لم يكن تجاوز الثامنة والثلاثين من عمره حين أخرج تحفتة السينمائية «There Will Be Blood»، يحلم دائمًا بتقديم فيلم صامت. لماذا الصمت؟ تخيل أنك تقدم قصة لها بداية، ونهاية، وفلسفة، ومشاعر، وتطور في القصة، ودراما دون نطق كلمة واحدة. يقول الكثيرون عنه إنه خليفة «ستانلي كوبريك». والذي اختار أن تكون أغلب مشاهد فيلمه «أوديسا الفضاء» صامتة. ومن خلال الصمت قدم رؤيته لتاريخ البشرية ومستقبلهم طبقًا لرؤيته المادية غير الإيمانية.

ربما يشاركه مخرجنا الشاب الموهوب في رؤيته غير الإيمانية، والتي تظهر من خلال أفلامه، سواء من خلال رمزيات صريحة أو متخفية. يميل للإتقان الكامل، وإن يكون فيلمه على ميزان ذهب. حتى إن لجأ لفكرة غير منطقية أو ميتفازيقية، يحاول تبرير وجودها بطريقة منطقية، مثل مشهد مطر الضفادع في فيلم «مجنوليا»، ومن أجل هذا المشهد جعل مقدمة الفيلم كلها تشير لاحتمالية حدوث بعض الأحداث اللامنطقية أحيانا. إنه «بول توماس أندرسون» وتحفته السينمائية الأشهر «There Will Be Blood»، والذي تعاون فيه مع «دانيال داي لويس»، والذي يشهد هذا العام تعاونهم الثاني في فيلم «Phantom Thread».

وحيدًا في البئر

يبدأ الفيلم بصورة صحراء قاحلة، وشمس متوهجة، ألوان المشهد غير مشبعة. مشهد تأسيسي لحياة قاسية، ويخدم هذه الرؤية شريط الصوت الذي تتعالى فيه أصوات الأبواق المعدنية المزعجة، صورة لحياة صعبة وتأسيس لميلاد شر جديد لا يعلمه المشاهد.

ثم تنتقل الصورة للرجل طويل اللحية الذي يعمل وحده في قاع بئر، يقوم بالتنقيب عن الذهب أو الفضة، وأثناء نزوله في إحدى المرات لقاع البئر وقع، ووجد نفسه وحيدًا في عمق البئر، مكسور الساق، لا أحد يعرف أين ذهب، فرص إنقاذه شبه معدومة. كتب عليه الموت إلا إذا حاول الخروج من البئر وحيدًا. مهمة مستحيلة ولكنه نجح فيها، بل وخرج ومعه بعض الذهب الذي وجده.

ما فعله توماس أندرسون في هذا التتابع المشهدي، هو التأسيس لميلاد رجل أعمال، لا يؤمن سوى بالفردانية، والتمركز حول ذاته وأهدافه، حتى لو خسر الجميع من أجل هذه الأهداف. التغير الأول في نفسية «دانيال بلانيفو» حدث حين وقع في البئر. كما خرج من البئر وحيدًا بدأ ينظر للحياة من هذا المنطلق، إنها معركة قاسية يخوضها وحيدًا.

بداية ساحرة تعبر عن نضج بول توماس أندرسون، فكل هذه المعلومات والاستنتاجات سواء عن شخصية دانيال والتغيرات التي تحدث له، وحصوله على بعض المكاسب بتبني ابن زميله الذي مات في البئر، أو بتحقيقه نجاح نسبي في عمله، تم تنفيذها في شكل مشاهد صامتة.

نأتي للجانب الرمزي، وكما وضح أن المشهد التأسيي وشريط الصوت وكأنهم يشيرون لميلاد شر ما، لتعزيز هذا الجانب أخفى أندرسون بعض المعلومات. فنحن لا نعلم ماضي دانيال، من هو والده وكيف بدأ عمله؟، وهل أحب أم تزوج؟، والكثير من الأسئلة التي لن نعرف الإجابة عليها. وظهوره الأول وهو في قاع البئر. وكأنه يشير أنه ولد في هذه اللحظة داخل البئر بلا أي ماضٍ. ميلاد الشر الذي سيسبب الدماء.

رجل النفط والقس

الخطبة السابقة للبطل، والتي يعرض فيها أفكاره بدقة، تمثل رؤية أندرسون عن صعود الرأسمالية، والتي لا تختلف كثيرًا عن الكثير من النظريات الاجتماعية والاقتصادية. حيث يصنع مكتشف البترول حياة كاملة من أجل استثماراته. ويحول شكل المدينة ونمط حياتها، ربما لشكل أفضل، ولكنه من أجل مصالحه في الأساس. فالقرية القاحلة دخلتها المدارس والمياه والخبز. وبينما يتحدث البطل يتم عرض مشاهد متعاقبة بطريقة الفوتو مونتاج (اختصار أحداث تأخذ زمنًا طويلاً في لقطات قصيرة وعادة تكون على صوت أغنية أو حديث راوٍ). ومن ضمن المنشآت التي بناها كنيسة كبيرة.

يصنف «There Will Be Blood» في بعض قوائم الأفلام، كفيلم ينحاز للأفكار الماركسية. وهذا يظهر جليًا في طريقة العرض الاقتصادية التي يتبعها الفيلم، حيث إن المال هو مصدر السلطة والمحرك الأساسي لكل الصراعات في الفيلم.

ويتجسد ذلك في الصراع ما بين دانيال، و«إلي» القس الشاب، الذي يريد الخروج بأفضل امتيازات مالية وسلطوية. ورغم عدم إيمان دانيال بأي من الأديان، ولكنه يرى أن الكنيسة من أهم وسائله للسيطرة على عقول وقلوب أهالي المدينة. وهذا ما يجعل القس يبتزه ويطالب بالمزيد من المال، ومطالبته لدانيال بالقدوم والاعتراف بخطاياه. يقبل دانيال رغم عدم إيمانه ويتعرض لإهانات كثيرة من القس الذي يقوم بصفعه ورش الماء عليه.

القس الذي يستمر في ابتزاز دانيال حتى نهاية الفيلم، ولكن يتوحش رجل النفط في نهاية الفيلم ويرفض الابتزاز ويطالب القس بشتم الإله والمقدسات لكي يعطيه المال. وبالفعل يحقق القس تلك الرغبة. ولكن دانيال يقتله في النهاية. وهذه رمزية أخرى تؤكد سيطرة الأفكار اليسارية على الفيلم. فرجال الدين هم جزء من سلطة المال، ورغم بعض الصراعات بينهم ولكن لصاحب المال الكلمة الأعلى، خصوصًا عندما يتوحش مثل شخصية دانيال في فصول الفيلم الأخيرة.

وحيدًا في قصر فسيح

قطعت مسافة طويلة لكي أصل لتلك الأرض، ربما سمع بعضكم الإشاعات السيئة عن خططي، من الأفضل أن تعرفوها مني وجهًا لوجه. أنا رجل نفط سيداتي وسادتي، لدي مصالح متعددة، لدي آلاف البراميل تنتج يوميًا، وكرجل نفط أتمنى أن تسامحوني على حديثي المباشر العتيق، العمل الذي أقوم به عائلي، أعمل بجانب ولدي. وأشجع رجالي على إحضار عائلاتهم، هذا يجعل حياتهم أفضل، العائلة تعني الأطفال، والأطفال يحتاجون للتعليم، فأنشئت المدارس، الأطفال هم المستقبل الذي نسعى إليه. يمكننا حفر آبار المياه، المياه تعني الزراعة، والزراعة تعني محاصيل.

يضبط أندرسون أفلامه بميزان من دهب، فهو لا يجعل دانيال متوحشًا وكأنه خُلق هكذا. بل إنه تحول تدريجي بدأ بحادثة البئر والتي أشرنا لدلالتها. يعرف أنه قاسٍ، ويحاول الإحساس بالإنسانية بداخله أو امتلاك أسرة أو أصل. هكذا يرحب بالرجل الذي ادعى أنه أخوه، يحاول ممارسة بعض العادات الأسرية معه، رغم علمه بكذب الرجل، وفي النهاية يقتله. ثم يقوم بالبكاء كثيرًا. ففي تلك اللحظة يشعر وكأنه فقد آخر آماله في أن يكون إنسانًا.

وعندما يتخلى عنه ابنه في النهاية ليصنع حياته ومستقبله الخاص بل ويسبه. وفي هذا المشهد تظهر عبقرية دانيال داي لويس. الذي يبذل مجهودًا غير معتاد لتقمص أي شخصية يؤديها، في لحظة أغلب الظن أنها تلقائية ينقسم وجهه لشقين. شق حزين وتكاد تخرج الدموع من عينه، والشق الآخر غاضب وقاسٍ ولامبالٍ. هكذا ينقل لويس في لمحة الصراعات الداخلية للمشاهد ببراعة استحق عليها حصوله على جائزة الأوسكار.

ينتهي الفيلم بالمصير المحتم لذلك الوحشـ الذي لا يخرج من قصره الفسيح، ولا يمتلك أي رفقة. ويظل سكيرًا دائمًا. هكذا كتب عليه إلى النهاية أن يكون هكذا، وحيدًا في قصر فسيح.