هل تمر الفيزياء النظرية بأزمة؟
محتوى مترجم | ||
| المصدر |  | |
| التاريخ | ||
| الكاتب | ||
على مدار العقد الماضي، استكشف علماء الفيزياء زوايا جديدة لعالمنا، وفي سبيل ذلك أجابوا على بعض أكبر أسئلة القرن الماضي.
عندما اكتشف العلماء بوزون هيجز عام 2012، كانت تلك لحظة إنجاز ضخمة. لقد أظهرت أن المنظرين كانوا محقين في النظر صوب نظرية «النموذج القياسي» بحثًا عن إجابات بشأن كوننا. لكن لاحقًا، تصرف الجزيء تمامًا مثلما قال المنظرون أنه سيفعل، لقد امتثل لجميع القواعد التي تنبأوا بها. لو كان قد تصرف بشكل مختلف قليلًا فقط، لأثار العديد من الأسئلة بشأن النظرية وكوننا. بدلًا من ذلك، أثار القليل من الأسئلة، ولم يقدم أي معلومات جديدة عن الوجهة التالية.
بعبارة أخرى، كان أداء المنظرين جيدًا للغاية.
يقول جيان جوديس، رئيس قسم النظريات بمؤسسة سيرن: «نحن نكافح لإيجاد مؤشرات واضحة يمكنها توجيهنا نحو الاتجاه الصحيح. بعض الناس يرون في هذه الأزمة مصدرًا للإحباط، لكنني أرى مصدرًا للإثارة؛ لأن الأفكار الجديدة ازدهرت دائمًا في لحظات الأزمات».
قبل هذه الاكتشافات، كان علماء الفيزياء يقفون على حافة أرض مسطحة مجازًا، حيث شكوا في أنها كروية لكنهم لم يكونوا متأكدين. جعل اكتشاف بوزون هيجز والدليل على الموجات الثقالية العلماء أقرب من أي وقت مضى من فهم اثنتين من النظريات العظيمة لزماننا – نظريتا النموذج القياسي، والنسبية.
والآن، مستقبل الفيزياء النظرية يمر بنقطة حرجة – لقد أثبتوا نظرياتهم الخاصة، فماذا يمكنهم أن يفعلوا الآن؟.
إذن فماذا بعد؟
أخذ بيانات غير مشروحة، ومحاولة ملاءمتها مع أفكار الكون، إنها روح الفيزياء النظرية.
جيان جوديس – فيزيائي إيطالي
في مقال سابق، تحدثنا بشأن كيف أن علماء الفيزياء التجريبية والفيزياء النظرية يجب أن يعملوا سويًا. تعد هذه العلاقة التكافلية – حيث يبلغ المنظرون التجريبيين بمواضع البحث، ويسأل التجريبيون المنظرين عن تفسير للاكتشافات غير العادية – ضرورية، إن اردنا للاكتشافات أن تستمر.
قبل أربعة أعوام فقط، عام 2012، ظل علماء الفيزياء محتفظين بشك حقيقي بشأن ما إن كان العمود الفقري لنظرية النموذج القياسي وبوزون هيجز موجودًا من الأساس. والآن، هناك ضبابية أقل كثيرًا.
«لانزال نمر بفترة من الضبابية، في السابق كنا غير متأكدين بشأن كيفية إكمال نظرية النموذج القياسي. والآن، نعلم أنها مكتملة إلى حد كبير، لنتمكن من التركيز على أسئلة تتجاوزها، المادة المظلمة، مستقبل الكون، بداية الكون، وأمور صغيرة كهذه». وفق جون إلياس، عالم الفيزياء النظرية من كلية كينجز، بلندن، الذي بدأ العمل بمؤسسة سيرن عام 1973.
مع اكتشاف هيجز، حدث تحول في هذه العلاقة، مع عدم تولي المنظرين بالضرورة للقيادة. بدلًا من ذلك، بحثت التجارب عن بيانات لتجريبها وتقديم المزيد من الأدلة للنظريات المقترحة بالفعل. وإن ظهر شيء جديد، يزاحم المنظرون لشرحه وجعله منطقيًا.
«الأمر أشبه بأن تذهب لصيد الفطر»، وفق مايكل أنجلو مانجانو، عالم الفيزياء النظرية الذي يعمل بشكل وثيق مع علماء الفيزياء التجريبيين. «تبذل كل طاقتك في البحث، وفي نهاية اليوم قد لا تتوصل إلى أي نتائج، وهنا الأمر مشابه. هناك الكثير من الطاقة المهدرة لأنها لا تؤدي إلى الكثير، لكن عبر استكشاف جميع زوايا المجال بين الحين والآخر تجد قطعة ذهب صغيرة، إنها الفطر المثالي».
في نهاية العام الماضي، وجدت تجربتي (ATLAS) و (CMS) بمؤسسة سيرن قطعتي الفطر خاصتهما، حيث تمثلتا في جزء مثير للاهتمام، مع كونه صغيرًا جدًا، من البيانات.
يمكن لهذا الجزء الصغير غير المتوقع أن يمثل بابًا لمجموعةٍ كاملة من الفيزياء الجديدة؛ لأنها قد تمثل جزيئًا جديدًا. وبعد اكتشاف هيجز، تم سد معظم الثغرات في نظرية النموذج القياسي، لكن العديد من الفيزيائيين كانوا متفائلين بشأن التوصل إلى أمور جديدة شاذة عن القاعدة.
«ما يحدث في المستقبل يعتمد إلى حد كبير على ما يتوصل إليه مصادم الهدرونات الكبير في جولته الثانية»، حسبما يوضح إليس، «لذا فإن تبين أنه ليس هناك فيزياء أخرى جديدة وأننا نركز على فهم بوزون هيجز بشكل أفضل، فإن ذلك مستقبلٌ ممكنٌ ومختلفٌ للفيزياء، مقارنة بإن وجدت الجولة الثانية للمصادم جزيئًا جديدًا يتعين علينا فهمه».
وبينما الجزء صغير للغاية ليعلن عنه الفيزيائيون بشكل قاطع، كان هناك مئات الأوراق المنشورة من قبل فيزيائيين نظريين، مع قفزهم نحو تحديد ماهيته.
«أخذ البيانات غير المفسرة، محاولة ملاءمتها مع أفكارك عن الكون، مراجعة أفكارك بمجرد حصولك على المزيد من البيانات، وما إلى ذلك، حتى تكون قد كشفت قصة الكون – هذه هي روح الفيزياء النظرية»، حسبما يعبر جوديس.
لكننا سنعلم فقط إن كان الأمر جديرًا بالاهتمام أم لا مع بدء مصادم الهدرونات الكبير هذا الشهر، مايو 2016، عندما يمكن للفيزيائيين التجريبيين أن يبدأوا في اتخاذ المزيد من البيانات واستنتاج ماهيتها.
الجيل القادم من النظريات
هذه الفترة غير المعتادة من الهدوء في عالم الفيزياء النظرية يعني أن الطلاب الذين يدرسون الفيزياء ربما يكونون أكثر احتمالًا أن يتخصصوا في الفيزياء التجريبية، حيث يُنظر إلى الاكتشافات الكبرى على أنها متكررة أكثر، وحيث الفيزيائيون الشباب لديهم فرصة أن يكونوا أول من يتوصل إلى اكتشاف ما.
بالحديث إلى الطلاب الصيفيين بسيرن، الذين يأمل بعضهم أن يصبحوا فيزيائيين نظريين، هناك شعور بأن هذه الفترة من الضبابية تجعل اتباع نظريةٍ رفاهية، لا يستطيع الفيزيائيون الشباب، الذين يحتاجون إلى امتلاك أفكارٍ أصلية ونشر الكثير من الأفكار ليمضوا قدمًا، تحملها.
كميل بونفين تعمل زميلةً في قسم النظريات لعلم الكون لتجريب وفهم سبب أن الكون يتسارع. «إن كانت الجاذبية موصوفة من قبل نظرية أينشتاين للنسبية العامة، فيجب أن يكون التوسع متباطئًا لا متسارعًا، ما يعني أن هناك شيئًا لا نفهمه.» تحاول بونفين أن تتوصل إلى ماهية ذلك الشيء، حيث تظن أن أفضل النظريات تتسم بالبساطة، الاتساق والمنطقية، مثل النسبية العامة. «أينشتاين منطقي تمامًا، ونظريته منطقية. أحيانًا يكون لديك انطباع بأخذ نظرية موجودة بالفعل وإضافة عنصر واحد، ثم آخر، ثم آخر، للتجربة وجعل البيانات ملائمة بشكل أفضل، لكنها ليست نظرية أساسية، لذلك فبالنسبة لي، الأمر ليس جميلًا للغاية» (صورة: صوفيا بينيت/سيرن).
تأمل كميل بونفين، وهي عالمة فيزياء نظرية شابة بمؤسسة سيرن، أن جزء البيانات الضئيل المكتشف هو مفتاح الفيزياء الجديدة؛ لأنه دون اكتشافات جديدة يصعب الإبقاء على اهتمام جيلٍ أصغر: «إن لم يتوصل مصادم الهدرونات الكبير والاستطلاعات الكونية القادمة إلى فيزياء جديدة، سيكون من الصعب تحفيز منظرين جدد. إن كنت لا تعرف أين تذهب أو عما تبحث، من الصعب أن تحدد الاتجاه الذي يجب أن يسلكه بحثك، وأي أفكار يجب أن تستكشفها».
الجانب المشرق للمستقبل
مزح ريتشارد فاينمان، أحد علماء الفيزياء النظرية المشهورين، ذات مرة قائلًا: «الفيزياء مثل الجنس. بالتأكيد قد تعطيك بعض النتائج العملية، لكنها ليست الهدف الأساسي لممارستها». ويوافقه جيان جوديس – فبينما تؤدي الضبابية الحالية في المجال إلى زيادة صعوبة الأمر على الشباب أن يحققوا تقدمات هامة، فإنه ليس وعد المجد هو ما يشجع الناس على اتباع مسار النظرية، بل مجرد الشغف البسيط بشأن سبب كون كوننا هكذا. «لابد أن الأمر صعب بالنسبة للأجيال الجديدة من الباحثين الشباب أن يدخلوا الفيزياء النظرية الآن، حيث من غير الواضح إلى أين تؤدي الاتجاهات المختلفة»، حسبما علّق، «لكن الأمر أكثر إثارة للاهتمام أن تستمر دون أن تعرف ما ينتظرك، بدلًا من أن تكون قواعد اللعبة مقررة بالفعل».
يعد جوديس، الذي تولى دور قيادة قسم النظريات في يناير 2016 متفائلًا بأن الاضطراب الذي يواجهه المجال حاليًا يجعل تلك الفترة واحدةً من الفترات الأكثر إثارة ليكون عالم فيزياء نظرية.
«لقد قيل كثيرًا إنه من الصعب القيام بتوقعات؛ خصوصًا بشأن المستقبل. ولا يمكن أن يكون ذلك أكثر حقيقية اليوم في فيزياء الجزيئات. هذا هو ما يجعل الحاضر مثيرًا جدًا. إذا نظرت إلى الوراء في الفيزياء سترى أن لحظات كالأزمات والارتباك كانت متبوعة بثبات بأفكار ثورية عظيمة. آمل أن ذلك على وشك الحدوث مجددًا»، حسبما علق جوديس مبتسمًا.