نظرية الحتمية: هل من مكان لحرية الإرادة الإنسانية؟
ليس في الإمكان إلا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون. تلخص هذه العبارة جوهر أغلب «النظريات الحتمية – the theory of Determinism». بعبارة أخرى: حتمية كل ما وقع في الماضي، سواء على المستوى المادي أو الاجتماعي أو الإنساني، تعني أن وقوع سواه كان مستحيلاً، وكذلك هو الحال مع ما يقع في الحاضر، وما سيقع في المستقبل.
تؤمن الحتميات بعوامل خارجية، منفصلة عن وعي الإنسان، تتحكم في أفعاله ومصيره، والكون كله أحيانًا. هذه العوامل في الأغلب سلسلة من الحلقات المترابطة، تفضي بعضها إلى بعض، بصرامة وآلية. مما يقتضي أن الإحاطة بجميع دقائق وتفاصيل أي من حلقات هذه السلسلة، مع صياغة قانون علمي يستوعب تلك المتغيرات، يسمح بالتنبؤ بتفاصيل سائر الحلقات بدقة تامة،بغض النظر عن الزمان.
لكن قبل تناول أبرز الحتميات، تنبغي الإشارة إلى ثلاثة أمور. أولا، مثلما تختلف مدارس الحتمية في ماهية حلقات السلسلة، أو العامل المتحكم فيها، كما سنرى، فإنها تختلف حول مدى تأثيرها. فيرى البعض أن جميع ما في الكون، من الجماد إلى الإنسان، محكوم بهذه التغيرات، مثل الحتمية الفيزيائية، بينما يحصر البعض الآخر تأثير هذه الحتمية على مجال معين، مثل الحتمية اللغوية.
ثانيًا، تنقسم النظريات الحتمية إلى مدرستين، باعتبار الموقف من حرية الإرادة. هناك «الحتمية الناعمة – Soft Determinism» التي تؤمن بامتلاك الفرد لدرجة ما من الحرية في جزء كبير من أفعاله، و«الحتمية الصلبة – Hard Determinism» التي تنكر أي نوع من حرية الإرداة، وقد أيد كل منهما – وما يزال – فلاسفة بارزون[1].
أخيرا، يرى بعض الفلاسفة وجود ارتباط ضروري بين الحتمية وقانون السببية، حتى أن جامعة ستانفورد قد اختارت للفصل المخصص للحتمية في موسوعتها الفلسفية عنوان «الحتمية السببية». لكن بعضهم الآخر يرفض هذه الفرضية، مثل الأكاديمي كارل هوفر، محرر الفصل المذكور بموسوعة ستانفورد ذاته.
الحتمية اللاهوتية – Theological Determinism
لما كانت المعتقدات اللاهوتية تدور حول الإنسان باعتباره مركز الكون وسبب الخلق، احتلت أفعال هذا المخلوق جل اهتمام اللاهوتيين. كما كان التعارض الذي وجده البعض بين علم الإله الأزلي وحرية الإرادة البشرية دافعا قويا إلى الاهتمام بهذا المبحث. تؤمن الحتمية اللاهوتية بمسار واحد للكون، رسمه الإله قبل الخلق، لا يمكن الخروج عنه.
فهل تبقى للإنسان حرية بعد ذلك؟ وأمام هذا السؤال قدمت الأديان الكبرى صيغا مختلفة لإجابة تكاد تكون واحدة. فقد انقسمت كل طائفة إلى فريقين، أجاب أكثرهما عددا بالإيجاب بينما أجاب الآخر بالنفي.
في التاريخ الإسلامي، بدأ الجدل مبكرًا. إذ ذهبت فرقة الجهمية، في القرن الأول هجريا، إلى أن هذه الحتمية تسيطر على جميع أفعال البشر، بصورة لا يملكون معها أي اختيار، فيما عرف باسم عقيدة الجبر. بينما ذهبت فرقة القدرية ومعها المعتزلة إلى أن الإنسان يخلق أفعاله دون أي تدخل من الإله. أما الأشاعرة ففرقوا بين اختيار العبد لأفعاله، فأثبتوا هنا للإنسان مطلق الحرية، وبين خلق الأفعال، الذي جعلوه بأمر الله وحده[2].
الحتمية الفيزيائية – Physical Determinism
باعتبار أوضاع الأجسام وحركتها في الماضي، وخضوعها التام لقوانين الطبيعة، لا يبقى أمامها إلا مستقبل واحد ممكن. ولما كان الإنسان جزء من العالم المادي المحكوم بهذه القوانين، يصبح هو الآخر خاضعا لها في كل تصرفاته. هكذا الكون من وجهة نظر الحتمية الفيزيائية، التي اكتسبت شعبية هائلة بين فلاسفة وعلماء القرن الثامن عشر، حتى صارت هي »الحتمية«، متى ذكرت دون إضافة.
ويرجع الفضل كله إلى فيزياء نيوتن الثورية بقوانينها الجديدة، التي نجحت في تفسير حركة جميع الجمادات المشاهدة آنذاك. حينها، لم يكن هناك سبيل إلى نفي هذه الحتمية الصلبة دون إدخال عنصر غير مادي في المعادلة، إله كان أو روح بشرية. لكن في القرن الأخير، شكلت فيزياء الكم، بفوضاويتها الملغزة، عقبة رئيسية أمام هذه النظرية التي كانت آخذة في التراجع أمام الحتميات الأخرى.
الحتمية الأحيائية – Biological Determinism
الحتمية الأحيائية هي الاعتقاد بمسؤولية العوامل الوراثية عن جميع – أو أغلب – خصال الإنسان وصفاته الجسمانية والذهنية، مع إهمال تأثير البيئة والعوامل الخارجية بدرجات مختلفة. ولعلها بذلك أكثر الحتميات تجذرا في التراث الإنساني، المتخم بالإشارات إلى عظم تأثير الوراثة وأحيانا حتميتها. سرت هذه الروح عبر الزمان، في ثنايا الفلسفة والشعر والدين، متخذة صورا متباينة الحدة باختلاف الظروف.
لكن الحتمية الأحيائية تلقت على مدار القرن التاسع عشر الدفعات الأقوى في تاريخها، إذ شهد هذا القرن ذيوع نظرية التطور وفرضية وليام مكودجال عن الارتباط بين التكوين البيولوجي والغرائز المتحكمة في سلوك الإنسان، حتى زعم لومبروزو الإيطالي إمكانية تحديد المجرمين من خلال ملامح الوجه وصفات الجسد. وبسبب الفظائع التي تسببت فيها النعرات العنصرية، من أوروبا إلى أمريكا، تنحت الحتمية الأحيائية عن مركز الاهتمام فترة، عقب الحرب العالمية الثانية. لكن سرعان ما عادت بصيغ معدلة ومساحة اهتمام أكثر تركيزا، مثل «الحتمية الجينية» و«الحتمية العصبية»، مدفوعة بـ التقدم العلمي الكبير في هذه الحقول.
الحتمية البيئية- Environmental Determinism
ترى الحتمية البيئية أن الطبيعة الجغرافية والمناخية المحيطة بالإنسان هي العامل الرئيسي – وأحيانا الأوحد – في تشكيل الثقافة والمجتمع وتطورهما. وقد شهد التاريخ إرهاصات مختلفة لها، منها كتابات لبعض فلاسفة السياسة والمشرعين. في العصر الحديث، تأثرت النظرية كثيرا بصيغة جان لامارك – عالم أحياء فرنسي توفي 1892 – من نظرية التطور، حيث تكافح الكائنات كي تتكيف مع الظروف البيئية الختلفة، مما يؤثر على صفات الأجيال التالية.
وفي القرن العشرين، راج هذا التوجه على وجه الخصوص بين الجغرافيين، ثم انتقل إلى أوساط الأنثروبولوجيين، ومن بعدهم المؤرخين، مثل أرنولد توينبي المؤرخ البريطاني الشهير. لكنها لاقت عزوفا كبيرا من أغلب الأورقة الأكاديمية مؤخرا، إلا حضور بسيط في حقل دراسات التنمية المهتمة بتطور المجتمعات النامية[3].
الحتمية التاريخية – Historical Determinism
هي الاعتقاد بأن للتاريخ أو المجتمعات مسار حتمي معين، أو مراحل ثابتة، لا يحيد عنها، تخضع في تطورها لقوانين موضوعية[4]. مثل مراحل أوجست كومت – عالم وفيلسوف اجتماع فرنسي، توفي 1857 – الثلاثة: المرحلة الدينية، ثم المرحلة الميتافيزيقية، ثم المرحلة الوضعية (العلمية). كما توجد الجدلية الهيجلية المثالية.
يؤمن جورج فيلهلم هيجل – فيلسوف ألماني مثالي توفي 1831 – بمطلق أسماه «روح العالم»، جوهره الحرية. وخلال سعي هذه الروح إلى الوعي بذاته، أي الحرية، قاد التاريخ عبر مراحل ثلاث من الوعي بالحرية: أولها الحضارات الشرقية القديمة، ثم حضارة اليونان والرومان، ثم الأمم الجرمانية.
كذلك كان لنظرية كارل ماركس – فيلسوف اجتماعي واقتصادي ألماني، توفي 1883 – حول تطور المجتمعات عبر مراحل خمس، أثر هائل على مسار القرن العشرين. وهذه المراحل هي: المجتمع البدائي، ثم مجتمع الرق، ثم المجتمع الإقطاعي، ثم المجتمع الرأسمالي، ثم المجتمع الاشتراكي الشيوعي[5]. لكن جدير بالذكر أن القسم الأكبر من فلسفة ماركس يندرج أسفل «الحتمية الاقتصادية – Economic Determinism»، التي تجعل للعامل الاقتصادي الأثر الأكبر على تشكل المجتمع ومؤسساته وطبقاته، وكذلك صراع هذه الطبقات معًا.
حتميات أخرى
إلى جانب ما سبق، توجد مجموعة أخرى من الحتميات المتنوعة، خفت شهرتها مؤخرا، أو تنتمي إلى نطاق أكاديمي ضيق. مثل «الحتمية المعمارية – Architectural determinism»، التي يمكن إدراجها أسفل مظلة الحتمية البيئية، وتهتم بتأثير المعمار على السلوك الاجتماعي للأفراد. أو الحتمية التكنولوجية، التي تربط بين التغيرات والعلاقات الاجتماعية وبين التطور التكنولوجي. كما أن هناك «حتمية لغوية – Linguistic Determinism»، تجعل للغة دورا رئيسيا في تحديد وتشكيل نمط التفكير وتصور العالم، والعمليات الذهنية أيضا، عبر المفردات والنظام النحوي والدلالات وسائر التفاصيل.
وما بين حين وآخر، تظهر حتمية تاريخية جديدة، تنبؤية غالبًا، على منوال نظرية نهاية التاريخ للأمريكي «فرانسيس فوكوياما» الذي بشر بهيمنة الديمقراطية الليبرالية الغربية على جميع المجتمعات، باعتبارها قمة ومنتهى الفكر السياسي البشري. لكن بشكل عام، يمكن القول إن أغلب الحتميات التي تزعم وجود عنصر ما، كلي التأثير، يحكم الإنسان ويسيره كالآلة، قد تنحت عن صدارة المشهد. ولم يعد هناك إلا حتميات اجتماعية، متأثرة بتجارب علم النفس خلال حقبة السبعينيات، مثل تجربة سجن ستانفورد. وحتميات أحيائية عصبية، متأثرة بتجارب بنجامين ليبيت وعلماء الأعصاب في الحقبة ذاتها.
- Keil G. (2008) Determinism. In: Binder M.D., Hirokawa N., Windhorst U. (eds) Encyclopedia of Neuroscience. Springer, Berlin, Heidelberg
- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر، الطبعة الثانية، القاهرة.
- Park C., A Dictionary of Environment and Conservation, Oxford University Press, 2007.
- Ernest Nagel, The Structure of Science, Harcourt, Brace & World, London 1961
- صلاح السيد بيومي، أعلام الفكر الحديث، دار المعارف، القاهرة، 2015.