موجة الإصلاح العراقية: البعير الذي يمتطيه الجميع
قناني مياه طائرة تحت قبة البرلمان، ورئيسٌ تمت إقالته يرجع ليدير الجلسة بعدما تبين عدم دستورية الإقالة ومعه حراسٌ يحيطون بقاعة البرلمان، كلبٌ يتجول بين النواب يبحث عن شيء مفخخ، نوابٌ يعبثون بأجهزة الصوت للبرلمان محاولين منع إكمال الجلسة، صورٌ هنا وبثٌ مباشرٌ هناك، صفحات التواصل الاجتماعي تنقل واقعًا أقل ما يقال عنه أنه أفقد الدولة العراقية هيبتها التي ما تبقى لها منها إلا القليل. ما الذي يحدث في العراق فعلًا؟.
بدأت الاحتجاجات والتظاهرات في العراق في عصر الجمعة 31 يوليو/ تموز 2015م في ساحة التحرير وسط بغداد مطالبةً بتوفير الخدمات وخاصة الكهرباء -التي أصبح انقطاعها لأكثر من 12 ساعة في عموم العراق شيئًا معتادًا- وتوفير مفردات البطاقة التموينية -حيث يعتمد عليها كثير من العراقيين- ومعالجة الفساد، والبطالة المنتشرة بين الشباب. واستمرت هذه التظاهرات أيام الجمعة في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب.
كان التيار المدني هو الذي يقود هذه المظاهرات الأسبوعية وكان عدد المشاركين بين بضعة مئات وبضعة آلاف.
وراهنت حكومة العبادي على عامل الزمن والملل أمام هذه المظاهرات، أما المجلس الأعلى فقد أبدى تحفظه على هذه التظاهرات وأيد سليم الجبوري -رئيس مجلس النواب/ سُني-، غير أن مرجعية النجف متمثلةً في السستاني أيدت التظاهرات، في حين بقي الموقف الإيراني وموقف كل من الصدر والمالكي غير معلن منها.
دخول الصدريين في التظاهرات
في نهاية فبراير/ شباط الماضي وبعد ما يزيد عن ستة أشهر من بداية موجة التظاهرات، قاد مقتدى الصدر الحراك معلنًا دخول الصدريين في المشهد؛ مما وفر زخمًا ضخمًا للمظاهرات، ويبدو أن الصدريين أرادوا أن يستبقوا خصومهم التقليديين في البيت الشيعي؛ «دولة القانون» التي يرأسها المالكي و المجلس الأعلى «كتلة المواطن» الذي يرأسه عمار الحكيم، مستغلين إمكاناتهم في حشد الجماهير ليركبوا موجة الاصلاح!.
كما أن إيران «المايسترو» لا مانع لديها، بل ربما هي المحرض الرئيسي إذ لا تعطي إيران الضوء الأخضر لأي حراك لا تضمن مواطن نفوذها فيه. وما سبق يفسر لماذا دخل الصدريون في المشهد بعد طول غياب -نقصد الشهور الستة الأولى من بداية الحراك-.
الإصلاح وشعار «شلع»
كان شعارا الإصلاح ومحاربة الفساد هما الأعلى صوتًا في التظاهرات المتعاقبة التي قادها التيار الديني الشيعي متمثلًا في الصدريين مع تراجع التيار المدني وتمثل الإصلاح بـ «شلع» للمطالبة بتغيير الكابينة الوزارية والمجيء بتكنوقراط وإنهاء المحاصصة.
وكانت مواقف الكتل البرلمانية متباينة، إذ أيد هذه الإصلاحات كلٌ من «ائتلاف العراقية» -علماني/مدني بقيادة إياد علاوي- و«اتحاد تحالف القوى» -سُنّي بقيادة سليم الجبوري- بالإضافة لـ «التيار الصدري»، وعارضها كلٌ من «ائتلاف دولة القانون» بزعامة نوري المالكي و«كتلة المواطن» بزعامة عمار الحكيم بينما بقي الأكراد على الحياد.
تطورات المواقف
لقد كان لتلكؤ العبادي «حزب الدعوة» في اختيار الكابينة الوزارية الأثر الأكبر في تطور المواقف وتباعدها في اتجاه الأزمة، حيث قام مجلس النواب برفض هذه الكابينة وطلب من العبادي استبدالها.
وعلى صعيد متصل، تفاقمت الأزمة داخل التحالف الوطني الشيعي بعد تأخر العبادي في إجراء الإصلاحات، ومحاولته استخدام باقي أطراف البيت الشيعي للضغط على الصدر. فكان اجتماع التحالف في النجف يوم الأحد 6 مارس/ آذار 2016م والذي انتهى عاصفًا بعد أقل من نصف ساعة من بدايته، وخرج المشاركون فيه ببيان شديد اللهجة ضد الصدريين، رفضه مقتدى الصدر واعتبره لايمثله!.
أما إيران ضابط إيقاع التحالف وراعيته فتدخلت -بشكل غير معلن- لتنصح الصدر بضرورة المحافظة على تماسك البيت الشيعي، إلا أن المراقب لسياسة إيران البرغماتية في العراق يرى بوضوح أن ضبط المتغيرات الجديدة للساحة السياسية في العراق يقتضي وجود لاعب أساسي في هذه الساحة لا يُشك في ولائه للجمهورية الإيرانية.
اعتصام الصدر في الخضراء والتحول إلى شعار «شلع قلع»
في 27 مارس/ آذار 2016م أعلن الصدر دخوله المنطقة الخضراء للاعتصام فيها؛ مما أحرج حيدر العبادي -الذي اجتمع مع قيادات التحالف الوطني وسُربت معلومات عن اتهامات متبادلة بين «الجعفري» وزير الخارجية ورئيس الائتلاف وبين «العبادي» حول المسؤولية وسوء إدارة الأزمة. وهدد الصدر بالمطالبة بإقالة الرئاسات الثلاث -رئاسة الجمهورية والبرلمان والحكومة- «شلع قلع».
شلع: كلمة عامية عراقية تعني الكل أو الجميع دون استثناء، وقد رفعها الصدريون كرمزية للإصلاح/ اجتثاث الفساد.
شلع قلع: كلمة عامية عراقية تعني اجتثاث الشيء من جذوره.
من الشارع إلى البرلمان
بعد أن طلب البرلمان من العبادي تغيير الكابينة الوزارية المقدمة واتهمته أغلبية الكتل بترشيح مقربين أو أعضاء في «حزب الدعوة»، عمل العبادي على تأخير تقديمه للكابينة الجديدة لإحراج الصدر؛ مما دفع النواب الصدريين إلى إعلان اعتصامهم في المجلس تزامنًا مع مظاهرات الصدريين حول المنطقة الخضراء، وعينت جلسة 14 مارس/ آذار 2016م لمناقشة التغيير الوزاري، إلا أن بعض النواب أحدثوا عراكًا ما دفع رئيس المجلس لتعليق الجلسة، وبعد مضي ساعة استأنف المجلس جلسته دون حضور سليم الجبوري وترأس الجلسة عدنان الجنابي «سُني – ائتلاف العراقية»، إذ صوت الحاضرون بالإجماع على إقالة هيئة الرئاسة وبدأت حقبة جديدة من المهاترات السياسية أنهاها الصدر بانسحاب نوابه من الاعتصام، كما انسحبت «كتلة المواطن». ولنفهم لماذا انسحب الصدر وعمار الحكيم من الاعتصام وأفشلوا مشروع إقالة الرئاسات الثلاث علينا أن نعرفمن هم النواب المعتصمون؟، ما هي توجهاتهم؟، ولماذا انسحب الصدريون من الاعتصام؟.
يدعي النواب المعتصمون أنهم أكثر من 170 نائبًا، ولو استقرأنا أعداد النواب من الكتل المشاركة بالاعتصام وهي «الأحرار/ الصدريون» 34 نائبًا. «العراقية/ إياد علاوي» 20 نائبًا. عرب سُنة/ كتل مختلفة 20 نائبًا. آخرون «نائب من التحالف الكردستاني/ مسيحي/ صابئي» 5 نواب. وهؤلاء لا يزيد عددهم عن 80 نائبًا.
هذا يعني أن 90 نائبًا هم من تحالف دولة القانون/ المالكي!.
وهذا هو السبب الرئيس الذي دفع مقتدى الصدر للانسحاب من الاعتصام. ومن مصادر مقربة من الصدريين اقتنع الصدر بأن المالكي أعد لذلك مسبقًا للتخلص من العبادي ومعاقبة الجبوري وخلو الساحة السياسية له أو الفوضى واستدعاء الجيش والميليشيات وكل منهما تحت إمرته.
أما «ائتلاف العراقية» وخاصةً بعد إقالة علاوي من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، فلم يبق لديه خيار إلا المعارضة، كما أن كثيرًا من نوابه من العرب السنة وكلهم يطمعون أن تكون لهم فرصة للمنافسة على منصب رئاسة البرلمان، وما يقال عن السُنة في قائمة علاوي يسري على النواب العرب السنة الآخرين.
الإصلاحات: أين هي؟
أدرك جميع الموجودين في العملية السياسة العراقية أن مفهوم المحاصصة هو الذي قادهم للسلطة، وأن إنهاء المحاصصة والتكنوقراط الذي يطالبون به جميعًا -دون تطبيق- لو تم تطبيقه لعصف بهم من كراسي السلطة!.
الأمر الذي دفع الجميع لإبراز إمكاناته التأثيرية على أرض الواقع، كما فعل الصدر بنزوله للشارع وفعل المالكي بتحريك القطاعات العسكرية في فترة التظاهرات الصدرية ليرسل كلًّا منهما للآخر رسالةً مفادها أنه داخل المشهد وليس خارجه وسوف يعود للسلطة بتمثيل يوازي ما امتلك من قدرات في الشارع العراقي ومؤسسات الدولة المختلفة وعلاقاته الإقليمية. إذن، انتهت الإصلاحات في العراق قبل أن تبدأ، فلا يمكن أن يكون الإصلاح بيد من أفسد والمثل العربي يقول: «المجرب لا يجرب»، وقد تم تجريب الطبقة السياسية العراقية على مدار 13 عامًا فما أنتجت غير ما وصلنا إليه اليوم!.