فيلم «The Worst Person In The World»: كوميديا رومانسية بنكهة وجودية
يرى ميلان كونديرا أن أرض البشر هي عالم انعدام التجربة. لم نجرب الحياة مسبقًا وبذلك لا وسيلة للتحقق من أي اختيار ومن ثم فكل اختيار له ثقل الأبد. نظهر على المسرح دون تدريب. التدريب الأول هو الحياة نفسها. هذا هو المأزق الوجودي الذي وقعنا فيه كبشر وهو نفس المأزق الذي تواجهه جولي/ رينات رينسيف الشخصية الرئيسية في فيلم المخرج النرويجي يواكيم ترير الخامس (The Worst Person In The World) الذي كتب نصه رفقة شريكه الدائم في الكتابة (اسكيل فوجت).
جولي فتاة لا تعرف نفسها ولا تعرف ماذا تريد من الحياة، وجودها قلق وفوضى أمام الخيارات المتعددة المتاحة أمامها. في الدقائق الأولى من الفيلم نراها تنتقل بين دراسة الطب، السيكولوجي ثم الفوتوغرافيا مثلما تتنقل بين عدة شركاء جنسيين وعاطفيين. في اثني عشر فصلاً ومقدمة وخاتمة نختبر مع جولي عمق مأزقها الوجودي وخصوصيته. لكن إذا كان مأزق جولي هو مأزق الحالة الإنسانية عمومًا، فما هو وجه خصوصيته؟
جولي في متاهة وجودها الهش
تنتمي جولي إلى ما يسمى «جيل الألفية» وهو الجيل الذي يضم مواليد الفترة التي تمتد من بداية الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات. هذا الجيل يمتلك -في ظل ثورة التكنولوجيا والمعلومات- خيارات متاحة أكثر بكثير من أي جيل آخر، في المقابل يمتلك ضغوطًا لا تنتهي من أجل تحقيق الذات، من أجل التحقق عمومًا على صعيد العمل والعلاقات العاطفية. جيل عالق وسط وفرة من الخيارات المتاحة مع حالة انعدام يقين سائلة تجاه كل شيء وهو ما يجعل كل خيار أكثر ثقلاً والمأزق الوجودي أكثر إرباكًا.
في واحد من مشاهد الفيلم تستعرض كاميرا «ترير» أسلاف جولي من النساء عبر صور تتوالى على الشاشة مع تعليق مقتضب عن العمر الذي عاشته، عن عملها وعائلتها. بعضهن عملن في عمل واحد طيلة حياتهن، البعض لم يعمل خارج حدود البيت. اختيار واحد بشأن العمل والزواج، عشن مع هذا الخيار الوحيد لبقية أعمارهن. ما يمنح بورتريه جولي قيمة أكبر من جانبه الوجودي وهو ارتباطه بالزمن الذي نعيشه، بمتاهة خياراته وثقل الحيرة والتشتت الذي نعانيه ما يجعلنا أكثر تعاطفًا مع بطلة ترير وتفهمًا لأزمتها. بورتريه جولي هو تأطير لانعدام اليقين الذي يستحوذ على هذا الجيل. إذا كنا نتحدث عن متاهة الخيارات الوجودية لجولي فالحب أهمها بالتأكيد. هناك علاقتا حب لجولى تستغرقان أغلب زمن الفيلم، ويطرح ترير عبرهما تساؤلاته الوجودية عن الذات والحب وعن الحياة والموت.
لمسات تجديد في نوع سينمائي قديم
هذا فيلم يصعب تصنيفه، في القلب هو فيلم كوميديا رومانسية، لكنه أيضًا وبنفس الدرجة فيلم دراسة شخصية (character study film) يقدم بورتريه سينمائيًا شديد الديناميكية، يرسم الملامح النفسية لشخصيته الرئيسية، يتتبع تيار الأفكار والمشاعر التي تستحوذ عليها عبر سرد دائري يبدأ وينتهي بها. يجنح حينًا نحو الرعب النفسي وحينًا آخر نجده تعليقًا على الفن والعلاقات في زمن الصوابية السياسي.
نقطة البداية في الفيلم هي الرومانتيك كوميدي. هذا النوع الفيلمي يعتمد بشكل رئيسي في سرده على قصص الحب التي تكلل غالبًا بالنجاح. يلتقي فتى وفتاة، يقعان في الحب ثم يفقدها نتيجة عائق ما قبل أن يستعيدها بعد تغلبه على العائق أو زوال العائق نفسه. هذه هي الصيغة الكلاسيكية لفيلم الرومانتيك كوميدي، بالطبع هناك محطات تمردت على هذه الصورة الكلاسيكية غير الواقعية مثل أفلام وودي آلن ونورا إيفرون. ينتمي فيلم ترير إلى فئة الأفلام التي تتمرد على الصيغة الكلاسيكية للكوميديا الرومانسية عبر واقعيته الشديدة في تناول العلاقات العاطفية وعبر الأسئلة الوجودية التي تتيحها ديناميكيات هذه العلاقات بين بدايتها ونهايتها والخلافات الدائرة بين طرفيها.
تلتقي جولي بمؤلف القصص المصورة أكسيل/ أندريس دانيلسون لي الذي يكبرها بعقد من الزمن، يقعان في الحب ورغم عاطفة الحب الصادقة والتفاهم بينهما فإن فارق العمر بينهما يخلق مساحة دائمة للصراع بينهما. ثم تلتقي أيفيند/ هيربرت نورك متزوج أيضًا وهناك غربة متنامية بينه وبين زوجته. هو في مثل عمرها وهناك انجذاب واضح من البداية بينهما قبل أن ينفصلا عن شريكيهما ويبدآ علاقة جديدة سويًا. يجعل ترير العائق المادي في أفلام الرومانتيك كوميدي الكلاسيكية سيكولوجيًا ووجوديًا في فيلمه.
فارق العمر بين جولي وأكسيل يضع كلاً منهما في مرحلة نفسية مختلفة من التطور والنضج. هو مثلاً يريد الإنجاب بينما هي لا تزال متشككة في قدرتها على أن تكون أمًا، خاصة في مرحلة لا تعرف فيها حتى ماذا تريد أن تمتهن. هو متحقق في عمله وأكثر ثقة في نفسه بينما تشعر جولي بانعدام الأمان تجاه ذاتها والآخرين، هشة نفسيًا، مضطربة ورؤيتها لذاتها سلبية على نحو ما. من هنا يأتي في الأغلب عنوان الفيلم، فهو حكم مجحف لذات تتشكك في قيمتها واستحقاقها لأي شيء. ترى أي فشل كحكم نهائي وكل تقصير أو خطأ يجعلك الشخص الأسوأ في العالم وهو ما ينطبق على شخصيات الفيلم الثلاث بدرجات متفاوتة.
ترى جولي أن هذه العلاقة رغم مزاياها تعيقها عن اكتشاف ذاتها، تشعر طيلة الوقت أنها تعيش في ظله، أو كما تعبر هي: (أشعر كما لو كنت شخصية ثانوية في قصتي الخاصة). في البداية، كانت بحاجة لحبه، لأن ترى عبر هذا الحب من قبل هذا الرجل الذي يكبرها وكأنه أب بديل بينما والدها الحقيقي كما نجد عبر السرد يتجاهلها أغلب الوقت. انشغال أكسيل بكتابته عنها ينكأ جرح إهمالها ونبذها في علاقتها بالأب.
في علاقتها الثانية هي أكثر حرية وأكثر فاعلية، هناك نوع من الحيوية والخفة المفتقدة في علاقتها الأولى. حتى في نوع سينمائي يكاد يكون مستهلكًا، هناك لمسات تجديد تخص ترير: تلاعبه بتوقعات المشاهد، وديناميكيته السردية وتبدل مزاجه النوعي.
سينما يواكيم ترير
يبرع «ترير» خلال أفلامه الخمسة في تقديم شخصيات مضطربة، ضائعة، ذات مزاج مظلم، تقف غالبًا على حافة اليأس الوجودي وكيفية التعبير عن حالتها النفسية والعقلية سينمائيًا. أوسلو دائمًا في خلفية حكاياته، شخصياته دائمًا تمتهن الكتابة أو ذات طموح فني.
لا يمكن الحديث عن أسلوبية مبتكرة بل عن بعض اللمحات الأسلوبية التي تتكرر من فيلم لآخر مثل التعليق الصوتي من خارج الشاشة الذي يعلق على حياة شخصياته، القفزات الزمنية، تعدد منظور السرد بين شخصية وأخرى مع دينامية وتعقد المشاهد. جمالياته هجين بين الأدب والسينما، فتقسيم الفيلم إلى فصول تكتب على الشاشة مع استمرار الراوي العليم عبر التعليق الصوتي الممتد في كل أفلامه، هذه جماليات أدبية في الأساس.
يحتوي كل فيلم من أفلامه على استبصارات سيكولوجية بشأن شخصياته عبر سرد شديد التعاطف مع أبطاله، لا يحاكم أو يدين بل يتفهم دائمًا هشاشتهم وتعقدهم النفسي. كل فيلم هو رحلة وجودية لأبطاله الذين يختبرون إحساس الفقد، الضياع واليأس. رحلة داخلية لشخصياته التي تعاني أزمة وجودية. تبدأ الرحلة وجولي في مكان شديد الفوضوية والقلق. يبدو تغير إيقاع الفيلم ومزاجه كصدى لتبدلات الشخصية الرئيسية، لذلك فالإيقاع المتسارع في البداية يناسب شخصية تبدل مجال دراستها بسرعة شديدة مع هدوء البطلة وتحققها يتمهل إيقاع الفيلم. تنتهي الرحلة بها أكثر سلامًا مع نفسها والآخرين، وحيدة نعم لكنها وجدت مكانًا يخصها في الحياة أكثر راحة وأقل صخبًا.
مشاهد تعلق في الذاكرة
يبدع يواكيم ترير في خلق مشاهد أو تتابعات تعلق بالذاكرة. على الأقل هناك مشهد منها في كل فيلم من أفلامه. تسمى هذه التتابعات ضمن سينما الأنواع (set- piece) وهي ببساطة مشهد أو تتابع له بداية ونهاية واضحة، يجذب الانتباه لنفسه. هو أشبه بفيلم داخل الفيلم، ذو تكثيف ولمسة مبتكرة. وغالبًا ما يمثل نقطة تحول في مسار السرد. قد يكون مشهد حركة في أفلام الحركة أو مشهد لقاء بين حبيبين لأول مرة (meet cute) في فيلم رومانسي. لدينا هنا تتابعان، لا نظن أنهما سيفلتان ذاكرة المشاهد طويلاً.
تتابع إيقاف الزمن حين ترغب في لقاء أيفيند بينما لا تزال في علاقة مع أكسيل. يتجمد الزمن والبشر في أوسلو بينما تعدو جولي لملاقاة أيفيند في لحظة متخيلة. يأتي هذا المشهد مباشرة قبل مواجهة أكسيل وانفصالها عنه كصدى لرغبتها في مراوغة الزمن، في أن تجرب خيارًا آخر في الحب دون أن تتخلى عن الخيار القائم. ونظرًا لاستحالة ذلك فإنها تقرر أن تنفصل عنه لتجرب خيارًا جديدًا دون أي ضمان بنجاحه من عدمه. التتابع الثاني هو واحد من أجل مشاهد اللقاء الأول التي شاهدناها في السنوات الأخيرة. تحت عنوان خيانة تلتقي جولي بأيفيند في حفلة لم تكن مدعوة لها. كلاهما متزوجان، لكنهما يدركان انجذاب كل منهما للآخر. يقضيان الحفل في استكشاف كل شكل ممكن من الحميمية دون ممارسة الجنس ثم يفترقان في الصباح، كل في طريقه.
ليس بالإمكان الحديث عن الفيلم دون الإشارة لممثلته رينات رينسيف التي فازت عن دورها في الفيلم بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان الماضي. يعترف ترير أنه كتب الفيلم لأجلها، حضور مدهش على الشاشة، أداء شديد الزخم والحيوية. نتابعها طيلة الفيلم تنتقل من مشهد لآخر وهي تتوهج جمالاً وانفعالاً.