رواية بنات حواء الثلاث: أزمة الوقوف في المنتصف
نسجت أليف شافاق عالمًا من الحكايا، ووضعت بيري بطلة حكايتنا في المركز، جعلتها تذرع جيئةً وذهابًا في منطقة رمادية بين أب لا يلق بالًا لتعاليم الدين، ابتدع قانونًا أراحه من الالتزام بالابتعاد عن الخمر الذي ظل طيلة حياته يقارعه في كافة المناسبات وكل الظروف.
وأم لا تتحرك قيد أنملة إلا بعد الرجوع إلى الدين، كانت الأم تعتنق كل الأشياء بمنتهى الجدية والصرامة، حتى فيما يتعلق بأمور البيت والحياة اليومية، بذلت عمرها تنظف وتلمع وتزيل الأوساخ عن كل الأسطح حتى تآكل جلد يديها ولم تفتر عزيمتها يومًا.
أما أخواها فكان أحدهما منحازًا لجانب الأم والآخر يتخذ منهجًا متفردًا من البحث عن العدالة المفقودة، والسعي في محاولة تحقيق المبادئ العليا في مجتمع لا يعترف بها بالكلية بل ويجرم من ينادي بها، وبعد أن تم استغلال حداثة سنه وانعدام خبرته من بعض المخربين المسلحين، لاقى مصيره المظلم في غياهب السجون وكان ذلك بالطبع من أشد ذكريات بيري قتامة وأحد أكثر جروحها إيلامًا.
أليف شافاق التي لم تخيب مرة ظن قرائها في شق موطن الألم بمبضع شديد الحدة، وإخراج العضو المعطوب وتوجيه مجهرها إليه فما تزال تحلل وتدقق النظر حتى تعرف سبب العلة، وتترك للقارئ مساحة واسعة للافتراض والتخيل قبل أن تضع أمامه تشخيصها دون مصادرة على رأيه.
صورة طفل الضباب والحقائق الغائبة
كانت صورة طفل الضباب تظهر لبيري من العدم كلما اشتدت عليها الظلمة أو تكالبت عليها الظروف، لم تكن تعرف ذلك الوجه ولا تعتقد أنها رأته في السابق، كانت تارة تظن أنه ملاكها الحارس الذي ينقذها من النوائب.
ظهر لها للمرة الأولى في ظهيرة أحد أيام طفولتها المبكرة وأنقذها بظهوره من الخطف على يد مجرم كان على وشك اغتصابها أو قتلها أو ربما نالت المصيبتين إن لم يظهر لها ذلك الوجه الطفولي محاط بهالة من الضباب.
وفي مرة لاحقة أنقذها ظهوره من متشرد الشارع الذي خطف حقيبة يدها، كان مجرد بزوغ وجه الطفل يبث فيها عزيمة وقوة كانت غائبةً عنها منذ لحظات قليلة لا أكثر، وهو السر الذي لم تتبين ماهيته ولكنها أسرت به أولًا لأمها فخالته سلمى «الأم» مس من الجن نال من ابنتها لأنها غفلت عن تحصينها بالأدعية والأذكار، مما دفعها إلى اصطحاب الطفلة إلى أحد المشعوذين والذي عمد بدوره إلى إخراج ذلك الجني عن طريق الضرب المبرح وانهال بعصاه على جسد بيري وهو يهدد ويتوعد تلك القوة الخفية المختبأة بداخلها بأبشع مصير إذا لم يمتثل لأمره.
انتهى ذلك المشهد العبثي بخروج المرأة والابنة مهرولتَين وسطَ سيلٍ من تحذيرات ذلك الرجل بأن ذلك الهرب سوف يحملهما وحدهما مسؤولية ما سيحدث للطفلة لأنه لم يتم طقوس العلاج المزعوم.
أما المرة الثانية التي تحدثت فيها ذلك الأمر فكان للأستاذ آزور، الجني الحقيقي الذي ظهر لها من مصباح جامعة أوكسفورد وظنت أن لديه الإجابة الشافية لكل الأسئلة التي ظلت تؤرقها طيلة حياتها عن حقيقة نفسها وحقيقة الأشياء.
عرفت بيري في مرحلة متأخرة من حياتها أنه كان هناك من يؤنس وحدتها داخل رحم أمها وخرج معها إلى النور يوم ولادتهما، توأمها الذي عاش معها لمدة ثلاثة أعوام ثم مات مختنقًا بقطعة من أول وآخر ثمرة إجاص تذوقها في حياته، فمات في معيتها وحدها، حين تركتهما سلمى برفقة وعاء من الفاكهة وانصرفت لبعض شؤونها، وحينما أتت لتلق نظرة على الطفلين كان أحدهما قد فارق الحياة، فما كان منها إلا أن تقيأت مرارتها دفعة واحدة في وجه بيري، لأنها لم تصرخ ولم تطلب النجدة ولم تنقذ أخاها، فطمست ذاكرة بيري الحادث وكذلك صورة أخيها، ولم يتبقَ من ذكراه سوى بعض من روحه وكأنها كانت هي المس الحقيقي الذي اخترق صدرها، مما جعل الذنب يرافقها طيلة حياتها دون أن تعرف السبب إلا عرضًا من منصور والدها والوحيد الذي كان يؤنسها الحديث معه من بين جميع أفراد أسرتها.
الصورة
استهلت إليف شافاق روايتها من العصر الحديث، بعد أن عادت بيري إلى إسطنبول دون أن تكمل دراستها في أوكسفورد وتزوجت عدنان الذي وصفته بالرجل النبيل ولم تزد على ذلك.
كانت بيري في طريقها إلى حفلة فارهة من الحفلات التي تضطر إلى حضورها مع زوجها لأسباب تتعلق بعمله، يقتضي حضور مثل تلك المناسبات ارتداء الكثير من القطع الموقعة بأسماء مصممين عالميين ولا ضير أيضًا في ارتداء الأقنعة حسب ما تقتضيه المواقف.
ارتدت لذلك الغرض ملابس مبهرجة كانت غير راضية عنها حيث باعدت تلك الأزياء بين مظهرها وجوهرها بشكل صارخ ومزعج، كانت تحمل حقيبة ممهورة بتوقيع مزيف لمصمم عالمي ذائع الصيت، غير ذات قيمة فعلية وسط أشباهها، ولكن والحال هذه ما الذي جعلها تركض بكل ذلك الإصرار عندما اختطفها اللص، إلى الحد الذي عرض حياتها للخطر.
كانت بيري تطارد سني عمرها المنصرمة المملوءة بالتناقض وانعدام الوزن والتيه والمتمثلة في صورة داخل حقيبتها المزيفة، كانت خائفة من فقدان الشئ الحقيقي الوحيد حتى وإن كان موجعًا لتحتمي به من زيف وتفاهة الحاضر.
كانت الصورة بمثابة شاهد على عصر كانت فيه بيري سعيدة ومقبلة على الحياة، خافت أن تفقدها فتفقد بذلك الإثبات الوحيد أنها كانت هناك، حتى وإن حوت تلك الذكرى سرب من الأحزان وغصة في الحلق نابعة من شعور عميق بالخزي والذنب.
كانت الصورة لثلاث فتيات هن «بنات حواء الثلاث»: منى المدينة بغطاء رأسها وشيرين المتحررة من كل شئ والرافضة دائمًا وأبدًا لأي قيد من أي نوع، وثالثتهما بيري تقف في المنتصف كما هو موقعها على الدوام، وفي الخلف يقف الأستاذ آزور، ثلاثة أفراخ صغيرة تحتمي بأمها من برد قارس يظهر على هيئة بياض الثلج الناصع في الخلفية.
ذهبت كل واحدة منهن لتدرس منهج اللاهوت والرب مع أكثر أساتذة أوكسفورد إثارة للجدل، الأستاذ آزور العصيّ على الفهم، الذي جمع في صفّه أكثرَ أنماطِ الطلبة اختلافًا وبعدًا من حيثُ الآراء والمعتقدات الدينية والأخلاقية، والمواقع الجغرافية التي أتوا منها على حد سواء.
دخلت بيري الجامعة والتحقت بصفّ الأستاذ آزور بناءً على توصية من صديقتها ورفيقتها في السكن «شيرين»، ولكنها لم تكمل دراستها في أي منهما وتركت كل شئ وراء ظهرها كصفحات فارغة لقصة مبتورة لم تحظ بنهاية، ولّت عائدة إلى اسطنبول لا تحمل سوى خيبة الأمل عوضًا عن الشهادة التي كانت الحلم الأوحد لولدها.
لم تغلق تلك الملفات المفتوحة إلا مساء يوم السرقة حين قررت في نهاية اليوم أن تتصل هاتفيًا بشيرين بعد سنوات من الغياب، بعد تلك المحادثة تخلصت بيري من عبء أثقل كاهلها لسنوات مديدة وخاصة عندما اتبعت محادثة شيرين بأخرى للأستاذ آزور، واجهت بيري أخيرًا ماضيها الحزين، لم يكن الحزن غريبًا عليها على أية حال، إذ اعتادته، حتى أنها كانت تخال أنها ولدت به وأنه جزء أصيل من تكوينها.
تنفست بيري ملء رئتيها للمرة الأولى منذ زمن بعيد عندما واجهت ماضيها وتصالحت مع نقصه، وتمكنت أخيرًا من فتح صفحة جديدة مع ذاتها بلا ذنب ولا إثم.