيفة العقدة في مواكبة الفعل الذي يحدد نظام تطور الحكاية وتفاعل شبكة العلاقة بين الشخصيات، فنجد في (الكذبة الثالثة) عدة قصص تتجاور لترفد الموضوع الأساسي، وهو ما يتمخض من الحرب والواقع الذي تتبين تقاسيمه عقب صراعات دامية، فيكون الحنين إلى المدينة التي نشأ فيها التوأمان منطلقا لإبانة عجز الإنسان عن استبدال هويته، وذلك ما يتجسد في عودة كلاوس إلى منزله، وتطوافه في الأماكن التي احتوت ذكرياته في مرحلة الطفولة، بجانب ذلك ينصب اهتمام الكاتبة على تصوير البيت وما يضمه من الأغراض.
هذا وتحاول مؤلفة (الأمية) تشخيص حالة تشظي الهويات الإنسانية إثر الحروب من خلال تبادل اسمي بطليها، الأمر الذي لا يخلو من الالتباس بالنسبة للمتلقي، خصوصا في مطلع الرواية قبل أن ينجلي الغموض عن لعبة الأسماء.
هنا في هذا الجزء من ثلاثية «أغوتا كريستوف» لا تنفك ثيمة الحب تتكرر في فضاء الرواية، وما يكون أكثر تشويقا هو الحب القائم بين والد الطفلين والراقصة أنطونيا، وذلك يستتبع وقائع أخرى، كمقتل الزوج على يد زوجته، التي تدخل المصحة العقلية بعدما أصابت أحد طفليها بالرصاص، فالأخير يقضي مدة في مركز التأهيل الجسدي إلى أن يغيب عقب قيام الحرب، ومن ثم تتبنى العشيقة كلاوس، وتنشأ علاقة من نوع الحب المحرم بين ابنة أنطونيا وكلاوس، إلى أن تخبره بأن سارة هي أخته؛ لأنها حملت من والده قبل أن يقتل.
هكذا تتوالى حلقات الرواية في مناخ مثخن بآثار الحرب، إذ ينتقل كلاوس إلى مدينة «س»، وهنا تدخل شخصيات جديدة ضمن سياق القصة، وتمد المشاهد المكونة من تفاصيل البيئة زخما لأحداث الرواية، فضلا على ذلك تتضافر مشاهد حلمية في بناء السرد، وتتوارد المؤشرات التي تيسر للقارئ ربط هذا العمل بما سبقه من مؤلفات روائية.
التنكر الماضي
قد يتجاهل الإنسان إرث الماضي ولا يحبذ تغيير نمط حياته بما يصله من الماضي، وهذا ما يعمل عليه بطل رواية «أغوتا كريستوف»، إذ يتنكر كلاوس لأخيه لوكاس، فالأخير يصر على رؤية شقيقه ومعرفة أوضاع أمه، وتؤتي جهوده في هذا المجال ثمارها، وذلك لا يمنعه من أن يعهد بأوراقه ودفاتره إلى أخيه، ولا تنفك الأم تنادي لوكاس وتذكر كلاوس بما يتحلى به أخوه من الذكاء والتفوق في اختياراته.
وبخلاف أخيه فإن لوكاس تهمه العودة إلى تفاصيل حياته الماضية، وعندما يخفق في هذا الأمر ينتحر، هنا تتناسل الأسئلة حول الأسباب وراء إقصاء كلاوس لأخيه عن حياته مع أنه ينشر أشعاره باسمه، هل يمكن تفسير ذلك بأن كلاوس يحمل آراء المؤلفة التي لا تريد اقتحام ماضيها إلى الحاضر، ومقتنعة بأن المرء لا ينزل في نهر الماضي مرتين.
أيا كان السبب، فإن ما تلمسه بوضوح هو أن صاحبة (الدفتر الكبير) توظف ما تراكم لديها من تجارب مع التغرب وإشكالية الهوية وما تعلق بذهنها من صور موطنها الأول في إطار أعمالها الروائية، كما تجسم «أغوتا كريستوف» من خلال نصوصها أهوال الحرب وما تتركه من الندوب في أعماق الإنسان، بحيث ما عاد بمقدور الكائن الإنساني أن يعيش في أطواره الطبيعية عندما تفتح فوهة جحيم الحرب.. وبذلك تنزل جل أعمال الكاتبة في صنف أدب الحرب الذي صار مدونا موازيا للتاريخ الرسمي.