السلاح الذي لا يمزق لكنه يقتل
يعتبر المفكر الأمريكي وعالم اللسانيات «نعوم تشومسكي» أحد أكثر الشخصيات المثيرة للجدل؛ ليس لتفرده في طريقة نقد القضايا الإنسانية والعالمية وحسب، بل لجرأته الكبيرة في نقد السياسة الخارجية الأمريكية والكيان الصهيوني. صدر لهذا الكاتب مئات الأبحاث والكتب والدراسات النقدية، ويعتبر أحد أهم المراجع التي يتم الاستشهاد بها لغزارة إنتاجه وتنوعه، إذ حصل على المرتبة الثامنة عالميا باعتباره أحد المصادر التي يستشهد بها على نطاق عالمي في عام 1992م.
في كتاب السيطرة على الإعلام يناقش تشومسكي التأثير الخطير لوسائل الإعلام في تزيف الوعي المجتمعي وإلغاء قدرته النقدية ليصبح منصاعا لبرامج وخطط الدولة والسياسيين حتى وإن كانت لا تصب في مصلحته، ولا يكتفي الكاتب بالنقد المباشر لمثل هذه الظاهرة المنتشرة في العالم بشكل عام وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، بل يناقش جملة من القضايا المهمة المتعلقة بالإعلام وتأثيراته على مختلف المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية.
يضم الكتاب تسعة مقالات تركز كل منها على قضية محددة، في المقال الأول «إنجازات هائلة للبروبورجندا» يتحدث تشومسكي عن الجذور التاريخية لاستخدام الدعاية في تبرير المواقف السياسية للحكومة، حدث ذلك في عام 1916م في أيام الرئيس «وورد ويلسون» الذي حمل برنامجه الانتخابي شعار «سلام بدون نصر»، وعن طريقه تم إقناع الشعب الأمريكي بالموافقة على دخول أمريكا في الحرب ضد الألمان عن طريق لجنة «كريل» التي قامت بمهمة إقناع الناس الأكثر ذكاء ليروجوا للفكرة في المجتمع.
أما في مقال «ديمقراطية المشاهد» فيتحدث الكاتب عن فكرة «القطيع الضال» أو «القطيع الحائر» الذي يجب أن ينتبه من السياسيين، وهذا المصطلح يشير للشعوب في أنها لا تدرك مصلحتها لذا لا يجب أن يتاح لها أن تقوم بدورها بل ينبغي أن تحدد كل الأدوار والقرارات ثم يتم إيهام الشعوب بأن تلك القرارات قراراتها، روج لمثل هذه الفكرة «رينهولد نابيهور» عالم اللاهوت ومحلل السياسة الخارجية من عهد «جورج كينان» وحتى عهد كنيدي، ويرى هذا العالم أن المنطق مهارة لا يتمتع بها إلا قلة من الناس بنما الأغلب لا يمتلكونها لأنهم ينساقون وراء العواطف، لذا على من يملك مهارة المنطق أن يصنع أوهاما ضرورية لإبقاء السذج على ما هم فيه، كما يرى مؤسس علم الاتصالات وأحد أهم منظري العلوم السياسية «هارولد لازويل» أن الغوغاء لا يمكن أن يفهموا المصالح العامة لغبائهم، وأنه من الضروري أن يضربوا بالهراوات على رؤوسهم، لكن في الدولة الديمقراطية ينبغي أن تكون تلك الهراوات عبارة عن الدعاية.
يشير الكاتب إلى أن العلاقات العامة استخدمت من البداية لتكون في صف السلطة؛ بمعنى أن منظومة العلاقات العامة كرست جهودها لتشق الصف بين أوساط الشعب نفسه، حدث ذلك في أول إضراب عمالي في عام 1935م، إذ أن الحكرة العمالية حينها حققت أول انتصار تشريعي لها وهو ما عرف «بقانون واجنر»، لكن الجهات الحكومية الأمريكة استشعرت الخطر بالتنظيم الذاتي لصفوف الشعب فعملت على بلبلة ذلك الصف من خلال نشر دعايات تفيد بأن المضربين مخربون، وتم استخدام شعارات جوفاء فقط من أجل تشتيت انتباه الناس ومنعهم من الانضمام لتلك الاحتجاجات.
يتحدث الكتاب أيضا عن مفهوم إدارة الرأي العام، يقول «إدوارد بيرنابز» أحد المشاركين في لجنة (كرايل) وهو مطور ما أسماه بإدارة الإجماع: حتى يتم السيطرة على كل شيء ينبغي أن تتم إدارة الشخصيات النافذة، ويتم التحكم بالناس وإقناعهم من خلال استخدام وسائل الإعلام.
يرى «نورمان بور هورنز» أن حرب فيتنام مثلت ظاهرة لإقناع الشعب بخوض الحرب باستخدام وسيلة الخوف، ومن هنا ينبغي أن يتم خلق أعداء وهميين ليتم إقناع الناس بفكرة خوض الحرب، من جانبه يرى الكاتب نعوم تشومسكي أن المجتمعات قادرة على أن تنظم نفسها ضد محاولات تفريقها، والدليل على ذلك انتشار ثقافة الانشقاق في أوساط المجتمع؛ ما أدى إلى تطور حركات المعارضة وظهور حركات احتجاجية واسعة كالحركة العمالية والحركة النسوية. لكن رغم جهود المجتمع في تنظيم نفسه تبقى تلك الجهود بدائية، كما أنها لا زالت تواجه بالتنظيم القوي الذي يتحكم به رجال السلطة ممن يملكون كل الوسائل ومنها وسائل الإعلام.
حتى يتم نشر ثقافة الخوف ينبغي أن يتم استعراض تفاصيله من خلال التركيز على الانتهاكات والخروقات غير الإنسانية التي يقوم بها الأعداء، ومثال على ذلك ما حدث في 1986م عندما تم نشر مذكرات السجين الكوبي «أرماندو فلادميرز» واعتبرت تلك التصريحات مصدرا لخلق الخوف لدى الشعب الأمريكي حتى يؤيد الحرب ضد النظام الشيوعي في كوبا، ويشير تشومسكي أن تصريحان المحامي «هبرييرت أنايا» في السلفادور أخطر من تلك المذكرات لكن لم يتم تناولها بالمرة؛ لأنها لا تتماشى مع سياسة ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وينتقد تشومسكي الموقف الأمريكي تجاه الكيان الإسرائيلي رغم جرائمه في لبنان وفلسطين.
ويختم الكاتب كتابه بمقالة طويلة بعنوان «الصحفي القادم من المريخ» ويناقش فيها كل أشكال الحيادية والموضوعية الغائبة التي يجب أن يتحلى بها الصحفي في حال قرر أن يقوم بواجبه على أتم وجه في نقل الحقيقة، ويسلط الضوء في هذا المقال على حقيقة الإرهاب وتبعاته، وكيف كانت حرب أفغانستان وحرب العراق أخطاء قاتلة لا تعالج الإرهاب الذي لم يحدد حتى الآن، بل يتبنى الكاتب فكرة أن الولايات المتحدة تقوم بنفس أخطاء نظام صدام حسين غير أن الأهداف تختلف، ويؤكد على أنه حتى الآن لم يتم تعريف ما هو الإرهاب وكيف يتم مواجهته، ولأنه لا يوجد إجابة حتى الآن يتم الدخول في التعميمات والصراعات التي تزيد من توتر الصراعات في العالم، ويؤكد على أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تسعى إلى مكافحة الإرهاب هي في حقيقة الأمر تمارس بعض أشكال الإرهاب لكن حجتهم الوحيدة هي «طالما نحن الذين نقوم به فلا يعد إرهابا»، ويؤكد تشومسكي ختاما بأنه أفضل وسيلة لمكافحة الإرهاب بأن يتم محاكمة المجرمين قاطبة بغض النظر عن أهدافهم، ومن لا تثبت عليه تهمة ينبغي إطلاقه فورا.
الكتاب بشكل عام يعتبر مكتبة مختصرة ونوعية في مجال الإعلام والسياسة والنقد؛ كونه يعالج هذه الجوانب الثلاثة في فصوله، ويبقى الإعلام السلاح الأكثر فتكا، والذي ينبغي التنبه له، واستخدامه بشكل واع ومدروس حتى يقوم بوظيفته المثلى من بناء جسور تواصل بين مختلف الشعوب بما يدعم قيم الإنسانية، لا أن يهدم آخر تلك الجسور لينتشر الفساد والدمار.