جاءوا أولاً
هذه هي الأبيات التي اختارتها جريدة أمريكية للتعبير عن كارثة عدم التكاتف أمام ترامب، والواقع أنها نوع من المحاكاة لقصيدة شهيرة جدًا للراهب الألماني نيمولر، يقول فيها:
جاءُوا أوّلاً إلى الشّيُوعيّين،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ شُيوعيًّا.
ثُمّ جاءوا إلى الاشتراكيّين،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ اشتراكيًّا.
ثُمّ جاءوا إلى أعْضاء النّقابات،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ نقابيًّا.
ثُمّ جاءوا إلى اليَهُود،
فَلَمْ أرْفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ يهوديًّا.
بَعْدَئذٍ جاءوا إليَّ،
فَلَمْ يَتَبَقَّ أحَدٌ
لِيَرْفَعَ صَوْتَهُ لأجْلِي
وهي طريقة أخرى لسرد قصة الثيران الثلاثة، و«أكلت يوم أكل الثور الأبيض».
الراهب نيمولر رجل شجاع بحق، ولنتذكر أنه لم يكن يواجه ديكتاتورية عادية بل هو يواجه النازية نفسها!.. ومن واجهوا النازية واجهوا خطر الموت والإعدام شنقًا بسلك بيانو عند أقرب عمود نور. والأسوأ أنهم واجهوا الجماهير المتعصبة المجنونة التي دخلت في غيبوبة تشبه السعار، فلم تفق منها إلا والسوفييت في كل شارع في ألمانيا يغتصبون الألمانيات.
أذكر أنني اختلفت في الرأي السياسي مع صديق، فقلت له إنه يذكرني بذلك الجو النازي وشنق المعارضين بأسلاك البيانو، فقال لي في غل:
-ـ«أين تُباع أسلاك البيانو بالضبط؟!!»
ولد الراهب مارتن نيمولر عام 1892، وهو ينتمي للمذهب اللوثري، وكان من المؤيدين لهتلر وصعوده عام 1933، ثم صار معارضًا له، وقال إن النازية تتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس. اهتم الأديب الكبير توماس مان بمواعظ نيمولر ونشرها في الولايات المتحدة. هكذا تم اعتقال نيمولر المغرد خارج السرب في معسكر داخاو، وكاد يواجه الإعدام بأوامر خاصة من هيس، لولا أن الحلفاء خلصوه من السجن عام 1945. بعد الحرب صار من دعاة السلام ومطالبًا بوقف التسلح النووي، كما أنه ذهب إلى فيتنام وقابل الزعيم الأسطوري هوتشي منه. الحق أنه اكتسب صيغة دولية محترمة. توفي الشاعر الراهب عام 1984 وكان في الثانية والتسعين من عمره.
قصيدة «جاءوا أولاً» فائقة الشهرة، وقد نجح اليهود كالعادة في جعلها حبيسة الهولوكوست، كأن نيمولر لم يكتبها إلا من أجلهم، بينما هي تنطبق على البشرية كلها بالطبع. النص الكامل للقصيدة موجودة في النصب التذكاري للمحرقة في بوسطن وفي متحف نسيت اسمه في القدس. وهناك بعض التغيرات بين صيغة قصيدة لأخرى. بعض القصائد تحدث عن شهود يهوه أو المرضى غير القابلين للشفاء.
كما رأينا، ظلت كلمات نيمولر حية عدة عقود، ومن الواضح أنها لن تموت أبدًا. بل إنها عادت للحياة مع قدوم ترامب كما رأينا.
حياتنا السياسية في مصر هي تطبيق مزمن لهذه القصيدة.
بعد الثورة وفي عهد المجلس العسكري رأينا أن معظم شباب الثورة غاضبون يخرجون في مليونيات لا حصر لها، وفي الوقت نفسه تكلم الإخوان عن العرس الديمقراطي الذي يحاول هؤلاء الشباب أن يفسدوه، ومن هنا ولدت عبارة «باعونا في محمد محمود» التي يقولها الشباب، كما ولدت عبارة »هي ايه الي وداها هناك؟». الحقيقة أنني كنت وقتها ضد التظاهرات المستمرة وإغلاق الطرق، ومتلازمة إدمان الغاز المسيل للدموع وأكشن مواجهة الداخلية. شعرت أولاً أن هذا يستهلك زخم الثورة وينفر رجل الشارع منها، ثم أنني آمنت أن الهدف الوحيد الذي يجب أن نعمل من أجله والمكسب الوحيد للثورة هو تكوين برلمان محترم، وإتاحة الفرصة لانتخابات نزيهة شفافة، وكنت أؤمن أن الديمقراطية تصحح مسارها مهما اختل وتخبط.. فقط ضع القطار على بداية القضيب. ثالثًا: كنت هناك نغمة واضحة من مهاجمة الجيش نفسه وليس المجلس العسكري فقط. من الذي مزق صورة الجندي الذي يحمل طفلة والتي كانت ملصقة على كل الحافلات؟ شعرت وقتها بالخطر لأنني لا أقبل فكرة أن يكره شعب جيش بلاده.
على كل حال سواء كنت على حق أم لا، فنحن لم نغضب بما يكفي عندما ضُرب الليبراليون واليساريون. بعد هذا جاء 30 يونيو 2013 وانهالت الضربات على الإخوان، وفي هذه المرة صمت الناصريون والليبراليون لأن الاختلاف الأيديولوجي كان أقوى من أي قواعد عادلة، دعك من أن نشوة الانتقام كانت قوية. وهكذا ولدت عبارة «رقصوا على أجسادنا في رابعة».
أذكر أن صديقًا عزيزًا أرسل لي في خريف عام 2013 يطلب مني المشاركة في حملة للإفراج عن مناضلة من الاشتراكيين الثوريين. قلت له: وسط كل هذه الدماء والقتل يصعب علي أن أتحمس.. أنتم آثرتم الصمت برغم هذه المذابح والاعتقالات، لأنها لا تمس معسكركم ولأنها تؤذي عدوكم الأيديولوجي، والآن تطلب مني أن أتدخل لأن الفتاة من معسكركم. أرجو قبول اعتذاري، فأنا أرى أن الصمت تصرف عادل في الحالتين، وعلى كل حال هي أفضل حالاً من كثيرين. لم يقتلها أحد على الأقل.
النتيجة هي أنه لم يبق أحد ليعترض بالفعل..
لقد كان الراهب نيمولر على حق فعلاً.