أصل عائلة الأبيض: فصل من رواية «جنازة السيدة البيضاء»
«أصل عائلة الأبيض»
يقولون في «نخطاي» إن أساس عائلة الأبيض صبية اسمها «نعمة»، ويستشهدون بما يحظى به ذلك الاسم من التقدير في كل الأجيال؛ فهو أول ما يطرأ على الذهن عندما تولد طفلة في العائلة، ولم يخلُ جيل من بنت اسمها «نعمة».
في قديم الزمان، كانت نخطاي مجموعة من الدور وقصر آل راضي وأرض النخيل، تحيطها البراري على امتداد البصر. في ذلك الزمن ظن الناس أن بلدتهم آخر بلدة في البر، وأن من يمشي خلال البراري حتى نهايتها سوف يصل إلى بوابات العالم الآخر.
في تلك الأيام البعيدة، وفي ظهيرة من ظهيرات الصيف، كانت صبية تغسل المواعين عند شاطئ الترعة. تحت شجرة صفصاف شعر البنت. الماء في الترع عال في ذلك الوقت من الصيف. تفوح في الجو رائحة الطمي. ونخطاي تستعد بسدودها لكي تواجه الفيضان. الماء يمور حولها عارمًا، بلونه الطيني اللامع. رفعت الصبية عينيها فرأت شابًا من عائلة راضي يقع من فوق الحصان. كل ما فعلته أنها ضحكت وكتمت ضحكتها في صدر جلبابها عندما قام الولد من الأرض ونظر إليها بغضب ثم نادى السايس بأن يسحب الحصان إلى الإسطبل.
يقولون في نخطاي، إن هذا الموقف هو أساس عائلة الأبيض، بكل ميراثها من العلم والاعتزاز بالنفس المبالغ فيه الذي يسميه العقيد عثمان الفقي «عجرفة فارغة» أو «نفخة كذابة»، لكن الأهم أنه أساس وضع مقبرتهم في القلب من ذلك الميراث، تُروى قصتها على أنها حكاية العائلة.
عائلة الأبيض من بين عدد محدود من عائلات نخطاي تصر، حتى انكسار العقد الأول من الألفية الثالثة، أن تقضي شطرًا من الأعياد مع الجدود في المقابر. عادة ما زال يعمل على صيانتها الآن «أنس الأبيض»، مدرس الرياضيات في مدرسة نخطاي الثانوية والأخ الأكبر لنعمة التي ترقد الآن تصارع الموت وقد أغمضت عينيها منتظرة القضاء، تفكر في باحة البيت، وأبوها يرتدي الجلباب الكشمير والعباءة في صباح العيد الكبير ويقول: «يا الله يا بت أنتِ وهي، شهّلوا شوية، نلحق نزورهم قبل الشمس ما تطلع».
لا بد أن يقوم أكبر فرد في عائلة الأبيض بأداء مراسم ليلة العيد. يفرش الحصير ويجلس بجوار أهله عند القبر. رغم أن هذه العادة قد بطلت، وتوقف أغلب أهل نخطاي عن تناول إفطار آخر أيام رمضان ووقفة عيد الأضحي في المقابر، لكن عائلة الأبيض لم تتوقف عنها. وفي الأعوام الأخيرة ازداد إصرار العائلة على تلك العادة عندما أبطلها انتشار الأفكار السلفية ولم يعد أحد يذهب في الأعياد إلى المقابر، غير عجائز البلد.
الناس في نخطاي تعرف قصة المقبرة، ولذا لم يعتبروا الأمر خروجًا عن الإجماع ولا تحديًا للتفسير الجديد الذي أشاعه السلفيون، بل محافظة على ذكرى دماء سالت عندما بُنيت تلك المقبرة.
ترسّخت حكاية المقبرة في الأذهان بسبب تلك العادة. لا أحد من عائلة الأبيض لا يعرفها. فقد حُكيت أمامه عشرات المرات حتى «مروان» ابن نعمة الذي يُكمِل دراسة الطب في ألمانيا وبنتها «منار» التي تعمل طبيبة في معهد ناصر في القاهرة، يعرفون تلك التفاصيل، التي سمعوها وهم يلعبون على المراجيح في باحة الدار، أو في الغيط في أصباح ضبابية ينتظرون فيها الجمال لتحمل القمح والأرز، أو في الليالي الواسعة لنخطاي عندما ينقطع التيار الكهربائي لساعات طويلة.
في تلك الحكاية أمر لا يطوله القدم، وإن كانت بعض تفاصيلها تتعرض للسخرية وتجعل المتمرد من فتيان العائلة يتوقف ليسأل كيف نُقلِت هذه التفاصيل عبر السنين؟ لكن الأمر لا يخلو من تسامح، فقد شاهدوا أكثر من دليل على صدق الحكايات.
عبدالله بن راضي كان شابًا لم يبلغ العشرين من عمره. أُغرَم بالفتاة التي ابتسمت وطلب أن يتزوجها. كيف يمكن أن يتزوج ابن البيت العريق واحدة من بنات البلد حتى لو كان أبوها شيخ الفلاحين؟
تأتي البنت لتخدمه في البيت الكبير، لكن أن يتزوجها؟ ينقلها لتعيش في قلب عائلة راضي؟ في البيت الكبير الذي جاءت حجارته من جبال الصحراء الشرقية يحملها سبعة وسبعين جملًا، حتى المراكب التي تنتظر في النيل لتُبحِر بها إلى أن ترسو في بلدة قريبة من نخطاي، ويأتي الناس من بقاع الأرض ليعملوا بحميرهم مقابل قطع صغيرة من الفضة، في حمل حجارة البيت الكبير إلى مكانه الآن بالقرب من أرض النخيل؟ كيف تدخل- مثل تلك البنت- البيت الكبير وتعيش فيه كواحدة من أهله؟
كان الشاب عنيدًا مثل أهله. وقف في وجه الجميع وأصرّ على أن يتزوج البنت. فظهرت قسوة عائلة راضي التي لا يتورع كبارها عن أن يرموا في «الجُب» حيًا منْ يتمرد عليهم. قرّر أخوه الكبير أن يحبس الولد المائع. لا يرى النور حتى يتخلص من جنونه.
بعض الحكايات تدّعي أنه حُبس في الجُب بالقرب من عظام الموتى والأرواح الهائمة لمن أُلقي بهم أحياء في الأزمان القديمة. لكن أحدًا لا يعرف الحقيقة على وجه التحديد. حبست نخطاي أنفاسها وتلمّس الناس الأخبار عن طريق الخدم وعمال الإسطبل ومن يعملون في المخازن والزرائب؛ فقد كان غضب آل راضي مهولًا، ويعرف الفلاحون أنهم منْ سيدفعون الثمن في النهاية، يمكن أن يُجلَد أحدهم لمجرد أنه رفع صوته دون أن ينتبه، أو لأنه تأخّر عن توريد محصوله، وبلا سبب يتم تكليف مجموعات منهم بأعمال تطهير القنوات والترع وإقامة السدود وحراسة المحاصيل.
ظهر معدن الشاب وبرهن أنه يحمل عناد أهله وصلابة رؤوسهم، فعندما حبسوه، ذهب أبعد منهم، ورفض الطعام والشراب، إلا ما تيسر تحت إلحاح أخته «نجيبة». وبينما الشاب في محبسه في قعر البيت الكبير يُحيطه الصمت ورهبة أرض النخيل والبراري الممتدة غرب البلد، بكل ما كانت تحمله وقتها من مخاوف، ألف الناس أسطورتهم كي يُبرِّروا ما يتجاوز إدراكهم، ويصيغوا حسهم الغامض كما يحدث منذ بداية الزمان. فقالوا إن نعمة بنت الشيخ جابر لم تكن على الترعة في ذلك اليوم بل كانت تخبز في دار خالتها، ويعلنون الأمارة؛ ففي ذلك اليوم خرجت حمارة وداست العجين وكانت عركة، فضّها الشيخ جابر بحكمته.
يقولون إنها النداهة ما تراءت للشاب في هيئة نعمة. فالبنت ليس لها ذلك الجمال الأخّاذ لبنات عائلة السعدني. فتاة عادية، مليحة أي نعم، لكن جمالها لم يكن مُبهرًا ولم تكن حتى بمهارة كثير من البنات، ولا يمكن أن يتعلّق بها رجل على هذا النحو إن لم يكن في روحها بريق الجنيات، ويدفعه تعلقه إلى أن يصوم عن الكلام والطعام حتى يصل إلى حافة الموت. لم يصدق أحد أن شابًا من آل راضي يجر على نفسه الويلات من أجل بنت من بنات البلد.
سدّت قصة النداهة فجوة عدم التصديق لكي تجعل اللوح السماوي يبرهن على صدقه وتحدث المصائر المكتوبة فيه منذ القدم؛ فالزمن لا يتجدد ولا يُحدِث، بل يُنسَخ على الأرض ما هو مخطوط في كتاب السماء. تمثلت له النداهة في شكل البنت وصوّرت له ما رأى، لكي يعبر الحاجز وينتقل إلى الشط الثاني ويُجرِّب عيشة الناس، يقوم بالرحلة العكسية. إن كان الناس يطلبون أن يصعدوا إلى القصر ها هو يترك القصر وينزل ليعيش حياة الناس، يأكل من خبزهم وملحهم.
قالوا إنه كاد يموت، حتى اقترح الخولي حلًا يُجنبهم موت الولد والفضيحة. الأمر بسيط، قال لهم: «تبرّأوا منه». في النهاية أخرجوه من الظلمات التي سكنها ثلاثة أشهر. خيّم الصمت عليهم، فقد خافوا مما رأوا. العيون العسلية الناصعة اتسعت حتى تضاءلت حولها بقية الملامح. والحاجب الكثيف تقارب ونمت عبسة شبكت الحاجبين ومنحت نظرته في لحظة الغضب جهامة لن يتحملها الكثير ممّن عاصروه، لكن ما صعُب عليهم تصديقه أن شعره الأصفر الناعم بدأ يتساقط وظهرت صلعة في مقدمة رأسه وهو لم يصل إلى العشرين من عمره.
في اليوم التالي جاء القاضي من «سخا»، وجاء كبار العائلة من «فوه» و«سمنود»، ووقّع عبدالله بن راضي على حجة يُقر فيها بأنه لا حق له في أرض العائلة وقصورها في فوه، وفي مصر المحروسة، وفي نخطاي. عندها سمحوا للشاب أن يُغادر البيت في عصر يوم غمرت فيه مياه الفيضان الأرض، فلمعت سمرتها الناعمة تحت ضوء شمس الغروب. خرج من البيت الكبير يلف رأسه بشال أبيض ويرتدي جلبابًا من جلابيب الفلاحين.
الشيخ جابر أبو البنت يزرع الأرض مثل الناس. في شبابه تعلّق ببعض المتصوفة ورحل معهم وعاش في سخا فترة، لكنه عاد قائلًا إنه لا حمل له على تلك الحياة، وأنه خُلق ليعيش من كدّه، وأصبح شيخ البلد لأنه يقرأ ويكتب ويحفظ بعض القرآن، أنجب بنتين، تزوجت الكبيرة من ابن خالها، ونعمة التي كان مُقدّرًا لها أن تقلب حياة العائلة.
خاف الناس على الشيخ من غدر آل راضي، لكنه راح يطمئنهم ويطمئن نفسه بأن «الحجة» التي كتبها عبدالله على نفسه سوف تحجب عنه المخاطر، وتحميه من الغدر، بخاصة أن ما حدث قد حظي بترحيب من العائلات المنافسة: آل العيسوي وفروع عائلة السعدني الذين كانوا ينتظرون أي كارثة تحل بآل راضي.
كان العُرس بسيطًا يغص بالمخاوف والترقب فقد ظل الاحتمال قائمًا أن يكبس آل راضي بجيادهم في أي لحظة ويفضوا العرس أو يقتلوا الولد والبنت.
ظلّت تلك الحكاية حيّة في ذهن الناس كواحدة من عجائب الزمان، أن يهرب أحد أبناء راضي ويتزوج بنتًا من البلد، بدل أن تعمل خادمة في قصره، أو تُحمل في الليل وتضيع في البراراي، أو تلقي بنفسها إلى قاع بحر النيل. ما حدث كان عجيبًا، فلم ترتفع البنت لتعيش في القصر، بل نزل الولد ليعيش عيشة الناس.
نظر الناس إلى عبدالله بحذر في البداية، متأكدين أنه لن يستطيع أن يصمد معهم في العمل، وبعد أن ترحل زهرة الشباب ويأخذ مراده من البنت، سوف يتركها ويعود إلى بيت أهله الكبير.
لكن الرجل خيّب كل التوقعات، وظل يعيش حياة الناس. يربط رأسه بالمنديل مثلهم، ويميل ليبذر أو يعزق، وفي مواسم الحصاد يكون أول من يركب النورج ويدور ببهيمته فوق القمح. لا تُفارقه زوجته أبدًا. تنزل معه في الطين لتساعده على تعلية الحد بينه وبين جيرانه، أو تمسك المنجل وتحش البرسيم معه. عملت مع زوجها كل شيء، ويُقال إنها هي التي علّمته الفلاحة، وقالوا أيضًا: «ما أحبت امرأة رجلًا مثلما أحبّت نعمة زوجها عبدالله بن راضي». أنجبت له ثلاثة صبيين وبنتًا، كانت مصائرهم شديدة الاختلاف مثل الحياة التي عاشتها.
تعلّم عبدالله لغة الفلاحين ونكاتهم، وبعد عشرين عامًا أصبح واحدًا منهم. غيّر العمل تحت الشمس لون بشرته، فأطلق الناس عليه «عبدالله الأبيض»، لأنه لم يكن داكن البشرة مثلهم وعيناه عسليتان وله طريقة مغايرة في الحديث والإنصات إليهم في المساء على المصطبة. يحتفظ بمهابة عائلة راضي رغم أنه قطع الصلة بعائلته، وتبنّى اللقب الجديد بل كان يُردِّد بفخر: «أنا عبدالله الأبيض ونسلي من عائلة الأبيض»، كان سعيدًا أنه مؤسس عائلة. يقول لـ«عامر» ابنه الكبير: «اسمك عامر عبدالله الأبيض» ويربت على كتفه.
بنى عبدالله بيته في الجهة الأخرى من البلد، بعيدًا عن البيت الكبير. قال الناس إنه لم يمر مرة واحدة في حياته من أمامه. يبدو أنه عاش حياة طيبة. يكفيه ما يلقاه من محبة «نعمة»، وما أحاطه به الناس من التقدير. فلم ينس الناس أبدًا أنه اختار أن يعيش حياتهم، وحقق المعجزة. كان ذلك مكمن تقديره ومكانته في القلوب. فلا يمر فلاح ويراه يعزق، دون أن يترك «شحاط» البهيمة في كف ولده الصغير وينزل ليساعده، وما إن يجيء محصوله إلى الجرن، حتى يجد الناس وقد تجمعوا ليعاونوه.
وبعد مضي السنين كان قد أصبح واحدًا منهم. لم يلاحظ أحد أن وجهه أصبح بلون النحاس وأعطت التجاعيد حول العينين وفوق الجبهة ملامحه قوة وحكمة، وزادت مهابته مع العمر. ينصت له الناس عندما يتكلم كأنهم سيسمعون القول الفصل. ربما اكتسب حكمته من مكانته في القلوب لكنهم يؤكدون أن آراءه كانت صائبة في الزراعة وحساب الزمن وتفاصيل الحياة الأخرى.
كان يتميز عنهم بقدرته على القراءة والكتابة وغزل الصوف طقيانًا وشيلانًا وتلافيح، وتميّزت حياته بجدية أصبحت مضرب المثل، كأنه كان من طين نيئ وُضع في فاخورة النار فأصبح قويًا وصلبًا ولامعًا، لكن في لحظات قليلة ينضح عليه أصله ويتشابك حاجباه ويهب في غضبات يحمر فيها وجهه كما يحمر وجه أي فرد من آل راضي.
ذات يوم خرج من الجامع ونادى «عبدالظاهر» ابنه الأوسط وأخذه في حضنه وقال له إن شيخ الكُتّاب يقول إنه أشطر ولد عنده، ووعد الولد إن حفظ القرآن سيرسله إلى الجامع الأزهر أو الجامع الأحمدي ليصبح من العلماء. تلك بداية أفراح الرجل القصيرة، فقد شعر بأنه أنجز مهمة كبيرة بأن يُخرِج عالمًا من نسله، لكنه غرس، دون أن يدري مصير ولد، مات في فرنسا، وحمل جثمانه عبر البحر إلى مقبرة عائلة الأبيض في نخطاي البعيدة في البراري، وبقيت بعض مخطوطاته محفوظة حتى الآن في خزانة الكتب القديمة في بيت أنس الأبيض.