الثقافتان والثورة العلمية: أو كيف تأكل «الانتلجنسيا» نفسها؟
مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي، أثار عالم الفيزياء والروائي البريطاني تشارلز بيرسي سنو (سى. بى. سنو) نقاشًا حول أحد مظاهر المجتمعات الحديثة، وهو «انقسام المثقفين» الحاد إلى فئتين: المثقفين الأدبيين من جانب والذين بصورة ما يحتكرون لقب «مثقف»، والعلماء على الجانب الآخر، في ظل انقطاع التواصل بين أفراد الفئتين؛ والذي يراه الكاتب أحد أسباب التأخر في فهم وتحليل المشكلات داخل المجتمعات وبالتالي إعاقة تقدم وتحسين الحياة البشرية.
جاء طرح سنو لأول مرة في محاضرة بعنوان «الثقافتان» نشرت فيما بعد بعنوان «الثقافتان، والثورة العلمية»، والذي ناقش فيه أيضًا دور التعليم في تعزيز الانقسام بين الثقافتين «العلمية – التطبيقية»، «الأدبية – الإنسانية»، ومسائل وآفاق الثورة العلمية التكنولوجية التي أدخلت الحضارة مرحلة «ما بعد الثورة الصناعية».
مرّ على الكتاب ما يزيد على النصف قرن، إلا أن الأفكار التي ناقشها لا تزال مطروحة إلى اليوم.
الجهل بالآخر
وفقًا لرؤية الكاتب المستفيد من جمعه بين الثقافتين كونه عالم فيزياء وروائي واختلاطه بمجتمعات المثقفين من كلا الفئتين، تتسم الحياة الفكرية للحضارة الغربية بالانقسام الشديد بين من ينحصر نشاطهم الفكري على العلوم الطبيعية والتطبيقية فقط؛ وبين من ينحصر نشاطهم الفكري على الآداب والفنون والعلوم الإنسانية أو كل ما تشمله الثقافة التقليدية. في حين يستقر عند كل فئة – ثقافة – انطباع في الغالب خاطئ عن الفئة –الثقافة – الأخرى.
يرى «العلميون» أن المثقفين «الأدبيين» يفتقدون البصيرة ولا يحسنون إدراك النتائج والعواقب تمامًا، ويعتقدون أنهم لا يكترثون بإخوانهم من البشر؛ أي أنهم لا يطرحون حلولًا معقولة لمشكلات البشر، إنهم في رأي «العلميين» أقرب لمعاداة الثقافة، فيما يصفهم المثقفون «الأدبيون» بالتفاؤل المبالغ فيه وبأنهم يجهلون وضع الإنسان الحقيقي.
تسود تلك الحالة من الجمود والتباس الفهم القائم على جهل يتناسب؛ هو جهل كل فئة بالأخرى، أو كما لاحظ «سنو» شخصيًا أن العلميين عندما يقرأون لأي أديب كبير يكتفون فقط بإبداء احترام شكلي دون استحسان ظاهر أو مناقشة جادة، بالرغم من أن الثقافة العلمية – نظام التفكير – واسعة ودقيقة تشمل مساحة واسعة من الآراء والحجج، وكما يرى الكاتب فهي عادةً أدق من ثقافة الأدبيين.
بصورة ما يعيب الكاتب على العلميين عدم اكتراثهم بالآداب والفنون – فيما عدا الموسيقى – بينما يعيب على الأدبيين عدم استيعابهم الكافي لتطور العلم والذي أدى إلى استيعاب قدر ضئيل جدًا من علوم القرن العشرين داخل فنونه.
الثورة الصناعية
لقد جلبت الثورة الصناعية إمكانات هائلة لتحسين حياة البشر. فقد أتاح تطور العلوم الطبية، إلى جانب التطبيقية، زيادة عدد السكان، كما وفرت الطعام – الذي يرى سنو أن المشكلة ليست في كفايته لكن في سوء توزيعه – كما جلبت وعي المواطنين بأهمية بالتعليم الذى لا يقدر مجتمع صناعي على الحياة من دونه.
يوضح سنو التحولات النوعية التي أثرت بدورها على تفكير البشر والأنماط الثقافية، والبداية بالثورة الصناعية التي غيرت تركيب المجتمعات تمامًا – على الأقل في البلدان المتقدمة صناعيًا – وأتاحت إمكانات هائلة لحياة بشرية من نوع آخر.
كما يرى أن الثقافة التقليدية قصرت عن رصد التحولات الاجتماعية الكبيرة للثورة الصناعية، بمعنى آخر عجز المثقفون التقليديون عن استيعاب المجتمع الجديد بصورة كاملة وواضحة؛ أو أنهم حين استوعبوه لم يُفضّلوه وأكثروا شكواهم تجاههم، على الرغم من كونهم لم يزدهروا كفئة أساسية داخل المجتمع بهذا الشكل من قبل مثلما ازدهروا بازدهار ثقافتهم نتيجة للثورة الصناعية.
كما يوضح سنو حقيقة تاريخية وهي انقطاع الصلة بين الأكاديميين – الذي يمثلون صفوة المثقفين العلميين – وبين المراحل المهمة للثورة الصناعية، فقد تشكلت الثورة كما بأيدي المهووسين من أصحاب الهوايات وغير المتخصصين الأكاديميين مثل هنري فورد، والذين ابتكروا أو استخدموا لأداء أنواع مختلفة من الأعمال في أوروبا وأمريكا على السواء.
الثورة العلمية
بدأت هذه الثورة مع الاستخدامات الأولى الواسعة النطاق للصناعات الكيماوية والهندسية، في حين يرى الكاتب أنها بدأت بالفعل مع استخدام الجزيئات النووية في الصناعة وهو ما أدى إلى ظهور مجتمع الإلكترونيات والطاقة النووية، وهو المجتمع الذي صاحب ازدهاره ازدهار المثقفين العلميين، وهو في نفس الوقت المجتمع الذي يعقد عليه آمالًا كبيرة في تغيير العالم.
ويظل الأمل الأكبر للكاتب في قضاء هذا المجتمع على كل أشكال الفقر، فهو يرى في التكنولوجيا أمرًا يسهل على كل الشعوب تعلمه وينتقد النظرة الغربية التي سيطرت لمدة طويلة، والتي تشكك في قدرة غيرها من الشعوب على استخدام التكنولوجيا أو في تحقيق التطور الصناعي المطلوب الذي لا يتطلب في أي بلد سوى الإرادة لتدريب عددٍ كافٍ من العلميين والمهندسين والفنيين في عدد قليل من السنوات؛ لأنه ليس ثمة دليل على أن شعبًا هو أفضل من غيره في قابليته للتعليم.
المأساة ليست عامة.. ويمكن حلها
يفرق الكاتب جيدًا بين مشكلات الإنسان الفردية وأسئلته الكبرى الخاصة والتي لا فكاك منها كالموت مثلًا؛ وبين مشكلاته العامة أو المجتمعية والتي يرتبط فيها بالآخرين.
النوع الأول حقيقي ومُؤبد ومُستعصٍ على العلاج، بينما النوع الثاني مؤقت ويمكن علاجه. على المثقف في رأى الكاتب ألا يقبل بالوضع الثاني قبوله بالأول، وألا يقبل بتعميم الوضع الأول على الثاني أو التعامل مع أحدهما طبقًا لواقع الآخر، فمأساة الإنسان الفردية لا تمنعه عن التفكير في حلول علمية لمآسيه المشتركة، هناك مشكلات كبيرة كالفقر وانتشار المرض يجب على المثقف والإنسان بشكل عام فعل شيء تجاهها.
يدعو الكاتب إلى التعاطف والتفاهم كوحدة مشتركة بين الجميع، وإلى القضاء على الفقر، والتوقف عن طرح الأسئلة عن قابلية شعب أو أمة للتعليم، والبدء في توفيره للجميع لأنهم يملكون نفس القابلية.
إنها دعوة إلى امتلاك هذا القدر الأساسي من التعاطف الذي يشكل سمة إنسانية مشتركة تمكننا من توفير حلول علمية لحياة أفضل للإنسان الأُمي والإنسان الذي يتضور جوعًا.