فيلم «The Whale»: هل يرسخ للخوف من السمنة؟
يتناول فيلم «الحوت – The Whale»، الفيلم الأحدث للمخرج «دارن أرنوفسكي»، قصة شارلي مدرس الأدب الذي يتخذ من منزله مخبئًا بعدما اكتسب وزنًا زائدًا أثر على صحته وحالته النفسية. يأتي الفيلم امتدادًا لأفلام أرنوفسكي التي تستكشف التطرف كمفهوم وتذهب بشخصياتها إلى نقطة اللاعودة، الفيلم مبني على مسرحية بالاسم نفسه من تأليف سامويل د هانتر الذي كتب السيناريو للفيلم كذلك.
يدور فيلم الحوت كله حول جملة مكتوبة، تتكرر على مدار الفيلم، تظهر وتختفي، تُبنى عليها الأحداث وتكشف عن التواءات الحبكة المحدودة، جملة ترسخ ارتباط عنوانه بموضوعه، تذكر الجملة على لسان شارلي (براندن فريزر) الشخصية الرئيسية الذي يقرأها من مقال يحتفظ به:
يأتي الاقتباس تعليقًا على رواية «موبي ديك» لـ «هيرمان ميلفيل» التي تدور حول حوت أبيض وبحار يحاول قتله. يتخذ الفيلم الحوت كمجاز عن الشخصية الرئيسية، لأن شارلي من وجهة نظر الفيلم يشبه الحوت في المظهر والجوهر، فهو حسب ما نرى شخصًا ضخمًا تسببت خسارة كبيرة في حياته في زيادة وزنه بشكل مفرط جعله من دون حياة اجتماعية، وبجانب مظهره فهو يشبه الحوت في كونه مخلوقًا نادرًا وجميلًا، قليل الحيلة وفاقدًا للأهلية، لكن الأغرب في ذلك التشبيه هو تكرار وصف الحوت بانعدام الإدراك والمشاعر، وكأن بزيادة الوزن يققد المرء جزءًا من آدميته ويجب بشكل ما معاملته بشفقة كحيوان أو أعجوبة لا تزال تتمسك بالإنسانية على الرغم من كل شيء، يحمل الفيلم كل سمات أفلام مخرجه، القتامة والدراسة الشخصية العميقة والتراجيديا المحتومة لكن هل يرسخ الفيلم لحالة عامة من الخوف من السمنة أم يتعاطف مع بطله ويجعله شخصية متكاملة؟
هل يخاف الفيلم من بطله؟
في السنوات القليلة الماضية طور قطاع عريض من الناس هوس بالصحة الجسدية والنفسية، ساعد على انتشار تلك الموجة وجود الإنترنت كمحرك يومي ورئيسي للحياة، كل فرد يسعى لأن يكون النسخة الأفضل من ذاته بداية من الأنظمة الغذائية مرورًا بخطابات حب الذات وترك أي شخص يؤذيها، تولد من ذلك موجتان متوازيتان هما: «الخوف من السمنة Fatphopia» وعكسها وهي «الإيجابية الجسدية – Body Positivity» (أي تقبل جميع الأجسام والأشكال).
الموجة الثانية لم تصل أبدًا لتقبل دون شروط نظرًا لإشكالية السمنة من الناحية الصحية، الجميع يعلم أضرار إهمال الصحة بالطبع لكن الخوف من أصحاب جسد معين يحمل لومًا مبطنًا للشخص كمسبب رئيس لتدهور صحته ومظهره، إضافة لكونه لا يجتاز المعايير الرئيسية لحب الذات، هنا يأتي شارلي الشخصية الرئيسية للحوت، محاضر هادئ الصوت ذو طباع رقيقة لكنه سريع التأثر والغضب، واجه خسارة ضخمة في حياته جعلت الاهتمام بنفسه ضربًا من المستحيل، يعامل الفيلم شارلي كظاهرة وليس كشخص له حياة متخمة بالمعاناة والخسارة، يتم تصوير مشاهد انتكاسه والتهامه للطعام وكأنه كائن غير بشري يلتهم كل ما يقع في طريقه، كما يسهم شريط الصوت وزوايا الكاميرا المقعرة في ترسيخ ذلك الإحساس بالاغتراب عن البشر كما أن تصميم الشخصية نفسها يرسخ لذلك، يختبئ براندن فريجر تحت طبقات من المستحضرات والمؤثرات البصرية العملية والرقمية ما يجعله حالة وليس شخصًا، جسده ليس له لكنه أداة لتضخيم المعاناة.
يتناول الفيلم عدة ثيمات تتداخل بعنف حتى تفقد ثقلها واحدة بعد الأخرى، بجانب التعامل مع السمنة وتأثيراتها على الحياة الاجتماعية فإن الفيلم يتعاطى مع الحب وتمثلاته المختلفة بخاصة الحب الذي يسبب الأذى، تتداخل دراسة الحب مع الدين والمتناقضات التي يواجهها الحب حين يصطدم بالأديان الكتابية، ينبع من ذلك ثيمة الحب الأبوي والعلاقات بين الآباء والأبناء وعلى الرغم من كون ذلك هو المحرك الرئيسي لأحداث الفيلم فإنه أضعف حلقاته كتابيًا وشعوريًا.
يرسم الكاتب والمخرج شخصية إيلي ابنة شارلي المراهقة المضطربة (سادي سينك) بشكل مسطح تمامًا، مراهقة تنبع سماتها وتصرفاتها من أفلام المدارس الثانوية وليس من مراقبة حقيقية لطبيعة المرحلة العمرية بخاصة في ذلك العصر ويخلق من سطحيتها الشديدة صراعات ليصل الفيلم إلى ذروته من إعادة ترميم علاقة أبوية مفقودة، يرى الجميع إيلي باعتبارها شرًا مطلقًا فهي فتاة متمردة قاتمة في تصوراتها عن الحياة تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لفضح خصوصية الآخرين، تمرر حبوبًا منومة لأبيها المهدد بالموت، لكنها من وجهة نظر أبيها تتصرف بدافع الحب المُساء فهمه، بالنسبة له هي مثالية، جميلة وموهوبة، لكنها عاجزة عن التعبير عن حبها.
يربط الفيلم التعبير عن الحب بشكل يضر أكثر مما يفيد بالمعضلة الرئيسية لشارلي وهو وقوعه في حب رجل، وهو شكل آخر من الوجود غير المقبول بشكل مجتمعي إضافة لمظهره، الحب يجعله يتخلى عن أسرته وابنته، بل ويؤذي حبيبه كذلك الشاب المنتمي لجماعة متشددة دينيًا، يربط الفيلم بين التفضيلات الجنسية غير السائدة وطبيعة الحب المؤذية ويقدم نفسه كسردية متعاطفة مع معاناة بطله لكنه يجعل منه جسده وجنسانيته فرجة أشبه بسيرك لعرض الغرائبيات، طيلة مدة عرض الفيلم لا يوجد مشهد غير حاضر به حوار عن الوزن وزيادته وكأن شارلي كله مختزل في شقين هما كونه زائد الوزن وكونه مثليًا، وإن إحدى الصفات أدى إلى الآخر بشكل محتوم.
الوصول لذروة المأساة
تصل أهم وأنجح أفلام دارن أرنوفسكي عادة إلى ذروة المأساة، فهو ليس مخرجًا متوازنًا أو مجازيًا بل ينتهج منهجًا واضحًا يقول كل شيء ويعرض كل شيء، لا تحل ميلودراما شخصياته إلا في لحظة ذروة وغالبًا ما تعني تلك الذروة موتًا حرفيًا أو مجازيًا، أحيانًا تعمل تلك الاستراتيجية بنجاح لكن يلزم ذلك دقة شديدة وحرفة حقيقة في صياغة قصص تسير على حافة المأساة دون أن تتحول إلى محاكاة ساخرة لنفسها.
تظهر تلك الدقة في فيلم «المصارع (the wrestler)» و«البجعة السوداء (black swan)» فهي أفلام جوهرها عن تطرف ما، عن شخصيات وصلت بشكل هوسي إلى ذروة الحياة بتقليص الفاصل بينها وبين الموت، إذا افترضنا أن الموت هو ذروة كل شيء فإن أرنوفسكي لا يخجل من الوصول إليه لا يجعله تحت نصي لكن يجعله النص ذاته، كما أن لديه نزعة نحو ما هو تجسيدي بعيدًا عن أي تجريد، يجسد العنف الجسدي والجنسي ونتائج خيارات الحياة ونوبات الغضب والتطرفات الجسدية والنفسية.
تظهر تلك النزعة التوضيحية التي تصل للاستغلال في أحد أشهر أفلامه «قداس للحلم – requiem for a dream»، يمكن بسهولة وصف ذلك الفيلم بأنه حملة توعوية ضد المخدرات فهو لا يترك سيناريو مأساوي محتمل إلا وجسده على الشاشة من دون مواراة، كل شخصية تصل إلى أبعد ما يمكن الوصول إليه والموت دائمًا ما يلوح في الأفق.
بجانب نزوع أرنوفسكي نفسه لتجسيد المتطرفات في التجربة الإنسانية فإن شخصياته كذلك لا تخشى منها، كل الشخضيات تمد أذرعها نحو الهلاك، فهي شخصيات تتسم بالإفراط، ويتسبب إفراطها في فنائها، يتمثل الإفراط في أوضح صوره في مفهوم الإدمان أكثر من أي شيء آخر، الإدمان هو فعل الإفراط نفسه، استهلاك مادة ما حتى تفيض على الجسد المعتمد عليها.
يستعيد أرنوفسكي ذلك الوضع الإدماني الذي استكشفه لأبعد حدوده في قداس للحلم في الحوت، فهنا يصبح الجسد نفسه مفرطًا، يصبح أكثر من حاجة حامله وعبئًا عليه، ومثل الانتكاسات الإدمانية يصور سقطات بطله في شكل تناول مادة بشكل مكثف وغير قابل للتحكم، لكنه في الوقت نفسه لا يستكشف علاقة ذلك الشخص بجسده غير في إطار الصراع ولا يستكشف علاقته بالطعام كمادة إدمانية إلا في إطار صياغة مشاهد مرعبة تستدعي الصدمة والتنفير أكثر من التعاطف، وهو مثل قداس للحلم يعمل بوضوح كأنه حملة تحذيرية، لكنه لا يعطي لشارلي ما يحعله شخصية متكاملة حتى تصبح مأساته ملكه وليس مادة للتنفير أو للفرجة فهو شخص ذو شخصية متفائلة يصدق في الجمل التنموية، ويكرر أن البشر مخلوقات رائعة قادرة على المعجزات.
يرى أفضل ما في الناس ويحسن النية في الجميع، لكنه يعيش حياة مزرية سببها لنفسه، يتم إلقاء اللوم على الدين النظامي والتصورات المجتمعية من حين لآخر لكن الحوت في النهاية هو قصة إدمانية، بطلها هو شخص يدمر نفسه ذاتيًا.
السينمائي والمسرحي
فيلم الحوت مقتبس عن مسرحية تقع أحداثها في مكان واحد وهو شقة شارلي، لطالما وجد ذلك التوتر بين السينما والمسرح والضغط على الأفلام لكي لا تكون مسرحية، واستخدام وصف «مسرحية» باعتباره لفظًا تقليليًا فهو يجعل من وسيط ما أقل أو محاولًا مقاربة الوسيط الأكثر رسوخًا.
واجه الفيلم انتقادات من ذلك النوع، لكن بشكل مجرد فإن «المسرحية» يمكن أن تستخدم لصالح الأفلام أو تستخدم كمقيد لحريتها، في حالة الحوت فإن المسرحية لم تقيد الفيلم لكن الخيارات البصرية المحدودة هي التي فعلت.
يدور الفيلم حول شخصية رئيسية حركتها محدودة فهي مقيدة بمساحة متمثلة في شقة تحمل معظم ما يمثل تلك الشخصية مما يجعلها شخصية بنفسها، لكن تلك المساحات على الرغم من ضيقها لم تستغل، الخيار البصري الأول يتعامل مع محدودية المساحة باختيار مقاس شاشة مربع.
اعتادت الأفلام الفنية المعاصرة استخدامه للتدليل على احتجاز الشخصيات في مساحات ضيقة، سمح ضيق مساحة الشاشة بتكثيف الصورة وعدم الاضطرار للحركة داخل الشقة المحدودة، لكن حتى مع ذلك الخيار الذي حدد بصريات الفيلم فإن الشقة كشخصية لم تستغل بصريًا كما لم يستغل مفهوم احتجاز شارلي داخلها.
تقتصر حركات كاميرا المصور «ماثيو ليباتيك» على تقنيات متكررة منها الدوران الدرامي حول الشخصية لإظهارها من عدة جوانب أو التقدم ببطء إلى الداخل ليبث حالة من الترقب والقلق، ثم هناك المونتاج الذي يقطع من وجه إلى آخر مثل الأعمال التلفزيونية القديم.
لذلك فإن الوصف الملائم للفيلم هو أنه تلفزيوني وليس مسرحيًا، وهو ليس وصفًا ساخرًا لكنه يمثل اختزالًا وتجاهل المساحات السينمائية، والاقتصار على استخدام اللغة السينمائية لسرد المعلومات.
على الرغم من سطحية تناول الفيلم لمأساة بطله واستعراضه كأنه في قفص نشاهده من الخارج، إلا أن الحس القلق المحبب لأرنوفسكي يتخلل مجهوده المتوسط من حين لآخر. هناك بعض اللحظات التي تذكر المشاهد أن داخل ذلك الفيلم هناك إمكانية لفيلم أكثر حساسية ورقة، كما أن أداء براندون فريزر يتحدى ما يقيده من حين لآخر فإذا تم تجاهل كل ما هو مزيف في وجهه وجسده، والتركيز على المشاعر الحقيقية التي تظهر من عينيه تحت كل الطبقات أو ما يصدر من تهدج صوته المنكسر يمكن رؤية إمكانية أداء صادق ومتورط في عالم شخصيته.
لكن الفيلم يعمل بشكلٍ عام كحملة أوسكارية، عادة ما تلفت التحولات الجسدية الضخمة والعودة الدرامية للممثلين نظر الجوائز، كما أن هنالك عددًا كبيرًا من محبي فريزر والمتعاطفين معه الذين يشجعون فوزه بجوائز التمثيل في ذلك الموسم، ذلك الحب الشعبي هو صادق بلا شك لكن يصعب تجاهل كون الفيلم وطريقة تسويقه، بل وطريقة صناعته، عملية مقصودة حتى لو بشكل غير واع لصناعة حملة أوسكارية تكفر فيها هوليوود عن خطاياها تجاه فريجر، وتكسب تأييدًا شعبيًا بعد عدة سنوات من الخلافات والتراجع، لكن بعد مرور ذلك الموسم يصعب أن يصمد فيلم الحوت في اختبار الزمن أو أن يتم تذكره إلا بكونه الفيلم الذي أعاد فريزر مرة أخرى إلى الأضواء.