تمرد الجيل الثالث: لماذا تشتعل الضفة الغربية اليوم؟
تحوّلات ميدانية متسارعة وغير مسبوقة. مظاهر لغضب يمكن أن يؤدي لانفجار كبير. حول هاتين الجملتين دارت العديد من التحليلات الإسرائيلية والغربية أثناء تناول وضع الضفة الغربية في الأسابيع القليلة الماضية. ارتفعت الأصوات في أوساط التابعين للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية محذرةً من احتمالية خسارة الاستقرار الثمين في الضفة الغربية. باربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأوسط، عقدت العديد من الاجتماعات في الأيام القليلة الماضية مع يال حولاتا، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، بشأن الضفة الغربية أيضًا.
كل هذا المخاوف والتحذيرات تأتي بسبب زيادة قوة وحجم المقاومة للاحتلال في الضفة. ففي الأيام الماضية ارتقى العديد من الشهداء بسبب المواجهات التي حدثت في أنحاء متفرقة في الضفة. مثل ما حدث في مخيم عايدة، شمالي بيت لحم. قتلت فيه قوات الاحتلال طفلًا يبلغ 8 أعوام برصاصة في الرأس. وأصابت العشرات من الفلسطينيين. قبل تلك المواجهة كان الاحتلال الإسرائيلي قد قتل 4 مواطنين، وأصاب 45 آخرين في مخيم جنين.
وصادرت قوات الاحتلال عشرات الآلاف من الشواكل من بيوت سكان الضفة. التصريحات الإسرائيلية قالت إن تلك الأموال كانت مرصودة للعمليات العسكرية. وقالت إن القوات الإسرائيلية تعرضت لإطلاق نار في برقة، لكن دون وقوع إصابات.
الجانب الإسرائيلي منزعج من تلك المقاومة التي بدأت تتخذ شكلًا مسلحًا، قد يؤدي في نهاية المطاف، في أسوأ السيناريوهات المتوقعة إسرائيليًا، إلى مواجهة شعبية. يتجلى هذا الخوف في عمليات المداهمة الواسعة التي تقوم بها قوات الاحتلال في الضفة. مع المداهمات العديد من التصفيات الجسدية والاعتقالات.
ولم يقتصر الأمر على مجرد المداهمات المفردة بل اتخذ الأمر شكلًا منظمًا تحت اسم عملية كاسر الأمواج في مارس/ آذار عام 2022. تلك العملية هي الأعنف والأطول منذ عملية عام 2000 التي قادها شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك. وأُطلق عليها عملية الجدار الواقي، وفيها حاصر شارون الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله.
الذئاب المنفردة تبحث عن قطيع
لكن أن يكون الفاصل بين العملتين الكبيرتين مقاربًا للعشرين عامًا، يعني الأمر ونقيضه. يعني أن الضفة تتمع بهدوء نسبي عن باقي مناطق فلسطين. ويعني كذلك أن الضفة يمكن أن تكون على أعتاب مرحلة تخرج فيها من هذا الهدوء. والأهم، والذي يمكن قراءته من مدى العشرين عامًا، أن هذا الخروج لن يكون وليد اللحظة. بل هو فعل تراكمي عبر السنين والأحداث.
ربما يكون توقع أن تؤدي القلاقل في الأسابيع الماضية إلى انتفاضة ثالثة توقع مبالغ قليلًا. فالضفة تحتاج للمزيد من الوقت كي تنقلب على الهندسة شديدة التعقيد التي أخضعها لها الاحتلال عبر السنوات الماضية. لكن لا يمكن إنكار أن الضفة حاليًا تعيش واقعًا يختلف عن حالها قبل عشر سنوات مضت. وأن الواقع السياسي السائد فيها قد شهد تحولًا عميقًا يجعل من غير الصحيح بصورةٍ ما مقارنة ما يحدث اليوم بما اعتادت عليه الضفة من هبّات سابقة.
ففي الهبّات السابقة كانت الضفة سريعًا ما تعود إلى حدود واقعها المرسومة بدقة، ولا تخرج عنه. لكن المقاومة لم تغب عن الضفة تمامًا. فمنذ دخول السلطة الفلسطينية لمسار السلام شهدت الضفة أحداثًا مفردة مثل هبّة النفق وهبّة الأسرى. ثم بدأت العمليات التفجيرية في العمق الإسرائيلي. لتحدث بعدها المواجهة الأكبر في الانتفاضة الثانية بمشاركة حركة فتح والقوى الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.
ساد الهدوء بعدها، لكنه كُسر بعد عام 2011، وبدأت عمليات الذئاب المنفردة، كما سمّتها إسرائيل. وأتى عام 2014 بالشكل الأقرب لشكل المقاومة حاليًا المتمركز في نابلس وجنين. لكنه كذلك آخذ في الاضطراد في مناطق أخرى في الضفة. ولعل إدراك هذا هو ما دفع الاحتلال إلى تشديد الحصار على غزة، لإشغالها بنفسها ومحاولة تحجيم ومنع تأثيرها على الضفة. فقد أسهم الانقسام السياسي في تغييب حماس عن الضفة، وفُككت كتائب شهداء الأقصى، الذراع العسكرية لفتح، بوسائل شتى.
مقاومة تتسامى على التنظيمات
غياب الإطار الحزبي كان له تأثيران متناقضان. الأول أنه هدأ من حدة العمل المقاوم للاحتلال. لكن الثاني أنه جعل المقاومة فعلًا شعبيًا متجاوزًا للأحزاب. فلم يعد شعب الضفة مجرد حاضنة لرجال المقاومة، كما يمكن أن نصف باختصار مُخلٍ حال بعض سكان غزة، لكن بات سكان الضفة هم مصدر المقاومة. كما قال إلون بن ديفيد، المحلل العسكري الإسرائيلي، أن كل يوم في الضفة الغربية يمثل وجهًا جديدًا لانتفاضة من نوع آخر، انتفاضة يقودها جيل ثالث تستعد إسرائيل لمواجهته في عالم يخلو من وجود الرئيس الفلسطيني.
ما سبق يشير إلى حقيقة واحدة، المقاومة لم تمت في الضفة يومًا. كانت موجودة دائمًا طوال سنوات الهدوء والتنسيق. ما يقودنا إلى سؤال آخر، ماذا تغيّر إذن في هذه المرحلة عن السنوات السابقة؟
ما تغير هو النظام الفلسطيني نفسه. والحالة السياسية التي يحدث فيها هذا الفعل المقاوم. في الظروف الراهنة يصبح للفعل المقاوم القدرة على إحداث تأثير أكبر. وهو ما يبدو مزعجًا للاحتلال والسلطة الفلسطينية على حدٍ سواء. فالسلطة الفلسطنية قبل ثلاثة عقود أو عقدين أو عقد، كانت سلطة لها تجليّات كثيرة. العمل المؤسسي كله، والأهلي، والمدني، وحتى البيئة الثقافية التي تواجدت مع السلطة الفلسطينية في مرحلة سابقة، كان كلها منظومة متناغمة تؤمن بخطابات أوسلو، وتعتقد اعتقادًا حقيقيًا بما تقوله الدولة الفلسطينية التي ترى السلام آتيًا من عملية السلام الحوارية.
كانت كل تلك الكيانات مدعومة بشكل مباشر وغير مباشر. حكوميًا ودوليًا، وعربيًا كذلك. والأهم أن جموع المواطنين كان لديهم ظن حسن في تلك المؤسسات، وأنها قد تحقق لهم ما يعجز السلاح عن تحقيقه. أو على الأقل قد توفر لهم أوضاعًا معيشية واجتماعية واقتصادية أفضل. لهذا كانت الهبّات في الضفة لها أسبابها الحياتية، وتنتهي سريعًا دون أن تحقق انتصارًا ضخمًا كالذي تحققه المقاومة في غزة.
لذلك كانت النظرة لما تقوم به الضفة أنه أمر بسيط على الحاشية. أما المتن والمركز فماض في تنفيذ تفاهماته مع الاحتلال. لهذا لم تكن إسرائيل قلقة سابقًا مما يحدث، أو يمكن أن يحدث في الضفة، ليس ضعف الفعل المقاومة، إنما ثقةً في رسوخ السلطة، وقوة المنظومة الفلسطينية. فكانت الحاضنة الثقافية والأهلية للسلطة الفلسطينية هى ما تطمئن الاحتلال أن ما يحدث في الضفة لن يصل يومًا إلى مرحلة الانقلاب الكامل على كل التفاهمات المتراكمة عبر الأيام.
سلطة بلا حاضنة
فمقتل عرفات مثلًا كانت بمثابة غياب الشخص الأبرز والواجهة الأهم لثقة الناس في أوسلو. وحدوث الانتفاضة الثانية كسر للأبد كل تفاهمات أوسلو، وعاد بالناس وإسرائيل للمربع الأول. وأتى الاجتياح الإسرائيلي للضفة ليعيد خلق السلطة الفلسطينية كي تستأنف ما فعلته السلطة السابقة. لكن السلطة الناتجة كانت سلطة مقتولة ماديًا ومعنويًا.
إسرائيل بالسياسة الاستطانية الغاشمة أثبتت للفلسطينين جميعًا أن حل الدولتين ليس مطروحًا على أرض الواقع. رغم أن هذا الحل هو في الأصل أساس وجود كيان يُسمى السلطة الفلسطينية كي تعمل على تأسيس الدولة الفلسطينية. جو بايدن ودونالد ترمب لم يستخدما في خطاباتهما، حتى الآن، مصطلح الالتزام بحل الدولتين، أو العمل ضمن حل الدولتين. بل بات التعامل مع إسرائيل فحسب كدولة واحدة.
ترتب على ذلك أن إسرائيل باتت تعامل السلطة الفلسطينية اليوم بشكل مختلف عما كانت تعاملها به قبل عقدين أو ثلاثة. السلطة اليوم باتت مجرد مؤسسة تدير حياة الناس وتضبط الأمن. وحتى إدارة حياة الناس فقد فشلت فيه السلطة. فمعظم إضرابات الضفة سببها تردي الوضع المعيشي واتساع الفجوة بين الناس والسلطة.
بالتالي لم تعد السلطة قادرة على اختراق قلوب الناس ولا عقولهم. لم يعد لديها كاريزما عرفات ولا كلماته التي تمكنها من احتواء الشارع. فلجأت للحلول الأمنية القمعية. ففي تصريح له في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2022 طالب محمود عباس القوات الأمنية بالمزيد من التشدد والحزم وحفظ النظام. ما يعني أن ازدياد المظاهرات سيؤدي إلى زيادة القمع، ما يؤدي إلى تظاهرات أكبر. والعنف الموجهة للسلطة قد يتوجه للاحتلال ككل في أي لحظة.
الجيل الثالث يتمدد
العامل الأبرز في تلك التغييرات هو الجيل الجديد. هذا الجيل الذي تجد شبابه على رأس الحركات المقاومة في نابلس وجنين. بينما آباؤهم وعائلاتهم يحتلون مناصب رفيعة في السلطة الفلسطينية. هذه الصورة وحدها كفيلة بالدلالة على الفجوة بين الأجيال. وعلى غياب حضور السلطة حتى في بيوت أعضائها.
وهو أيضًا ما جعل العديد يثقون في هؤلاء الشباب المتصدر، فباتت تلك الحركات المتجاوزة للأطر والأحزاب تخلق لنفسها، دون قصد، حاضنة شعبية جديدة. هذا الانقسام سيؤدي لمواجهة حتمية بين السلطة الحاكمة والحاضنة الشعبية. وستكون السلطة خاسرة في تلك المواجهة، حتى لو انتصرت عسكريًا. فمواجهتها لأفراد يرفضونها سيؤدي إلى مزيد من الرفض، واتساع رقعة الرافضين.
صحيفة معاريف الإسرائيلية قالت إن التعامل مع التنظيمات المحلية التي يقودها شباب غاضبون في شمال الضفة، المخيّمات خصوصًا هو نقطة ضعف القوات الإسرائيلية. وأن الجيل الثالث، كما سمّته الصحيفة نقلًا عن الإعلام العبري، هو الأخطر لغياب الغطاء التنظيمي المعروف.
واللافت الذي رصدته «معاريف» أن مطلقي النار في الضفة بعد أن كانوا خارجين عن القانون، باتوا أبطالًا على مواقع التواصل الاجتماعي الفلسطينية. وأوضحت الصحيفة أن المزيد من الشباب باتوا مستعدين للتضحية بحياتهم عبر تنفيذ عمليات على الطرق السريعة في الضفة الغربية.
هذا الجيل الثالث ربما لن يغيّر واقع الضفة المرسوم بدّقة منذ عقود في أيام أو شهور. لكنه على الأقل يشير إلى بداية جديدة يمكنها حلحلة الوضع المستقر للضفة، وجعلها مصدر إزعاج للاحتلال. وإصدار شهادة وفاة للسلطة الفلسطينية، الحالية على الأقل وعلى المدى القريب، والتنسيق الأمني بين الضفة والاحتلال بصفة عامة لكن على المدى البعيد نوعًا ما.