فيلم «The Tragedy of Macbeth»: هل تضيف السينما لشكسبير؟
كتب ويليام شكسبير الاسم الأشهر في المسرح العالمي العديد من قصص الملوك، عن مآسيهم وطبيعة حياتهم الدموية غير المستقرة، عن طبيعة السلطة وإغوائها الذي يصل حتى لأطهر وأشجع القلوب، واحدة من أشهر تلك القصص هي مسرحية مكبث التي وحتى بعد مرور أكثر من 400 عام على إنتاجها لا تزال مصدرًا للإلهام والاقتباس في الفنون المختلفة أشهرها السينما بالطبع، اقتبست السينما مسرحيات شكسبير آلاف المرات ربما يكون المؤلف الأكثر تعرضًا للاقتباس على الإطلاق، ونال مكبث نصيبًا كبيرًا خاصة بين المخرجين الأشهر في تاريخ السينما، هؤلاء الذي يتميزون بأسلوبية فائقة وتأثير واضح على الوسيط، تناولها أورسن ويلز في الأربعينيات ونقلها أكيرا كوروساوا لليابان في الخمسينيات وأضفى أسلوبه عليه رومان بولانسكي في السبعينيات ونالت اقتباسًا معاصرًا في الألفية على يد جاستين كورتزيل، لكن لم يتوقع أحد أن تبزغ للسطح من جديد في 2021 خاصة على يد مخرج يعرف بأعمال على الرغم من ثقلها إلا أنها تملك طابعًا ساخرًا من الحياة وعبثيتها.
لأعوام عمل جويل كوين بجانب أخيه إيثان تحت اسم الأخوين كوين، معًا صنعا بعض أكثر الأفلام تأثيرًا في الثقافة الشعبية الأمريكية والعالمية المعاصرة، أشرار أيقونيون مثل شيجور من لا بلد للعجائز No Country For Old Men وأبطال محبوبون مثل ليبوازكي الكبير The Big Lebowzki، في 2021 انفصل جويل عن إيثان لصناعة فيلمه الأول وحيدًا، «مأساة مكبث The Tragedy of Macbeth»، الاسم الأصلي للملحمة الشكسبيرية الشهيرة، اختار كوين صناعة فيلم غارق في الأسلوبية، دقيق التصميم ومخلص للنص الأيقوني الأصلي دون تغيير، واختار الممثل الأمريكي الشهير دينزل واشنطن للقيام بدور مكبث وفرانسيس مكدورماند لتكون السيدة مكبث، ربما يبدو ذلك خيارًا بعيدًا عن طبيعة أعمال كوين لكنه بشكل ما يكمل مسيرته في دراسة حتمية القدر.
نسخة متجردة من الدموية
تحكي مسرحية مكبث قصة بسيطة ذات مشاهد أيقونية، ساحرات ثلاثة مرعبات، ملك ينحدر إلى حافة الجنون، شبح يظهر على مائدة العشاء، امرأة تتخلص من حياتها تحت وطأة الذنب، كل تلك المشاهد والجمل الشعرية الشهيرة التي كتبها شكسبير تظهر في أي معالجة للمسرحية، لكن مع فروق بسيطة في التناول بين كل نسخة وأخرى، فالنص يملك مساحة هائلة للتأويل والشخصيات نفسها يمكن تمثيلها بآلاف الطرق والمشاعر المختلفة سواء على خشبة المسرح أو شاشة السينما، قصة مكبث ببساطة تبدأ من نبوءة الساحرات له بتولي الملك ولصديقه بانكو بامتلاك سلالة من الملوك، مكبث محارب قوي وشجاع يحترمه كل من يعرفه، تبدأ الأمور في أخذ منحى مرعب عندما يتشجع على تنفيذ قدره بيده بمساعدة من زوجته التي لا تملك إلا أن تطمح لحياة أفضل من خلال زوجها، يرتكب مكبث أول جريمة قتل دموية لابن عمه الملك وينتزع منه التاج، تساعده السيدة مكبث في إلصاق الجريمة بالحراس، لكنها تكتفي بهذا القدر أما هو فيجن جنونه لأن بانكو صديقه موعود بملك دائم متسلسل في دمه أما هو فبلا أبناء ومحكوم عليه بملك مؤقت، وجريمته الأولى تعد في خدمة ذلك النسل من الملوك وليس خدمته فقط.
يخطط بعد ذلك لقتل صديقه وابنه الصغير وهنا تبدأ الأحداث في أخذ منحى أكثر درامية، يفقد مكبث توازنه ويطارده الذنب والأشباح، يلجأ لنبوءات الساحرات مرة أخرى ويطمئن أنه محمي من الأذى إلا إذا حدثت بعض المستحيلات، ولأن المسرحية تعلي صوت القدر فإن المستحيلات تحدث بالطبع، ويصعد كل ملك فوق دماء الآخر، لا تنقل السلطة بسلام أبدًا حتى وإن وصلت للنبلاء الذين فور ما يسمعون عن التاج يبدأ نبلهم في التلاشي، فذلك النبل مفهوم بالغ الهشاشة أمام قوة مطلقة يصعب مقاومتها.
يتناول جويل كوين أحداثًا رآها العديدون، منا من يعلمها جيدًا ومنا من درسها في درس أدبي ما رغمًا عنه أو سمع عنها فقط، لكنه يرى أن نسخته الفيلمية هي مكبث لمن لا يعلم مكبث، يدمج كوين ما هو مسرحي وما هو سينمائي في مزيج واعٍ بذاته ومصدره الأصلي، فلا يلجأ بأي شكل لمناظر طبيعية بالشكل التقليدي أو استنساخ مبانٍ وقصور ملائمة للفترة التي تقع بها الأحداث، بل في فيلمه تبدو الفترة التاريخية وكأنها فترة مجردة يمكن أن تكون في أي وقت وأي مكان، مساحة شاسعة من الأضواء والظلال تقع في مبانٍ ضخمة ذات حواف قوطية حادة لكنها خالية من الزخارف أو التفاصيل المسرحية، بل إن تصميم المناظر الذي قام به ستيفان ديشانت تقليلي Minimal لأبعد حد على عكس الميل المعتاد لاتخاذ أسلوب تكثيري Maximalist لتأطير حياة الملوك الباذخة والفترة التاريخية التي تحوي تيجانًا مرصعة بالجواهر وملابس مطرزة وبيوتًا مذهبة، يتبع كوين منهجًا اختزاليًا في كل شيء، حتى تاج مكبث صغير الحجم وكأنه ليس ذا قيمة كبرى وقصره يبدو خاليًا من كل شيء عدا الجدران والأثاث المجرد.
يجعل ذلك التناول التعبيري من مكبث مساحة مجردة للتخيل ويأخذ من المسرح والسينما ما يحتاجه لإيصال المعاني بالصوت والصورة والضوء والتصميم، أكثر وصف لاصق نسخة كوين تلك هو التعبيرية الألمانية، المدرسة الشهيرة التي ميزت بدايات السينما في ألمانيا ثم تأثر بها العالم خاصة نوع الفيلم نوار الأمريكي، تتسم التعبيرية الألمانية بميل نحو الرعب المجرد، بالتلاعب بالنسب الآدمية والنسب البنائية، يتحرك البشر في مساحات ضخمة وحادة ومتعرجة وكأنهم يعيشون داخل عقولهم الباطنة، تناولت تلك الأفلام موضوعات ذات طابع مستقبلي، خلق بشر آليين أو ذات طابع سحيق القدم مثل هجوم مصاص دماء على بيت آمن، لكنها اهتمت بالأسلوبية بشكل رئيسي، بالظلال الحالكة والإضاءات الناصعة التي تجاورها، لا توجد مساحة كبيرة لما هو رمادي، كل شيء يمكن قطعه إلى نصفين، الظل والضوء، الخير والشر، حتى التصميمات المختارة للمنازل والمباني والملابس نادرًا ما تملك انحناءات ناعمة بل تبدو مقطوعة لكي تكون أكثر حدة.
أي شخص يمكنه أن يكون أي شخص
كوين ليس أول من تناول مكبث كقصة رعب تعبيرية فقد سبقه في ذلك أورسن ويلز في مكبث الخاص به عام 1948، جاء تناول ويلز تعبيريًا من حيث خيارات الإضاءة وزوايا التصوير لكنه لم يكن تقليليًا، بل استخدم مناظر مسرحية تكثيرية وخشنة، المثير في نسخة كوين هو اقترابها من نسخة ويلز أكثر من الاتجاه الأكثر واقعية الذي تبعه، بل وجعلها أكثر تجريدًا وتأثرًا بصناع سينما اختزالية مثل انجمار بيرجمان وغيره، بدلاً من تناول القصة تاريخيًا تناولها داخليًا، فعلى سبيل المثال آخر نسخة سينمائية من مكبث صدرت في 2015 اتسمت بأسلوب معاصر وواقعي كانت من إخراج جاستين كورتزيل، صنع كورتزيل مكبث دمويًا بشكل حقيقي، صور مساحات شاسعة من الأراضي الأسكتلندية والمناظر الطبيعية وصنع قصورًا وملابس ملائمة للفترة، في تلك النسخة نادرًا ما يظهر مكبث نظيفًا، بل إن أظافره مغطاة بالرماد والطين ووجهه مدمى من المعارك المتعددة والجرائم الدنيئة، في حين أن مكبث كوين نظيف تمامًا، مثل كل ما حوله، انفعالاته داخلية وهادئة، يجعل ذلك نسخة كوين أقل واقعية وأكثر تجريدًا من أي نسخة سابقة، وكأنها عرض رقص معاصر لا يهتم بعنف ودموية القصة على قدر ما يهتم بدواخل شخصياتها المعقدة.
يساهم في الشعور ببعد وتجريد تلك النسخة اختيار كوين للممثلين والطابع البصري للفيلم، فالفيلم بلا ألوان والممثلون كذلك، يمكن لأي شخص أن يصبح أي شخصية، بأي عمر وبأي لون، يلعب دينزل واشنطن الشخصية الرئيسية بهدوء مميز لكنه يطلق جمله الحوارية الداخلية بإيقاع موسيقي يعيد إليها طبيعتها الشعرية ويجردها من الأداءات المسرحية الجنونية، لا يعيب الأساليب الأخرى شيء بل ربما تكون مؤثرة أكثر لكن في إطار ذلك التناول الذي يشبه الحلم فإن إخراج كوين وخيارات ممثليه هي الأنسب، أطرت نسخة أورسون ويلز ونسخة مايكل فاسبندر في عام 2015 جنون مكبث وغضبه، يصرخ ويبكي ويصل لأقصى ما يسمح به النص من مغالاة، لكن واشنطن يغني النص ويجعله عنصرًا من عدة عناصر داخل الفيلم فيبدو وكأنه مكتوب فعلاً وليس صادرًا من شخص ذي لحم ودم، يجعل ذلك الفيلم أشبه بدراسة دقيقة لأساليب المسرح والسينما والأداء الحركي، فبجانب الأداء الرئيسي اختار كوين الممثلة المسرحية كاثرين هانتر لأداء دور الساحرات الثلاثة، تملك هانتر جسدًا مرنًا وطيعًا يمكنها من التعبير عن ذلك السحر بأغرب الطرق الممكنة، تطوي ذراعيها وتلف جسدها حول نفسه فنصدق فعلاً أنها شخص يملك قدرات ما ورائية، صنع كوين نسخة من مشهد الساحرات الثلاث الأيقوني سوف يصبح أيقونة في ذاته، لم يلجأ لأصوات الساحرات الحادة الشهيرة الكارتونية بل اختار التركيز على الجسد أكثر من الصوت فصنع مشهدًا لا ينسى.
تمتد الخيارات غير المعتادة إلى أعمار الممثلين في الشخصيات الرئيسية، يلعب كل من دينزل واشنطن وفرانسيس مكدورماند السيد والسيدة مكبث، تؤدي مكدورماند الدور الشهير بحرص ودقة نادرين فهي شخصية اشتهرت بشرها المطلق وجنونها لكنها تضفي عليها آدمية ضرورية للنسخة الحديثة، كلا الممثلين تخطيا الستين من العمر، فنحن هنا على حسب وصف كوين أمام مكبث في سن اليأس، واحدة من أهم عناصر المسرحية هي كون الزوجين بلا أبناء، لا يخبرنا النص بوضوح إذا ما كانا غير قادرين على ذلك، لكن يوجد إيحاء بأنهما فقدا ابنًا في يوم من الأيام، يعيش آل مكبث في أحزان متعددة، توتر خسارة الحكم وتوتر انعدام القدرة على توريثه، في نسخة كوين فإن الزوجين تخطيا حتى مرحلة التفكير في الإنجاب على عكس نسخ أخرى جعلت منهما شابًا وشابة يتمتعان بالجمال الشكلي والصبا والنضارة التي تضاد مع ما يسكن عقليهما من أفكار قاتلة، فإن كوين يجعلهما أكثر نضجًا وهدوءًا وقبولًا لواقع حياتهما، ويجعل الفيلم أكثر وعيًا بذاته، فهناك ذلك الميل لعدم انغماس الممثلين في أداء أدوارهم، ولظهور أماكن التصوير مصنوعة وليست طبيعية بل ويمكن رؤية بقعة الضوء التي يقف عليها الممثل وسماع الأجهزة تغلق حينما ينتهي الفيلم، صنع كوين رؤية صناعية ودقيقة تبدو نابعة من اهتماماته الشخصية أكثر من عمله كجزء من فريق، لكن أين يقع مكبث وسط مسيرة كوين السابقة واهتماماته التي شاركها مع أخيه؟
حكاية بلا معنى
تهدئ السيدة مكبث زوجها بتلك الكلمات بعدما يرتكب جريمته الأولى، فالأحداث التي وقعت لا يمكن تغييرها والقدر المحتوم لا يمكن تفاديه، تبدو تلك الكلمات مألوفة في عالم الأخوين كوين، فكل أعمالهما تتناول حدثًا لا يمكن تفادي وقوعه، لكن يترتب عليه الكثير من الأحداث الصغيرة، مسرحية مكبث نفسها بجانب تناولها للجشع والسلطة والانحدار إلى الجنون فإنها تتناول حتمية القدر، يتمثل ذلك القدر في صورة الساحرات فهن يرشدن مكبث لقدره ويتركنه يتصرف كيفما يشاء لكنهن على علم بأن المكتوب سوف يحدث أيًا كانت التصرفات الصادرة عن الأبطال، يحاول مكبث بكل الطرق أن يضمن قدره، يقتل ويعيث في الأرض فسادًا، يتحول من حاكم بلدة عادل ومقاتل نبيل إلى طاغية قاتل للنساء والأطفال وأقرب أصدقائه، لكن لا تمثل أفعاله أي تغيير لما هو مكتوب، في النهاية يهرب ابن بانكو الذي قدر له أن يكون أول خيط في سلالة ملكية ممتدة، ويصبح مكبث ملكًا لفترة وجيزة تجعل هزيمته وكونه بلا أطفال امتدادها مستحيلاً.
ليس ذلك بعيدًا جدًا عن كون شخصية شيجور في لا بلد للعجائز تمثل المحتوم، أليس كذلك؟ أو كيف يستسلم ليبوازكي الكبير للأحداث التي تقع حوله لأنه لا يملك القدرة على تغييرها، يعبر شكسبير عن طبيعة مسرحيته القدرية بجملة على لسان بطلها «الحياة هي حكاية يحكيها أحمق، مليئة بالصوت والغضب، ولا تعني شيئًا»، يستسلم مكبث بعد وفاة زوجته لعبثية الحياة بل وعبثية رغباته نفسها وتصرفاته التي لم توصله إلى أي شيء ولم تغير قدره، تجري تلك الدماء العبثية في مسيرة كوين من بدايتها حتى قراره أن يصنع فيلمه الشكسبيري وحده، الذي ربما يبدو كخيار غريب في البداية لكن يصبح منطقيًا حينما نصل إلى جوهر الحكاية التي لا تعني شيئًا.
مأساة مكبث نسخة جويل كوين هو تحفة بصرية ترهص لمسيرة جديدة لجويل بدون إيثان، تميل أكثر نحو الأسلوبية السينمائية وأقل نحو السخرية العدمية، لكن على الرغم من تأثيره البصري الذي لا يضاهى والذي يحوي بداخله تأثيرات بصرية وصوتية تمتد إلى بداية السينما فإنه يملك طبيعة بعيدة وباردة، فهو تناول ذو تصميمات دقيقة ونظيفة وشخصيات دموية لا تتلوث بالدماء، مما يجعله أقل في التأثير العاطفي من سابقيه من النسخ السينمائية لمكبث لكنه من أكثرها حداثة وتجريبية وتلاعبًا بطبيعة الوسيط وقدرته على احتواء الوسائط الأخرى.