مُصارع الريح
رياح الفتنة يا صديقي هي كل مرات لهوك وضياع وقتك في أمور لا تجلب سوى الشقاء، أمور اعتقدت أنك أقوى من فتنتها، فأصابتك بالعجز والهوان والاكتئاب حين جعلت منها حياتك وميزت بها نفسك بين العالمين، قدست اللهو على الجد والمجد واعتنقت الكبرياء ولم تأبه بالنصح؛ فاستمع:
يقولون إنك تخرج من رياح الفتنة كل مرة أقوى! كمن يخرج ليركض عكس اتجاه الريح، تخرج بجسدك كاملًا وبقوتك فتيًا تصارع الريح ولا تهاب عواصفها ولا تخشى زوابع غضبها، حتى إذا ما اشتد عليك الأمر وزادت سرعة الرياح وتهافتت الرمال بين جفنيك؛ ينتهي بك الأمر خافتًا باهتًا مكتئبًا غير قادر على الصراخ أو البكاء، لا تعي ما تشعر به لأنك قد تناسيت جوارحك، أمسيت لا تقوى على الكلام أو الإفصاح عما بداخلك، تخرج على وهم أن الناس يكترثون لأمرك.
ما قد حل بك يا صديقي شفافًا باهتًا خافتًا لا يُرى على وجهك، فلا يحمل همك إلا أنت، تأمل وترجو البكاء أو الصراخ وهما أبعد مما تظن، هما الرجاء البعيد، تقف في وسط الطريق وقد مرت الليالي وأنت مازلت في مكانك لا تقوى على الحركة، عاجز عن الشعور، عاجز عن الحزن، حتى تُحدِث فيك الرياح خرقًا فتستفيق على صرخات خسرانك، ليس حزنك هنا على ما اقتطعَتْه الرياح من عنفوانك وقوتك، ولكن على ما خسرته من الزمن، حزين أنت على تلك الليالي التي غمرتك بظلامها الدامس.
الآن وقد دبّت فيك الحياة من جديد؛ تسمع نبضات قلبك لمجرد أنك تشعر بالحزن، تشعر أنك مازلت موجودا، تتلمس أشياءك، تتفقد أهدافك، تسترجع ذكرياتك وملامح جنبات الطريق، عاد الضوء من جديد، أشرقت الشمس وقد حان وقت الركض من جديد، تتناسى أحزانك لمجرد أنك تستعد لما هو قادم من عواصف وزوابع جديدة، الآن أنت خائف فقط من شيئين: فتنتك التي تدخلك في الاكتئاب، والموت، لا فرق بينهما، الصمت فيهما واحد.
الآن وقد اقتطعت منك الرياح جزءًا، فقد أصبحت أسرع وأكثر مرونة من ذي قبل، لكنك الآن أضعف، الآن تشق الرياح شقًا، وشراعك جذوة من النار تصطلي بها الطريق، الآن لست أنت هدف الرياح، بل نيرانك يا صديقي، حتى إذا ما اشتدت قضت على جذوتك وغمرت دنياك بالسواد الحالك، فتتوقف كي تشعل نيرانك وتتحسس الطريق، حينها تباغتك الرياح مرة أخرى وتصيبك بالعجز.
باهت خافت مكتئب، تختنق وتعجز عن طلب المساعدة، لا أحد يراك وإن كنت مرئيًا، ولو للحظة بصروك ضئيلًا غامضًا، أنت هشّ كالميت في مقبرة قد مر عليها ألف عام ومحا التراب أثر من يرقد فيها، غريق مشلول لا يستطيع الصفع على وجه الماء فيراه الناس، حتى إذا اشتدت الرياح تمهيدًا لهدوئها أحدثت فيك خرقًا آخر، فتثور بصراخك على غفلتك، تعود إلى الحياة بهلع في داخلك، تتظاهر بالمرح مع الناس وهم لا يأبهون لمرحك أو لهلعك، تأنف من الطعام وأنت تشعر بالجوع، لا تعرف ما يرضيك، تجول بذاكرتك بين حيواتك فلا تجد فيها إلا ماض باهت خافت يثير الاكتئاب وحاضر كالح السواد ومستقبل مجهول الهوية أو لا مستقبل لك.
الآن وقد اقتطعت منك الرياح جزءًا آخر؛ فقد أصبحت أخفّ وزنًا توجهك الريح وأنت تجهل كل شيء حولك، تجيد الصراخ والبكاء والحزن، تجيد الشعور حتى ولو بالسعادة، أنت الآن وحيدًا تعرف ما أصابك من ضربات الرياح، تعرف أنك تكتئب من حين لآخر، وتنتظر الضربة القادمة وترجو أن تكون الأخيرة وينتهي كل شيء، تتحسس آلامك لكي تشعر أنك مازلت على قيد الحياة، كي تقتنص لحظات السعادة وترجو أن تدوم حتى يأتي يوم رياحك.
الآن أنت على بصيرة من مصابك، تكافحه بجلسة الأصدقاء وطاولة الطعام الشهي والنوم الطويل وذكريات مبسم طفولتك وغرامك بفتاة الحي المجاور، تداعب عقلك بالقراءة والأفلام حتى لا يصيبه الملل فيركن إلى التفكير في اتجاه الرياح، لا تريد أن تسقط من على بساط الوهم فتتخبط بين جنبات الرياح العاتية، تتلذذ بما بقي لك، لست الآن ذالك الفتى القوي الذي يصارع الرياح ولا يخشاها، أنت الآن ممن تحمله الرياح في مجراها، وتخترق الأزقة وأنت على بساطها، تتأرجح بك بين الجدران، وكل جدار يغتنم من جسدك ما شاء الله.
ينتهي بك الحال يا صديقي وأنت لا شيء يُذكر، ذهبت وكأنك لم تكن، لن يتذكرك القوم؛ ففي الساحة ألف مصارع مفتول العضلات، يشقون الرياح شقًا، مثلك تمامًا، أوهمتهم أنفسهم وأنفس الواهمين من أصحاب الهوى أنهم قادرون على أن يعبروها بسلام آمنين.
لا تقلق يا صديقي، هناك من سبقك إلى اللاشيء الذي وصلت إليه، وأنت بين أيديهم التزم الصمت واجلس بينهم، لا تنظر في عيونهم فلست بالجريء ولا هم ولا اللاحقون، إنك لا تستطيع حتى أن تخبر اللاحقون بقصتك حتى يعتبروا بما حل بك، لا تستطيع أن تكشف لأحد غيرك عن وهنك وضعفك، أنت البائس الذي اعتقد أنه سيقضي على فتنة الرياح.
ستجد هناك في اللاشيء أصحاب الهوى والبائسين مثلك وأتباعهم ومن أيقظ الفتنة وجعل منها رياحًا، هناك يتسع المكان للجميع، قد أخبرتك من قبل أن يا صديقي لا تضع نفسك في مهب رياح الفتنة فتفتتن وتضيع آمالك، ولكن حماقتك وافتتانك بقوتك جعل منك شخصًا أهوج يسلك من الطرق ما لا يعرفه، لا أحد يقوى على الفتنة ولا الشبهة يا صديقي. أظن أنني قد غمرت جسدك بسيوف العتاب، دعني أقول لك هوّن على نفسك فأنت إنسان، وانظر لحالك واستفق من غفلتك عل الله يخلصك من فتنتك.