الجسد الممزق: بين الكاثوليك والأرثوذكس
تمثل هذه الجملة المقتبسة من أعمال القديس سيبريان القرطاجي نصًا شارحًا للفكرة الأساسية التي حكمت التصور المسيحي عن الكنيسة. ويطرح هذا التصور عدة أسئلة هامة وحاسمة: فما الكنيسة؟، وما علاقتها بالخلاص؟، ولمَ يوجد عدة كنائس بدلاً من كنيسة واحدة إذا لم يكن ثمة خلاص داخل «الكنيسة»؟، هذه الأسئلة شكّلت تاريخ المسيحية على طوله. ولعل زيارة بابا الفاتيكان البابا فرانسيس لمصر، معقل الكنيسة الشرقية، تجعل من المناسب أن يُعرض للفرق بين الكاثوليك الرومان، والأرثوذكس الأقباط، على خلفية هذه الأسئلة.
«تَلْمِذوا جميعَ الأممِ»
حين نحاول النظرَ في التاريخ اللاهوتي والعملي للمسيحية، يبرز إشكال تأريخي كبير حول حقيقة قيام المسيح من بين الأموات؛ فهذه النقطة محل خلاف طاحن. لكن للتغلب عليها تأريخيًا، يمكن النظر لهذا الحدث من زاوية أخرى: فلا يُنظر للأمر على أنه يدور حول حقيقة القيام من عدمها، وإنما على واقع يوجد فيه ملايين من الناس آمنوا بالقيام. وعلى رأس هؤلاء الذين آمنوا به يوجد الرسل الأوائل للمسيحية. فوفقًا لهم، وتحديدًا وفقًا للإنجيل كما دوّنه «متّى»، بعد صلب المسيح بثلاثة أيام قام من بين الأموات مُحدثًا تلاميذه ومُحمِّلاً إياهم مهمة كبرى: وهي أن «يذهبوا ليُتلمذوا جميع الأمم ويُعمِّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس»؛ أي أن تلاميذ المسيح في هذه اللحظة آمنوا أنهم تحولوا جذريًا من كونهم مجرد تلاميذ، لكونهم رسلاً يجب عليهم الذهاب للأمم كافة كي يعلموهم كلمة الرب ويرشدوهم إلى الخلاص. وبالفعل، بدأ هؤلاء الرسل في السفر ليباشروا مهمتهم الجديدة بين جميع الأمم.
وقد مثّل كون روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية، وكونها المكان الذي بشر فيه القديسان بطرس وبولس، إلى جانب كونها مكانًا إستراتيجيًا يجمع الناس من كل الأنحاء لكونها العاصمة، مثّل كل ذلك أهمية كبرى في تشكل المسيحية؛ إذ أصبحت روما الآن تتمتع بالصدارة، وأصبحت كنيستها لها الأولوية على سائر الكنائس الأخرى. وبالفعل شهدت الفترة من عام 90م إلى عام 325م صراعات فكرية كبرى بين الآباء الأوائل للمسيحية تميزت بمحاولة إظهار كنيسة روما على أنها «الكنيسة» وأن سائر الكنائس إنما هي تابعة لها. وبحلول الأعوام من 318م إلى 321م جاء عاملٌ جديد من شأنه تغير مجرى هذا الصراع، ومعه مجرى المسيحية ككل: إعلان قسطنطين الأول المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية. هذا العامل يعني أن المسيحية أصبحت تلعب دورًا هامًا في استقرار الإمبراطورية سياسيًا.
الخلاف التاريخي الذي أدى إلى الانشقاق
وفي أثناء الخلفية آنفة الذكر، ظهر آريوس في مدينة الإسكندرية بآراء لاهوتية ترى الرب على أنه متعالٍ تمامًا، وأنه خلق الابن بعد أن لم يكن موجوداً؛ فالابن ليس إلهًا بأي حالٍ من الأحوال. ونظرًا لمركز الإسكندرية الثقافي، ونظرًا لما اكتسبة آريوس من تأييد، دعى قسطنطين الأول لإيجاد صيغة رسمية للديانة المسيحية يستطيع بموجبها دفع الآراء التي من شأنها تهديد وحدة المسيحية؛ حفاظًا على الإمبراطورية، وعلى عاصمته. ومن هنا دعا قسطنطين لمجمع نيقية عام 325م. ففي هذا المجمع تشكّل المعتقد الرسمي للمسيحية وأُعلن آريوس وأتباعه هراطقة. لكن هذا لم يكن كافيًا؛ فقد استمرت آراء آريوس تملأ كل الكنائس والأنحاء إلا روما؛ أي أن روما مثّلت في ذلك الوقت بكنيستها المنطقة الوحيدة التي لم تطلها يد آريوس. وفي عام 381م دُعي لمجمع القسطنطينة لإنهاء الجدل حول آريوس، ولكن لم يحضره أي ممثّل عن بابا روما مع العلم أن الكنيسة الرومانية وافقت على كل ما فيه ماعدا بند ينص على أن بابا القسطنطينية يجب أن يتمتع بالأولوية على بابا روما، ولكن في الأخير وافقت روما علمًا منها بأن الأولوية ستظل لها في وجدان الناس ولن يغير بندٌ أي شيء في هذا.
وبحلول العام 431م ظهرت «بدعة» أخرى وهي أفكار نيستريوس حول طبيعة مريم وطبيعة المسيح التي دعت إلى عقد مجمع آخر في نفس العام. وفي هذا المجمع تفوقت كنيسة الإسكندرية في حججها على سائر الكنائس، بينما كان هدف كنيسة روما تأكيد مبدأ أن الأولوية الكنسية لها بحكم تبشير القديس بطرس فيها، بينما خبت تمامًا جذوة القسطنطنية. ثم في 449م وفي مجمع آخر استطاعت الكنيسة السكندرية مرة أخرى إعلاء كلمتها، ولكن هذه المرة أمام الكنيسة الرومانية. وعلى هذه الخلفية أتى مجمع خلقدونية 451م والذي أكدت فيه الكنيسة الرومانية أولويتها من جهة، وألصقت بالكنيسة السكندرية «تهمة» أنها تقول بوجود طبيعة واحدة للمسيح بخلاف المعتقد الرسمي. وقد رفضت الكنيسة السكندرية هذا التصور تمامًا وأبعدت نفسها عن المجامع الكنسية رافضةً بذلك المبادئ «الكاثوليكية الرومانية» لتؤسس «الأرثوذكسية القبطية الشرقية».
الخلافات اللاهوتية
عند هذه النقطة قد تبدو الخلافات بين المذهبين على أنها من صنع السياسة. لكن الأمر أبعد من ذلك؛ فهناك أساس لاهوتي هو ما أجّج تلك الخلافات. ويدور هذا الخلاف اللاهوتي أول ما يدور حول مسألة غاية في الأهمية: وهي أن ما يعتبره الكاثوليك أمرًا وجوديًا لحياة المجتمع المسيحي، يعده الأرثوذكس أمرًا ابن ظروف معينة ولا يصل إلى مسألة وجودية.
وبالمثال تتضح هذه المسألة: فأكبر خلاف له أثر تاريخي واضح بين المذهبين حول «الأولوية»؛ فترى الكاثوليكية الرومانية الأولوية لروما، بينما لا ترى الأرثوذكسية الأمر على هذا النحو. ففي المعتقد الكاثوليكي، يُرى القديس بطرس على أنه حجر الكنيسة العالمية نظرًا لأنه الوحيد الذي غُير اسمه من قبل المسيح إلى (Kepha) والتي تعني «الحجر»، وأنه رئيس الرسل، فقد «تلقى مفاتيح الكنيسة من الرب»؛ وبما أنه قد بشَّـر وتوفي بروما، وأنه أورث تلامذته في روما تعاليمه، فتكون الكنيسة المسيحية مؤسسة وجوديًا في روما. بينما يرى الأرثوذكس أن هذا الأمر تم نظرًا لظروف سياسية واجتماعية معينة؛ بمعنى أن الكنيسة يمكن أن تؤسّس في أي مكان، وأن القديس بطرس على الرغم من مكانته إلا أن تلك المكانة لا تعني بأي حال أن له سلطة الأمر والنهي على كل أتباع المسيح.
وفي مسألة أخرى، تُطرح قضية عصمة قرارات البابا. فينما يرى الكاثوليك الرومان كما جاء في مجمع الفاتيكان الثاني 1870م أن البابا قراراته معصومة؛ تبعًا لكونه الرأس الوجودي للكنيسة، وأن قراراته نابعة من عدة صفات وأسس لاهوتية تجعل منها، إذا لم تخالف قرارات مجمع الفاتيكان الأول، قرارات معصومة. بينما يرى الأرثوذكس أن تلك القرارات نابعة أيضًا من ظروف بعينها، ولكنهم مع ذلك يقرون باحترام تلك القرارات والامتثال لها لكن لا على أساس وجودي.
وأما عن مسألة المعتقد، فيظهر خلاف آخر بين الاثنين. فيرى اللاهوت بعامة أن هناك تفرقة بين الأب كشخص، والأب كوجود. وفي حين يرى اللاهوت الأرثوذكسي أن الإله واحد، وأن وحدته كشخص هي أساس التثليث؛ فالرب يأتي أولاً كشخص ويُستمد منه الابن والروح القدس كلاهما. يرى اللاهوت الكاثوليكي في معظمه أن هناك وجودًا مطلقًا للإله في البدء وبه يوجد الثلاثة: الأب والابن والروح القدس وتجمعهم صلة الحب. فمرةً أخرى الخلاف بينهما حول ما الوجودي، وما الذي يمكن عزوه للشخص أو المبدأ.
كذلك يظهر في مسألة المعتقد محل للنظر في طبيعة المسيح. فالكاثوليك في مجمع خلقدونية سابق الذكر ألصقوا بالأرثوذكس تهمة أنهم يقولون بوجود طبيعة واحدة للمسيح؛ بمعنى أن المسيح إما إلهي-لاهوتي أو بشري-ناسوتي. لكن دأب اللاهوتيون الأرثوذكس على تزييف ذلك الزعم بقولهم إنهم يؤمنون بالفعل بطبيعة واحدة؛ لكنها إلهية وبشرية في آن واحد، وأنها لم تنفصل أبدًا ولن تنفصل.
وهناك مسألة أخرى في الفرق بينهما: وهي مسألة المُطهِّـر. فيعتقد الكاثوليك بوجود حيز ما يذهب إليه الإنسان الذي أذنب في حياته ليُعاقب لفترة من الزمن حتى يمكن أن يلتحق بعدها بالملكوت الإلهي، بينما يرى الأرثوذكس الأقباط أن تلك المسألة تعارض الفداء الذي قام به المسيح؛ فلا خلاص إلا بقبول دمه. ويُرجع البعض إيمان الكاثوليك بإمكان خلاص غير المسيحيين وفقًا لنيتهم، وإيمان الأرثوذكس بعدم إمكان ذلك أبدًا إلى هذه النقطة حول المطهر. ولكن مسألة المطهر بها كثير من اللغط، ويعتقد البعض أنها ليست بذلك الوضوح على الإطلاق؛ لأن كلمة المطهر حين ترجمتها قد تعني: النعيم، وكذلك قد تعني الجحيم. ولهذا لا تُعتبر من النقاط الحاسمة عند التدقيق، بالرغم من كثرة الجدل حولها. وما يتبقى منها هو الجدل حول إمكانية خلاص غير المسيحي من عدمه.
عل كلٍ، ظل الحال متأزمًا حتى القرن العشرين حين بدأت محاولات رسمية جادة للجمع بين المذهبين على أرضية مشتركة، وبالفعل لعب في هذا المسعى بابا الإسكندرية الراحل البابا شنودة الثالث دورًا رئيسًا حيث توصّل شنودة وممثلو بابا روما وعدد من اللاهوتيين في عام 1988م على نصٍّ كان قد اقترحه البابا شنودة في عام 1971م لجمع شمل المذهبين على كلمة سواء تقضي بأن كليهما يؤمنان بأن يسوع المسيح هو الرب المتجسد في لاهوته وناسوته وأن هذه الطبيعة لم تنفصل يومًا.
فالخلاف بين الكنيستين وإن بدا في ظاهره خلافًا تاريخيًا سهلاً، إلا أنه يحمل بين دفتيه مسائل كثيرة عالقة لم تحل بعد، ولم يجد لها كبار اللاهوتيين مخرجًا سوى بعض المصالحات الاسمية، وكثيرًا من الخطابات العامة التي تدعو للتسامح والانفتاح على المذاهب الأخرى. ولعل هذا يكون بسبب أن التصور المشترك بين كليهما لا يقبل أن يكون هناك «تمزق في جسد المسيح؛ الكنيسة»، بينما الواقع التاريخي يشهد بأن هذا التمزق قد وقع بالفعل!.
- Laurent Cleenewreck, «His Broken Body», (Washington, Euclid University Consortium Press, 2007)
- Carter Lindberg, «a brief history of Christianity», (UK, Blackwell Publishing, 2006)
- Yves Cougar, «After 900 years, Background of Schism between Eastern and Western Church», (NY, Fordham University Press, 1959)
- Maged Attia, «the Coptic Orthodox Church and the Ecumenical Movement», (Egypt, Bishop of Youth Affairs, 2001