إنهم يقولون…
*تسليم المقال يوم الثلاثاء 13 يونيو قبل إقرار الاتفاقية في البرلمان.
رأيت في الستة الأشهر الأخيرة كمية هائلة من الوثائق التي تؤكد بالفعل مصرية تيران وصنافير، والفكرة هي أنني لا أثق دائمًا باتجاه التيار ولا أهوى السير مع الجموع بلا تفكير. لا يمكن أن يكون الشيء صحيحًا لمجرد أن آلافًا من مستخدمي فيسبوك يرونه كذلك، لكن القضية صارت منتهية بالنسبة لي، مهما تكلم علماء الجيولوجيا أو علماء النفس، أو أتحفتنا الصحف الحكومية بوثائق سرية اكتشفوها فجأة، بالفعل هاتان الجزيرتان مصريتان كأنهما بنها أو أسوان مثلاً.
لا شك عندي في نتيجة عرض القضية على مجلس الشعب، فباقي القصة مفروغ منه، وهو تسليم الجزيرتين وإنزال العلم المصري من عليهما، ثم تسليم الأمن على الجزيرتين لإسرائيل كما قال مكرم محمد أحمد بوضوح أمام عدسات التلفزيون.
الرأي العام سيجد نفسه أمام الأمر الواقع وعليه أن يقبل.
ما يثير دهشتي وعجبي أن هذه الغضبة الواضحة في كل مكان، وفي النقابات وفي مواقع التواصل الاجتماعي بادية لكل ذي عينين .. وبرغم هذا فلا أحد يبالي بها. الدولة ماضية قدمًا في بيع الجزيرتين … إنهم يقولون .. ماذا يقولون؟.. دعهم يقولوا .. هذا هو شعارهم الحالي.
تنطبق هذه القاعدة على كل شيء تقريبًا، مثل تعويم الجنيه أو رفع أسعار الكهرباء والوقود أو موضوع الجزيرتين.. يمكنك ذكر عشرات الأمثلة. أي ضابط مخابرات يجلس أمام فيسبوك سيكتشف بعد عشر دقائق أن البلد تغلي فعلاً.
هل حقًا نحن هيّنو الشأن لهذا الحد؟ .. إلى هذا الحد يبلغ اطمئنان النظام لعصا الأمن المركزي والدبابة وقنبلة الغاز؟.
اعتقادي الخاص أن هذه السياسة الجديدة: التعامل باعتبار الشعب قاصرًا عقليًا ولا يعرف مصلحته، قد بدأت بعد قرارات تعويم الجنيه .. لقد ابتلع الناس الضربة القاسية التي حولت كل جنيه في جيوبهم إلى ثلاثين قرشًا، ثم ابتلعوا الضربة القاسية الثانية خلال يومين مع رفع سعر الوقود. كنت في دبي في ذلك الوقت، وكانت مشكلتي لدى عودتي لمصر أن أستطيع العودة لطنطا وسط المظاهرات التي ستشعل البلاد. طبعًا عندما وصلت لمصر لم اجد أي رد فعل سوى جو عام من الاكتئاب والصدمة.
قرارات التعويم التي مرت بلا رد فعل، سببت أولاً الاستهتار التام بقدرة الشعب على أن يغضب، ثم أنها استخرجت الصرصور الموجود لدى كل إنسان .. وهذا الصرصور يرضى بأي وضع ويقبل أي شيء، ويشكرك جدًا على صفيحة القمامة لأن فيها كمية ممتازة من بقايا الطعام.
هذه هي اللحظة التي أدرك فيها هؤلاء أنه لا خطر من العملاق المصري .. إنه نائم أو ميت ولن ينهض. رأيت في قناة ناشونال جيوجرافيكس فيلاً عملاقًا مسنًا ساقطًا على الأرض بينما أسود صغيرة الحجم تقضم منه قطعة قطعة وهو حي.
منذ ذلك الحين بدأت الحواجز تتهاوى، وهكذا تجد شبكة الإنترنت كلها تغلي غضبًا لكن لا أحد يبالي. ويبرز لك سادة مثقفون يقلصون مساحة مصر .. لدرجة أنني بدأت أعتقد أن مصر هي بركة السبع ولا شيء سواها. لا مشكلة لديهم بتاتًا والكلام عن الأرض لا يتجاوز ثمن الحبر الذي يكتب به. لدينا الكثير من الأرض فما المشكلة في فقد جزيرتين أو ثلاث؟.
يقول أحد البرلمانيين المهمين: حكم المحكمة والهباء سواء، وهو تعبير ينم عن استخفاف بالغ بالقضاء. ما دام حكم القضاء والعدم سواء، فعليكم إخراج كل المعتقلين الذين صدرت ضدهم إحكام مؤخرًا.
تتعامل الحكومة مع الناس كأنها سيدنا الخضر – لو كان هو العبد الصالح في سورة الكهف – فهي ترى ما لا نراه وما لا نستطيع معه صبرًا .. هناك حكمة لا نفهمها نحن وراء كل قرار.
أحيانًا يبلغ الأمر درجة العناد المجنون. قرأت تعليقًا في النت يقول: تيران وصنافير مصريتان أو سعوديتان حسب ما يراهما السيسي !. وقرأت من يقول: من يقل إن تيران وصنافير مصريتان هو خائن!، والنكتة الأخيرة هي أن الجزر ملكية خاصة لقريش .. واللات والعزى قالوا هذا!.
والمشكلة أنك تعرف أنه لو قال السيسي غدًا إن تيران وصنافير مصريتان لتحمس هؤلاء لدرجة البكاء، وأنشدوا أناشيد وطنية عن الدم الذي تشربته رمال الجزيرتين.
الجو ينذر بعاصفة، ولا أكذب إذا قلت إنه يذكرني بأجواء الاحتقان التي كانت تملأ مصر عام 2010 قبل الانفجار في 25 يناير. لا أنصح هؤلاء السادة في الحكومة بمراقبة فيسبوك أو حجب المواقع، فيسبوك لن يبدأ ثورة حاليًا؛ لكنه يخرج البخار من الصدور بلا توقف، وهؤلاء الذين كانوا يمكن أن يصرخوا في الشوارع ويقذفوا قوات الداخلية بالحجارة، هم الآن جالسون جميعًا غارقون في عالم اللايك والشير الافتراضي. لو كنت طاغية لتركت حرية التعامل على فيسبوك كاملة.
الجو ينذر بعاصفة بلا شك .. وعلى هؤلاء السادة أن يتذكروا أن طريقة اللامبالاة هذه – طريقة خليهم يتسلوا – قادرة على إحداث المعجزات وعلى إيقاظ العمالقة الموتى. كذلك هذا الاستخفاف بالقضاء والرأي العام سوف يفرخ الكثير من العنف في المجتمع، ويفقد الناس البقية الباقية من الثقة بالبرلمان.