فيلم «The Trial of the Chicago 7»: العالم كله يشاهد
دراما المحاكمات مثيرة للاهتمام، كما أنها تحتوي عادة على مفاجأة أو اثنتين خلال أحداث الحكاية، ما يجعلها جماهيرية بشكل خاص. لكن ماذا لو كانت المحاكمة على هويتك وليست على أفعالك، حينها يصبح الأمر مملًّا، فالحكم محسوم من البداية، ولا تشويق فيما ستسفر عنه التحقيقات أو شهادة الشهود.
الأمر ممل لكنه مهم للتأريخ بلا شك. خصوصًا لأن التاريخ تمامًا كما قال العم الطيب «كارل ماركس»، لا يكف عن التكرار. هنا في محاكمة شيكاغو، التاريخ لا يتكرر فقط، لكنه يحدث ربما بشكل يومي ليس في أمريكا وحدها، ولكن في كل مكان.
في فيلم the Trial of Chicago 7 ينقلنا الكاتب الشهير أرون سوركين إلى الستينيات، حيث مظاهرات 1968 التي اشتعلت في الولايات المتحدة، ثم أوروبا، حتى إنها خرجت في مصر. لكن حكايتنا الأمريكية هنا تركز بشكل رئيسي على سؤال واحد، هل يوجد طريقة مثلى للتعامل مع نظام حكم أنت غير راضٍ عنه؟
ضد الحرب: كيف؟
يبدأ الفيلم بمشاهد متتالية يختلط فيها الوثائقي بالدرامي، يقدم لنا من خلال أرون سوركين الأحداث السياسية التي شكلت خلفية مظاهرات 1968 في أمريكا، اغتيال مارتن لوثر كينج، اغتيال كينيدي، تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام.
المعترضون على الحرب قرروا الدعوة لمظاهرات حاشدة خلال المؤتمر الديمقراطي الوطني الذي سيعقد في شيكاغو خلال صيف 1968، المؤتمر الذي يجري كل أربعة أعوام ويختار من خلاله أعضاء الحزب الديموقراطي مرشح الحزب للرئاسة.
في تتابع البداية نتعرف على أبطال الحكاية، أبي هوفمان وجيري روبن قادة «حزب الشباب العالمي» أو ما يعرف باسم «ييبيز – Yibbies»، المعادين للنظام بشكل مكتمل، غير مهادنين في رؤياهم، غير معتذرين عن أسلوبهم أو ملابسهم، وغير متحرجين من الظهور بسيجارة ماريجوانا وشعر أشعث.
على الجانب الآخر توم هايدن ورينيه ديفز، الناشطان الطلابيان المعاديان للحرب والمؤمنان بضرورة الحوار وضرورة الوصول لتغيير السلطة عبر الانتخابات.
بالإضافة للناشط السلمي المؤمن بمبدأ اللاعنف «ديفيد ديلانجر» إلى جواره متظاهرين اثنين تم إضافتهما للقضية دون دور حقيقي هما «لي واينر» و«جون فرونز».
يضاف إلى هؤلاء السبعة رجل ثامن هو بوبي سيل، أحد قادة حركة «بلاك بانثر».
من خلال مشاهدة قصيرة ومونتاج سريع يقدم لنا أرون سوركين كل فرد من أبطال القضية، بجملة أو موقف قصير، يظهر من خلاله كيف يعادي كل منهم الحرب، منهم من يعلم رفاقه صناعة المولوتوف، منهم من يجهز خطابًا سيلقيه، ومنهم من يؤكد لابنه أن لا شيء سيئ سيحدث، وحتى لو حدث فعليه ألا يشتبك تمامًا وأبدًا مع الشرطة.
تتابع البداية نجح في خلق أجواء الحكاية، رغم تعقيدات السياق السياسي والاجتماعي، لكن بمجرد دخولنا إلى قاعة المحكمة أدركنا شيئًا فشيئًا أن هذا التتابع بشكل رئيسي هو التهمة، وليس ما حدث في التظاهرات نفسها فيما بعد.
هويتك أم أفعالك
الصراع الدرامي الأبرز في الفيلم ليس بين المتظاهرين وبين السلطة التي تريد تلفيق تهمة إثارة الشغب وممارسة العنف لهم، هذا صراع محسوم من البداية، الخير والشر يظهران بشكل واضح، الصراع الحقيقي هو بين النشطاء غير المؤمنين بعدالة المحكمة منذ البداية، وبالتالي غير مهتمين بإظهار أي احترام لها، وبين النشطاء المؤمنين بخطوات التقاضي، والذين يبذلون قصارى جهدهم لإثبات براءة الجميع خوفًا من قضاء عشر سنين هي ذروة شبابهم في السجن.
أبي هوفمان الذي يقوم بدوره ساشا بارون كوهين هو الممثل الأبرز للطرف الأول، وتوم هايدن الذي يقوم بدوره إيدي ريدمن هو الوجه الأبرز للطرف الثاني، وبينهما الممثل المميز مارك ريلانس في دور محامي الدفاع ويليام كونستلر، الرجل الذي يمثل رمانة الميزان في الصراع.
هذا الصراع هو ما يمثل المحرك الرئيسي الفيلم للعبور من البداية وحتى النهاية، وهو ما يمثل المواجهة التي تلامس أرواح الجمهور لطرفين لا يمكن الانحياز بسهولة لأي منها، وفي السياق العربي دون شك وفي زحام سنين الربيع العربي، يمكننا ببساطة عكس هذا الصراع على ما شاهدناه بأعيننا، في الشوارع، في قاعات المحاكم، وفي السجون، الاختيار صعب دون شك،وله كلفته المرتفعة في كل الأحوال.
على جانب آخر هذا الصراع يذكرنا بأن هذه المعضلة مفضلة بشكل خاص لدى أرون سوركين، الذي يكرر هنا بشكل ما صراع مارك زوكربرج وإدواردو سافرين الذي شاهدناه في تحفته the social network.
لكن وسط هذا الصراع أهمل سوركين رجلًا استحق أن يمتلك ظهورًا أكبر في هذه الحكاية، رجلًا تم تكميمه في قاعة المحكمة فلم يسمح له بالحديث طوال 7 أيام.
الرجل رقم 8
ما أغفلة سوركين هنا هو مركزية ما حدث مع «بوبي سيل» أحد قادة حركة الأمريكان السود «بلاك بانثر» أثناء المحاكمة، منذ البداية حيث تم تضمينه في قضية ليس له أي علاقة بها فقط لاستغلال الصورة السلبية للبلاك بانثر كحركة عنيفة لصنع تأثير سلبي عن كل المتهمين لدى هيئة المحلفين، مرورًا بكم لا يحتمل من الانتهاكات التي تعرض لها «سيل» بدءًا باغتيال أحد رفاقه، ثم حرمانه من الحق الدستوري في الدفاع عن نفسه عبر محامٍ يوكله، ثم حرمانه من الحديث تمامًا، ثم تكميمه وضربه كالحيوانات داخل قاعة المحكمة.
ما حدث من تكميم استمر 7 أيام كاملة لكن «سوركين» قرر أن يظهره في دقيقتين في مشهد صادم برز فيه الممثل الأمريكي «يحيى عبد المتين»، ولكن مساحته أقل كثيرًا من الحقيقة.
سوركين لم يهتم بالالتزام بالسرد التاريخي في أي من أفلامه، هو يعدل ويغير بالطبع من أجل خلق نسخة درامية تحمل بصمته هو ورؤيته هو مع بقاء القصة الأصلية كمصدر للإلهام، لكن ما فعله في معالجة هذه الشخصية بشكل خاص يبدو بلا دافع درامي حقيقي، فالقصة تم سردها بالفعل لكن بشكل مخفف. يضاف لهذا مبالغة في معالجة شخصية ممثل الادعاء ريتشارد شولز الذي قام بدوره جوزيف جوردن ليفيت، وهو الذي يظهر هنا بشكل متشكك، في حين أنه في الحقيقة كان أحد أشرس رجال اليمين في عصر نيكسون.
نص يطغى على الجميع
النقطة السلبية الأوضح في فيلم سوركين هو أنه يبدو كنص مسرحي تم التدرب عليه مرارًا أكثر من كونه فيلمًا سينمائيًّا عن لحظة فوران وتجريب وتظاهر وحرية، الجميع يتحدث بشكل مرتب، الجميع يطلق جملًا رنانة تصلح لأن تكون اقتباسات، الجميع لديه رؤية واضحة ويدرك ما يجب أن يفعله بالضبط.
والثورة، التظاهر، هو أبعد ما يكون عن ذلك، سوركين يبدو هنا كأديب وسياسي يكتب عن مظاهرات الشارع دون أن يغادر مكتبه، حتى لو كان بالفعل حينها في الشارع رفقة الشباب الغاضب في الستينيات أو السبعينيات.
رغم ذلك فما ينتجه سوركين هو نص ممتع بلا شك، لكنه ممتع كمسرحية تشاهدها وتصفق في نهايتها وتتساءل عما حركته فيك من مشاعر وأفكار، لكنها لا توهمك بأنها الحقيقة، وهذا ما يصنع الفارق بين فيلم جيد وفيلم عظيم.
أوسكار المظاهرات
يدخل متهمو قضية شيكاغو المحكمة وسط هتافات من المتظاهرين تردد «العالم كله يشاهد»، العالم كله بالتأكيد كان يشاهد ما يحدث في أمريكا في عام1968، تظاهرات الشباب والطلاب هناك ضد الحرب قد أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر في تظاهرات شباب أوروبا، فرنسا بالخصوص، المطالبة بحريات فردية أكبر، وصولًا إلى تظاهرات طلاب مصر للمطالبة بمحاسبة الفاسدين الحقيقيين والمتسببين في النكسة بعد قضية الطيارين الذين تم وضعهم ككبش فداء من نظام عبد الناصر.
مظاهرات المعترضين على الحرب في أمريكا كانت في المركز، وقضية شيكاغو كانت في المركز الإعلامي من هذه التظاهرات، هي أشبه بالفعل بأوسكار المظاهرات كما يذكر سوركين على لسان أحد أبطاله داخل أحداث الفيلم، لكن الفيلم هنا كان منشغلًا بشكل كبير وربما واعٍ بصنع فيلم يصل لحفل الأوسكار القادم، وفي وسط هذا الانشغال فقد كثيرًا من شغف أوسكار مظاهرات 68 الحقيقية.
هل العالم كله سيشاهد بالفعل؟ هل النسخة الفيلمية ستساعد في إحياء القضية وجوهرها؟ هذا ما سننتظر الإجابة عنه من خلالكم، في عام صعب على السينما، وعلى العالم كله، لكن السؤال الذي يجب عليك حسمه إذا شاهدت الفيلم، هو أي جانب يمثلك في اللحظة الحالية؟ جانب أبي هوفمان أم جانب توم هايدين؟