مسلسل «The Wire»: ميثولوجيا ومانيفستو جمالي ضد الرأسمالية
تُقدم الميثولوجيا الإغريقية الكون بااعتباره تناغمًا صارمًا، كل حركة فيها لها إله قيوم عليها، هُناك إله للحُب وإله للرعد وإله للبحر، العُنصر الوحيد الذي يخلق الفوضى في هذا العالم هو الإنسان الفرد، لذا تدور قصص الميثولوجيا دومًا حول أفراد يتمردون بفعل بسيط فتُعاقبهم الآلهة عقابًا أسطوريًّا، يخدع «سيزيف» إله الموت مرة فيكون عقابه أن يدفع صخرة لقمة جبل ثم تتدحرج للأسفل، فيعاود رفعها للأبد في دورة عبثية، يصطاد «أجاممنون» غزالًا بالخطأ في غابة الإلهة آرتيميس، فيكون عقابه التضحية بابنته لترضى عنه الإلهة وتُحرك سفنه في حرب طروادة، يسرق «بروميثيوس» سر النار ويمنحه للبشر ليبدءُوا حضارتهم، فيعاقبه «زيوس» بنسر يأكل كبده كل يوم.
تدور كل الأساطير الإغريقية حول فكرة واحدة، هي أن الكون قوامه حالة توازن سحرية بين قوى إلهية، أي محاولة فردية لإفساد هذا التوازن ستسحق صاحبها.
لكن ماذا لو كانت تلك الديناميكية البدائية هي ما يُحرك العالم الآن؟ ماذا لو كانت الآلهة هي المؤسسات البيروقراطية التي تُدير المجتمع مثل الاقتصاد والتعليم والشرطة والحكومة؟ ماذا لو كانت غايتها استبقاء حالة من التوازن الظالم الذي لا يخدم سوى تلك المؤسسات؟ ماذا لو كان البشر هم العنصر العبء في المُعادلة، والذي تحيا تلك المؤسسات على قتل كل محاولاته للتمرد عليها؟
في عام 2002 قدم «ديفيد سايمون» و«إدوارد بيرنز» تُحفة The wire التليفزيونية التي تدور في خمسة مواسم عن حرب المُخدرات في بالتيمور الأمريكية، حرب تُقدم نفسها كحبكة ثانوية لا أكثر للبطل الحقيقي، وهو الفساد المُنظم الذي يتداول نفسه في توازن شيطاني بين مؤسسات المدينة، ومثل أي أسطورة إغريقية لا تتحرك الأحداث إلا بأبطال مُتمردين على منظوماتهم ومفسدين للتوازن، وبالتالي يجب عقابهم مثل سيزيف وبروميثيوس.
أول المتمردين هم كُتاب المسلسل نفسه، ديفيد سايمون هو مُحرر جرائم في صحيفة بالتيمور صن لمدة 12 عامًا، بينما إدوارد بيرنز هو شرطي سابق ومُدرس في نظام بالتيمور التعليمي، دُخلاء بالكامل على عالم الكتابة التليفزيونية، أو بالأحرى لاجئان له من مؤسسات انتميا لها طويلًا ولم يتحققا عبرها ولم يُقدما للمجتمع تأثيرًا يُذكر، لم يخرجا من مؤسساتهما إلا بحكاية، يُخبرنا سايمون أن كتابته لا تخضع لقوانين عالم الترفيه، لا تملأ ساعات المُسلسل، بل للواقع، لقصة يجب أن تُروى كما حدثت من دُخلاء لا ينتمون لتلك الصناعة، إنما اتخذوها منبرًا وحسب لحكاية اقتاتت على سنوات عمرهم.
بطل المسلسل هو «جيمي ماكنالتي» مُحقق جرائم أسير منظومة شرطية لا تعبأ إلا بإغلاق القضايا وتزوير إحصائياتها؛ لتُقدم نفسها كما لو كانت تعمل، محققون بدُناء من فرط النوم على مكاتبهم لكنهم ينالون الراتب، وهذا ما يهم في النهاية، وآلاف القضايا التافهة قوامها مدمنون ماتوا بجرعات زائدة في النواصي، يُحرك ماكنالتي الخيوط بشكل يؤرق الجميع ليجبر مؤسسته على مطاردة عصابات المخدرات بعمل شرطي حقيقي قوامه ساعات من التنصت على المكالمات والمراقبة والتعاون بين مؤسسات ثقيلة ونائمة.
يستمد المسلسل اسمه من تلك الفكرة، فسلك التنصت هو رمزية التلصص على عوالم المدينة الحقيقية، خارج إحصائيات الشرطة الكاذبة ودعاية الحاكم، فعل التلصص على بطن المدينة الأكثر قذارة من واجهتها النظيفة هو فلسفة المسلسل بأكمله، لا أحد يعلم لأين سيقودك سلك تنصت مسالم؟ سيقود «ماكنالتي» فريقًا من المحققين الأكْفاء المغضوب عليهم من مؤسساتهم والمنفيين في قبو لإفسادهم توازن إداراتهم الكسولة، سيتتبعون سلك التنصت، وفي نهاية الخيط سيجدون أن تجارة بالتيمور المحرمة راسخة بفضل تدوير أموالها كلها في جيوب سياسيين ونواب فاسدين حريصين على إبقاء حرب المخدرات في وضعها البدائي، يُسقط «ماكنالتي» إمبراطورية كاملة، لكنه ينال عقابه الإغريقي، تُعاقبه مؤسسته بالنفي ليعمل في خفر السواحل، عقاب حداثي شبيه بعقاب سيزيف وبروميثيوس القديم على تمردهم.
بينما يُلقى سلك التنصت في كل موسم في أحد مستنقعات فساد المدينة البيروقراطية، في مستنقع التعليم، في ميناء المدينة الاقتصادي، في صحيفة المدينة، في مبنى العمدة، تحدث عناصر المأساة الإغريقية نفسها.
توازن فاسد يتم إقلاقه من متمردين فُرادى فينهار، لكن تستعيد المؤسسات عافيتها كل مرة كآلهة إغريقية قيومة على فسادها، وتسحق أفرادها المتمردين.
يُمكنك أن تشاهد المسلسل بأكمله لترى كيف تتشظى الحكايات في ظاهرها، لكنها تتوحد بالكامل خلف هذا النمط الإغريقي الحزين الذي يقتات على أفراده، أو يُمكنك أن تكتفي بالمشهد الأول من المسلسل الذي لخص مغزى الحبكة، حيث يجلس الشرطي «ماكنالتي» جوار جثة صبي كان يلعب كل أسبوع لعبة نرد ويسطو على المال ويُشبعه اللاعبون ضربًا ثم يعاود الكرة، يساءل ماكنالتي هذا السيناريو العبثي الذي يشبه دورة سيزيف:
«ما دام كل مرة يسطو على اللعبة فلماذا يسمح له باللعب من الأساس؟»
يُخبره أحد فتيان بالتيمور بحكمة الشوارع:
«تلك اللعبة، لا بد أن يلعب الجميع، تلك أمريكا يا رجل».
تدور رأسمالية بالتيمور حول لعبة مؤسسات فاسدة، لكن أساس اللعبة هو التظاهر بأنها تفعل الصواب، لذا يُمكن سحق المتمردين على اللعبة في كل مؤسسة بقوانين كل مؤسسة، لكن لا يمكن إقصاؤهم عن اللعب، الكل مدعو للعبة التظاهر الرأسمالي بالحياة في مدينة فاضلة.
يوتوبيا أفلاطون الفاضلة وديستوبيا بالتيمور
ما يبدو لك كدراما إغريقية لمؤسسات مؤلهة تسحق أفرادها الذين يحاولون إقلاق توازن المدينة الفاسد، ليس جحيمًا يُمكن النجاة منه بالخروج من بالتيمور، ما يجعل the wire دراما أعمق بكثير من الانتماء لجونرة العصابات هو أنها عينة قصد ديفيد سايمون أن تكون ممثلة لأمريكا بأكملها.
أراد «أفلاطون» الذي ورث الميثولوجيا الإغريقية ورؤيتها الجحيمية للعالم أن يخترع المدينة الفاضلة خاصته، ليقدمها كعينة من الحكم الرشيد ليقتدي بها العالم بأكمله، الجمهورية التي سيحكمها الفلاسفة وستعمل في توازن فذ، كل طبقة فيها ستقوم بدورها، وكل فرد فيها سينتمي للطبقة التي تُناسب قدراته، ظلت تلك المدينة يوتوبيا غير متحققة، يلتقط مؤلفو the wire الخيط نفسه ويُقدمون وراثة ساخرة بشكل سوداوي للميثولوجيا الإغريقية.
لم تحقق الرأسمالية مدينة فاضلة، ولم تسند آلياتها لحكماء، بل أقامت في دراما ديفيد سايمون مدينة جحيمية هي بالتيمور وهي عينة من الحكم البليد الذي تقود به الرأسمالية كل مدينة في أمريكا.
شخوص the wire لا يخضعون للتبسيط الأخلاقي الخاص بمجرمين أشقياء وضباط أتقياء، مدينة بالتيمور هي مدينة 47% من سكانها سود البشرة، خارج قوى العمالة، لا يحتاجهم أحد، ولا يعبأ بهم أحد سواء هم أتقياء أو أشقياء، كلهم يحاول النجاة بالطريقة التي يعرفها. تلك قصة المسلسل صراع الأفراد مع مؤسساتهم لا صراع الخير والشر.
لا يريدك المسلسل الانحياز لطرف، بل أن ترى اللعبة من علٍ، فالعيش في كنف رأسمالية قاسية يشبه أن يسيج المجتمع قفصًا جميع من فيه مجبرون على اللعب، وأدوارهم موروثة من الطفولة غير مكتسبة بتعلم.
في الموسم الرابع يحاول المسلسل مساءلة النظام التعليمي لبالتيمور، حيث يتظاهر المدرسون بالتدريس والطلبة بالتعلم، وتقوم المدرسة بإنجاح الطلبة قسرًا لتحافظ على إحصائياتها نظيفة لتنال الدعم المالي، بينما في الحقيقة المدرسة هي تدريب أولي للأطفال على عصيان السلطة في كل أشكالها؛ لأن عصيان السلطة ومراوغتها استراتيجيتهم للنجاة وتدريبهم الوحيد قبل أن يكونوا فتيان زوايا يبيعون المخدرات ويراوغوا سلطة الشرطة الحقيقية.
يُجيب الأطفال معلمهم عن سؤال ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟ أنهم سيكونون فتيان زوايا، وأنهم سيفعلون ما ورثوه عن آبائهم وسيموتون شبانًا في خلال عشر سنوات على الأكثر، تلك الإجابات الباردة هي سمة the wire، الجميع من الأطفال للمجرمين للضباط للمعلمين للصحفيين للعمدة نفسه يُدركون القفص الذي يسور مجتمعهم، والمؤسسات التي ينتمون لها، ولعبة التوازن التي تسهر تلك المؤسسات بقيوميتها عليها، على الجميع أن يلعب، حتى لو علموا أن نهاية اللعبة هي هلاك محتم
البطولة للمتمردين
يُلقي ديفيد سايمون وإد بيرنز سلك التنصت ويقومان بالتلصص متوسلين منصة فنية ووسيطًا دراميًّا ليكشفا اللعبة الحاكمة لمدينتهما التي عاشا فيها في أدوار الرعاية، دور شرطي ودور صحفي تحقيقات، لكنهما اكتشفا أنهما يستديمان واجهة لا أكثر، أكبر رعب تصدره الرأسمالية هو وهم حرية الإرادة، أن يتوهم الفرد في منظومة أنه يقوم بعمل ذي قيمة، تمنحه المنظومة شارتها وراتب الانتماء لها وتحققًا نفسيًّا كاذبًا بينما في الحقيقة أحيانًا ما تكون الفاعلية المجتمعية الحقيقية رهينة التمرد على المؤسسة، مثلما تمرد المؤلفان على أدوار حياتهما وصارا كاتبي دراما شخوصها أبطال تمردوا على أدوار مؤسساتهم وقدموا لنا النار مثل بروميثيوس، لا يعمل سلك التنصت إلا كشعلة نار في مستنقع مظلم، فعل الرؤية لكل العفن مؤلم، لكن لا بديل عن النظر.
الجميل في wire أن كل محاولات التمرد على المنظومات لم تكن محاولات وعظية أخلاقية، بل كانت محاولات ذكية تستقي شكلها من طبيعة المجتمع الذي يؤطرها.
في الموسم الثالث يخلق مفتش شرطة حل «هامستردام»، وهو إستراتيجية تجمع كل تجار المخدرات في مكان واحد، زاوية مقننة تغض فيها الشرطة الطرف عن المجرمين بشرط ألا يجاوزها المجرمون للبيع في أماكن أخرى، وهذا يجعل أكثر من ثلثي المدينة زوايا آمنة بينما الثلث الأخير أشبه بساحة مفتوحة لكل الرذائل، مبادرة ميكيافيلية يائسة لكن نتائجها تجعلك تتأمل ماهية الحلول الممكن توليدها من بشر مقموعين في مدينة كقفص مغلق هم عنصر فائض فيها عن حاجة المؤسسات.
بينما بدأ الموسم الثاني بخلاف بيروقراطي بين مفتش شرطة ومدير نقابة الميناء على تعليق لوحة في كنيسة، خلاف شديد التفاهة بين إيجو أفراد يمثلون مؤسساتهم يطلب على أثره المفتش رجال شرطة أكْفاء لمراقبة خصمه، مما يمنح قبلة الحياة والعودة للأبطال للقيام بعمل شرطي سيكشف فسادًا أضعاف ما توقعه الجميع، بينما جاهد البطل «ماكنالتي» سابقًا لنيل أجهزة متطورة لمطاردة مافيا بالتيمور وقوبل بتجاهل أجهزة فيدرالية لا تجد حرب المخدرات عنوانًا جذابًا أمام عناوين مثل حرب الإرهاب بعد 11 سبتمبر، كان خلاف بيروقراطي تافه بين أشخاص ذوي سلطة كافيًا لتحريك المياه الراكدة ومنحه كل ما يريده.
أفعال التمرد والحركة التي دفعت دراما the wire للأمام كل مرة ليست وليدة نزعات مثالية ومبادرات أخلاقية، بل هي مبادرات ميكيافيلية، فمسار الأبطال الشرطيين في the wire لم يكن بطوليًّا على الإطلاق، إنما هو لعب على تناقضات حتمية تخلقها بنية المؤسسات في رأسمالية مغلقة نخبوية، مثل نظام محكم، العطل في بعض أجزائه دليل حيويته، تلك التناقضات كانت ما يدفع الدراما كل مرة وتُحيي أبطالها بعدما تسحقهم مؤسساتهم.
ستصل تلك التيمة لذروتها في الموسم الأخير عندما لا يجد الشرطي ماكنالتي بدًّا من اختراع هوية قاتل متسلسل يُرعب بالتيمور ليؤمن التمويل الكافي لعملية تنصت على حرب مخدرات لا يعبأ بها أحد.
أبطال wire ليسوا فرسانًا أخلاقيين بقدر ما هم متمردون يُحاربون فساد مدينتهم بطرق ملتوية تليق بفأر عالق في متاهة لا تمنحه مؤسسته تحققه فيكتسبه باستعدائها وفضحها أمام نفسها بجعلها تؤدي مهمتها الأخلاقية مرة، ولو بالإجبار.
جاذبية أبطال المآسي الإغريقية ليست في كونهم أخلاقيين، سيزيف خدع إله الموت، وبروميثيوس كان سارقًا، ما كان جذابًا بشأنهم هو أنهم اختاروا أن يحيوا وفق قانون يخصهم في عالم لا يغفر تلك الخطيئة أبدًا، في الميثولوجيا الإغريقية الآلهة هي المؤسسة الوحيدة القيومة على توازن العالم، ولا مزايا للفرد خارج طاعتها، لذا بطولة هؤلاء الأشقياء هي في تمردهم على المؤسسة الوحيدة التي تضمن حياتهم، ومساءلتها والسخرية منها.
لم يمنح مؤلفو the wire أدوار البطولة إلا لمن يحمل تلك السمة سواء في جانب الشرطة أو في جانب المجرمين، فأبرز شخصيتين إجراميتين في المسلسل هم «ستراينغر بيل» و«أومار ليتل»، والأول هو متمرد رأسمالي على بدائية عمليات المخدرات حاول رسملة التجارة بأكملها وجعلها بيزنس أكثر تطورًا، ومثلما كان قانون اللعبة حاسمًا تجاه شرطي يحاول إيقاظ مؤسسته، يقدم مؤلفو the wire منظومة الإجرام كمؤسسة، عاملت ستراينغر بيل كمتمرد ومفسد لنظامها ولكود الشارع خاصتها؛ لذا يتم قتله على يد منظومته نفسها.
بينما المتمرد الثاني هو «أومار ليتل» قاطع الطريق الذي يسير بسلاحه في المدينة ويملك كودًا يخصه، يسلب تجار المخدرات بضاعتهم ولا يسرق مدنيًّا أبدًا لأن المدنيين خارج لعبته، ما منح تلك الشخصية الثانوية جاذبية جارفة غطت أحيانًا على أبطال المسلسل لدرجة أنها نالت إعجاب رؤساء مثل أوباما، هو أن أومار مُتمرد على كل المؤسسات، لعبته فردية، وطريقه يسير فيه وحده، وبينما يتخفى البيروقراطيون خلف زي رسمي مثل زي شرطي أو عمدة أو معلم أو سياسي ويتخفى تجار المخدرات في شوارع المدينة الخلفية، يذخر أومار سلاحه ويسير في شوارع بالتيمور في الظهيرة، بينما يفر الجميع من أمامه.
أومار عنصر إفساد مسرحي لمظهرية لعبة بالتيمور التي تحرص كل المؤسسات على استدامتها، وبينما تتحرك الدراما بمتمردين على تلك المؤسسات من الداخل، يكشف أومار في ترحاله الفج قدر التحلل في تلك المدينة، كانت جاذبية مجرم متجول لا يخضع كمخبر للشرطة ولا كتاجر مخدرات في منظومة هي التوقيع الأخير لكتيبة المتمردين التي صنعها ديفيد سايمون وإد بيرنز من تمردهما الشخصي على أدوار استنزفت حياتهما ولم تنقذ مدينتهما، فاختارا أن ينقذا مدينتهما بحكاية تلفزيونية.