«أشياءٌ تتداعى»: حكايات أخرى من تاريخ الصيد
لا يوجد شيء مثل الأدب يحملنا على أن نكافئ ونمجد فروقنا باعتبارها مصدرًا من مصادر التفوق إلانساني، لا شيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائمًا في الأدب العظيم، هكذا يرى «فرجاس يوسا».
لكن الأمر بدا ناقصًا عندما نظر له النيجيري «تشينوا أتشيبي» نظرة فاحصة، الرجل لم تكن له حكايته الخاصة أبدًا، يقول إنه ندم كثيرًا على انتقاده لرواية «السيد جونسون» لجيمس كاري، فقد جعلها شهيرة، وخسر كثيرًا من مهاجمة «قلب الظلام» لجوزيف كونراد باعتبارها رواية استعمارية تصور قومه بأنهم حيوانات تسير على أقدامها الخلفية، لكنه فطن أخيرًا لمعنى الحكمة القائلة بأنه:
لذا قرر أن يكون هو المؤرخ الأول، ويعيد رواية ذات الحدث من داخله بشكل لم يرو من قبل. سنحكي اليوم عن رواية «أشياءٌ تتداعى» للأب الحقيقي للرواية الأفريقية، النيجيري «تشينوا أتشيبي» الصادرة باللغة الإنجليزية في العام 1958.
أبو الرواية الأفريقية
«تشينوا أتشيبي» هو شاعر وروائي نيجيري وأستاذ جامعي ولد بقرية نيجيرية تدعى أوجيدي في العام 1930، ينتمي أتشيبي لقبائل «الايبو» التي يتضح أنها حضارة أصيلة تنتمي للأرض ذاتها، لها لغتها وعاداتها التي تم محوها بكفاءة بواسطة الاستعمار بوجهيه القاسي والناعم.
درس الأدب الإنجليزي في جامعة ابادان النيجيرية، ثم عمل فور تخرجه مذيعًا بالإذاعة المحلية. انتظر أتشيبي حتى العام 1958 ليتمكن من الحكي، حين أرسل الرواية لناشر إنجليزي نظر لها بحيرة وقال له «حسنًا، ماذا سنفعل بهذه إذًا؟»، حيث لم يكن هناك وجود لشيء اسمه رواية أفريقية من الأساس.
اقرأ أيضا:«زرايب العبيد»: الحب ينتصر على القهر والعبودية
عمل أتشيبي أستاذًا للأدب الأفريقي في جامعة ماساشوستس الأمريكية، وحصل على خمسة وعشرين دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة، ورحل عنا في العام 2013 وأعماله تدرس اليوم في الجامعات والمدارس بأفريقيا. يقول «نيلسون مانديلا»: كان هناك كاتب نيجيري اسمه تشينوا أتشيبي تحطمت برفقته جدران السجن.
بالرغم من أهميته البالغة لم يكتب سوى خمس روايات فقط لكنه ألهم جيلاً من الكتاب خرجوا للعالم بعدها بأصوات أصيلة لا يمكن تجاهلها. لكن من يبالي كم طرقة اجتزتها لكي تفتح الباب؟، أتشيبي كان من فتح الباب أولاً، بعدها كان على العالم كله أن يلتفت ناحية أدب أفريقيا بشغف.
أتشيبي يمثل بوضوح تلك النقطة المفصلية التي تصل بين عهد الاستعمار وبين ظهور منتج حقيقي أصيل لأفريقيا.
تمزق الرجل بين تربيته الإنجيلية وبين ميراث أجداده من حضارة الايبو، فكان نتاجه منصفًا لواقعه بشكل لم ير قبلاً. كتبت «رضوى عاشور» على غلاف دراستها عن الأدب الأفريقي كلمتين تلخصان كل شيء «التابع ينهض»، حسنًا لأتشيبي الفضل في ذلك كله.
رواية «أشياء تتداعى» تقع في مئتين وأربعين صفحة من الحجم المتوسط، خمسة وعشرين فصلاً، ثلاثة أجزاء تنفصل عن بعضها بتناغم. يحاول السيد أتشيبي أن يبرز تفاصيل حياة قرية نيجيرية تقطنها قبائل من الايبو خلال خمسة أو ستة عقود بشكل عام، ملقيًا بقعة من الضوء على أحد أفرادها البارزين بشكل خاص، وتأثير وصول الإرساليات التبشيرية على حياتهم.
اقرأ أيضًا:«السبيليات»: من سيرة المرأة والحرب
ثلاثة عشر فصلاً من البناء التدريجي المتصاعد للشخصية والأحداث عبر حيوات غير مألوفة، في البداية أنت لا تفهم ما هي أهمية ذلك كله، لكنك في نهاية الفصل الثالث عشر يكون كل شيء واضحًا تمامًا.
لقد تم توريطك بنجاح، أنت تعرف كل القواعد ومتصالح معها وربما ملتزم بها وتفكر بذات الطريقة، تعرف أنه سوف يتم إلقاء التوائم فور ولادتها في مكان مقفر حتى يموتوا لأن التوأم يجلب الشرور للقبيلة كلها، تعرف أن البشرة البيضاء هي شيء مقابل للمرض، وتعرف أنه إذا اتسخ إصبع بالزيت فإن بقية الأصابع ستلحق به إذا لم يتم بتره.
لقد صرت تنتمي تمامًا للمكان، قبل أن يصنع المؤلف ببساطة تحولاً كبيرًا في حياة بطله يجعله يترك قريته لسبع سنوات، سبعة فصول كاملة يحاول فيها المؤلف أن يعيد بناء حياة أخرى غير التي أفنى فيها الثلاثة عشر فصلاً الأولى وأفنى فيها بطله عمره كله، ثم خمسة فصول أخيرة يجسد فيها بإخلاص تعريف التداعي الحضاري الذي يرنو إلى إبرازه بروايته التاريخية.
يقول أتشيبي؛
حيلة أتشيبي الأولى كانت اللغة، عندما كان عليه أن يسرد روايته الخاصة عن ذلك الجزء الذي يراه الرجل الأبيض غير متحضر، كان عليه أن يستخدم لغة الرجل الأبيض ذاته، أتشيبي لم يكن يكتب أدبًا للنيجيريين أبدًا، ولكن كان يخاطب العالم، يقول؛
كانت هذه رواية الوعي بالآخر، ومحاولة لرد الاعتبار لهذا الآخر، محاولة لإسقاط كل الأحكام والتحيزات المسبقة، لكنه فعل ذلك بطريقة ساحرة جدًا، لقد انتهك اللغة الإنجليزية بشكل يدعو للتأمل حين مزجها بلغة قومه، فمنح متن الرواية خصوصية أن تحدث وقائعها في بلدته، وتجري أحاديثها على لسان قومه وأن تخاطب الآخر الذي يحتقرهم وتعطيه صورة أقرب للواقع الذي لا يراه في ذات الوقت.
قصيدة العودة الثانية لبيتس هي رمز لصراع القوى حول العالم، وافتقاد المركز لسيطرته على أطرافه المتباعدة وما ينتج عن ذلك من فوضى، لكن ما يجمع بينها وبين روايتنا هو إلقاؤه الضوء على استخدام الديانة المسيحية من قبل الاحتلال الإنجليزي لمحاولة السيطرة الناعمة على ساكني الأراضي التي تمت السيطرة عليها بقوة السلاح في أفريقيا.
في «أشياء تتداعى» يحاول المؤلف أن يضع الأطر المنطقية لنتائج تبدو للوهلة الأولى غير منطقية، يحاول تفكيك مفردات حياة القبائل البدائية التي صورها الأدب الأوروبي كمجموعة من الحيوانات التي تفتقد الحضارة. الحقيقة أنه لم يقم بحكي حكاية منحازة لقومه مطلقًا، لقد كان ناقدًا قاسيًا جدًا لأوضاعهم، لكنه قام بنقل كل شيء من الداخل كما هو.
إن الصورة التي أخذت عن أفريقيا قبل أشياء تتداعى كما جاءت في «قلب الظلام» مثلاً، وأورد بعضًا منها أتشيبي في روايته كانت أقل ما توصف به أنها عنصرية، أتشيبي لم يفعل ذات الشيء، ماذا يفيدك إن بادلت الرجل الأبيض مشاعره تجاهك؟، لقد كان يحاول إعادة تعريف أشياء معرفة بطريقة خاطئة.
ربما هذه ليست أجمل رواية تقرؤها في حياتك لكنها ربما الأهم، «أشياء تتداعى» في شكل بنائها وسماتها الأسلوبية التي وضعت حجر الأساس لما يطلق عليه الرواية الأفريقية وصارت نقطة انطلاق وتفرد لأدب القارة السمراء، وكذلك فمحتواها الذي يقدم للآخر تفاصيل حيوات مجهولة تمامًا، وإعادة لاعتبار حضارات اندثرت بفعل الاستعمار بلا أحكام متعالية ولا عنصرية مضادة كانت أبلغ رد على الروايات الأخرى.
يحاول أتشيبي أن يوضح في معرض حكايته أن انهيار حضارة الايبو ومعها انهيار بطله لم يكن ناتجًاذ عن ضعف إيمانه، أو النقص الذي كان يعتري عقيدته، أو الثغرات الحضارية التي أبرزها بنفسه، إنما الأمر كان أقوى منهم لما تقدمه الحياة والمعتقدات الوافدة من خيارات أكثر رحابة مما حمل القرويين على الاستجابة للمد الجديد، وأتاح الفرصة للسيطرة عليهم وهدم مقدساتهم بسهولة.
تنتهي الرواية بالعنوان الأكبر عن ضرورة احترام تفاصيل حياة الآخر وعقائده مهما كنت تراها شيئًا تافهًا عديم الجدوى. في محاضرة بجامعة ماساشوستس حين همّ أتشيبي بالكلام عن «قلب الظلام» غادر بعض الحضور القاعة، أتشيبي كان دومًا قاطعًا بهذا الشأن، يقول؛
حين ذهب «آرثر رامبو» إلى أثيوبيا وعاد بالرقيق لم يعد لكتابة الشعر بعدها، إذ لا يمكن أن تجتمع كتابة الشعر وتجارة الرقيق بقلب واحد، هذه هي النقطة التي أراد التأكيد عليها ومن هنا كان محركه الأول للكتابة، بالإضافة للرغبة في أن تكون له روايته شديدة القرب من الواقع الحقيقي الذي يجهله كل فرد خارج حدود عالمه.
رواية «أشياء تتداعى» لم تكن فقط انتصارًا لأفريقيا، ولا للأدب الأفريقي، ولا لحضارات بدائية مندثرة، لقد كانت انتصارًا للأدب بشكل مطلق، ربما للإنسانية كذلك، كان المؤلف يرى أننا نعيش بعالمين مختلفين وعلينا أن نقابل الكثير من المصاعب كي يلتقيا وتلك كانت خطوته الأولى.