فيلم «The Thing»: لأن النقاد ليسوا دومًا على صواب
في 25 يونيو/حزيران عام 1982، صدر فيلم خيال علمي بميزانية عالية، توقع الجميع فشله، بل وهاجمه النقّاد بضراوة حتى أن الكل آمن بذلك، إلا أنه أصبح من روائع السينما، وعلامة فارقة في عالم المؤثرات البصرية، وصناعة أفلام الرعب، إنه فيلم The Thing.
يعد الفيلم إعادة انتاج لفيلم The Thing from Another World (1951)، للمخرج الكبير «هاورد هوكس»، والقائم بدوره على رواية Who Goes There. أمّا فيلم عام 1982 فهو من إخراج أحد أساتذة أفلام الرعب والخيال العلمي، «جون كاربنتر»، الذي قدم مجموعة من الأعمال الكلاسيكية بميزانية صغيرة، حتى وصل أخيرًا لعالم الإنتاجات الضخمة في هوليوود، وقدم فيلم The Thing، الذي جعله من أساطير السينما، وكاد يقضي على مسيرته في نفس الوقت.
الشيء من عالم آخر
في مركز أبحاث علمية تابع للولايات المتحدة في القارة القطبية الجنوبية، حيث يغطي الجليد الأرجاء ويعم السكون، يعيش مجموعة من العلماء ومساعديهم في معسكر صغير، منعزلين عن العالم الخارجي طوال الشتاء، إلا بأجهزة اتصال محدودة.
يختلف تعاملهم مع العزلة والملل، بعضهم يستعين بالشراب والسكر، والآخر يشاهد حلقات تليفزيونية مُسجلة أو بعض الألعاب الرياضية، ثم يأتي ما يُعكر صفوهم.
في أحد الأيام الهادئة، تبدأ ضوضاء وإطلاق نار في الرنين حول المعسكر، وتظهر فجأة طائرة مروحية تابعة لمركز أبحاث نرويجي في نفس المنطقة، كانت كلبًا وتحاول قتله. يحتمي الكلب بالمختبر الأمريكي، ومع استمرار المطاردة تتحطم الطائرة، وينجو نرويجي يُطلق النار بشكل هستيري ناحية الكلب وبالتالي يصيب أحد الأمريكيين، ويصرخ ويحذر برعب وخوف، لكن لا يفهمه أحد، ثم يردونه قتيلًا.
يعزو الباحثون أنه ربما العزلة والجنون قد سبّبوا تلك التصرفات، ويُقرِّر بعضهم زيارة المختبر النرويجي للوقوف على ملابسات الموقف، بالرغم من اشتداد الشتاء والعواصف الثلجية، وانقطاع كل الاتصالات بالعالم الخارجي، بينما يدخل الكلب المعسكر، ويتحرك بأريحية في المكان ولا يهتم به أحد.
وعند زيارة المعسكر النروجي، يجدونه خرابًا وبقايا حريق ضخم، والطاقم بأكمله موتى، وبعضهم تم حرق جثثهم، إلا أنهم أيضًا يعثرون على بقايا كائن غريب بين الجثث المحروقة، ويعودون بالبقايا لدراستها مع بعض شرائط الفيديو التي تُوثِّق أبحاث علماء النرويج.
وعندما ينتبهون أخيرًا للكلب ويضعونه مع باقي الكلاب، يبدأ في التحول إلى كائن غريب، ويقوم بامتصاص وهضم الكلاب الأخرى، حتى يصل الفريق ويقومون بحرقه، ومع مشاهدة أشرطة الفريق النرويجي، يجدون أنهم اكتشفوا كائنًا فضائيًا مدفونًا في الثلج منذ آلاف السنين، ومع التشريح يتبين أن لهذا المخلوق قدرات على محاكاة أي كائن يتمكن منه، مما يعني أن أيًا منهم قد يكون بالفعل مُصابًا، يبدأ الرعب والشك في التسرب داخلهم.
عندما يخطئ النقاد
بميزانية بلغت 15 مليون دولار، وهو رقم قياسي لأفلام الرعب والوحوش بتلك الفترة، حيث أنجح الأفلام المعاصرة من نفس الفئة مثل Halloween (1978)، قد تكلّف 375 ألف دولار فقط، وFriday the 13th (1980) قد تكلّف 700 ألف دولار فقط. بينما دخل «جون كاربنتر» عالم هوليوود من الباب الواسع، بآمال كبيرة في تكرار نجاحاته في أفلام سابقة، لكن السحر انقلب على الساحر.
بعد صدور الفيلم مباشرةً، نزلت عليه صاعقة من الانتقادات ومراجعات كارثية من النقّاد، بالأخص الأشهر منهم، وحتى محبي أو مُساندي الخيال العلمي والرعب، فمثلًا وصفه الناقد «فينسينت كانبي» أنه «فيلم زائف للغاية، ولا يصل حتى إلى مرحلة إثارة الاشمئزاز، إنما مؤهل فقط ليكون خردة سينمائية». وكتب «ديف كير» أنه «من الصعب معرفة منْ يتعرض للهجوم، ومن الصعب علي كمشاهد حتى الاهتمام».
وبالمثل عبّر الناقد الأشهر «روجر إيبرت» عن خيبة أمله بسبب «الشخصيات السطحية والسلوك غير المعقول أو المبرر»، وانتقد الفيلم باعتباره ليس أكثر من تقليد لفيلم Alien (1979).
حتى أن الفيلم فشل فشلًا ذريعًا في شباك التذاكر، مُحققًا 19 مليونًا فقط مقابل ميزانية 15 مليونًا، لا تكفي حتى لتغطية تكاليف التصوير والتوزيع، وما زاد الأمور سوءًا أنه صدر بالتزامن مع صدور رائعة «ستيفن سبيلبيرج» E.T. the Extra-Terrestrial، الذي قدّم تصورًا أكثر تفاؤلًا من الوحوش والقتل والعنف، كذلك صدر معه في نفس اليوم مع فيلم الخيال العلمي الأسطوري Blade Runner، فكان The Thing كارثة بكل المقاييس.
بعدها فورًا تم طرد المخرج «جون كاربنتر» من الفيلم القائم على رواية «ستيفن كينج»، Firestarter، وتم إنهاء تعاقد المنتجين معه على عدد من الأفلام القادمة، مما كاد يقضي عليه كمخرج وينهي مسيرته سريعًا.
حتى جاءت الأنباء السارة أخيرًا، ومع صدور الفيلم على أشرطة VHS للمشاهدة المنزلية، سرعان ما لاقى قبولًا واسعًا بين المشاهدين، وحقق نجاحًا وشهرةً كبيرة، جعلته من أفضل أفلام الرعب في التاريخ، وانضم إلى عالم الـ cult classics، وأصبح من الأفلام ذات أندية المعجبين، ومرجعية لأفلام الرعب والمؤثرات البصرية، حتى دخل قائمة أفضل 250 فيلمًا في تاريخ السينما حسب موقع IMDB.
ويُعد حاليًا الفصل الأول من ثلاثية كاربنتر عن نهاية العالم، والذي تلاه Prince of Darkness (1987)، ثم In the Mouth of Madness (1994)، وما زالت النقاشات جارية عن الفيلم ونهايته إلى اليوم، حتى تم عمل لعبة شهيرة عن الفيلم بنفس الاسم في 2002.
الخطر الخفي
في إحدى حلقات المسلسل الأسطوري The Twilight Zone، تختفي الأضواء فجأة وتنقطع الكهرباء عن شارع هادئ، وتتوقف كل الأجهزة الكهربائية والسيارات عن العمل، ويخرج الجميع إلى الشارع في ذعر، ثم اقترح طفل أن هذا عمل كائنات فضائية، وفي ظل غياب خطر فعلي ملموس، يبدأ توزيع اللوم على الآخرين، ويتملكهم الشك والحيرة، حيث اتهموا أحد الجيران بالتسبب في ذلك، لأنه يجلس وحيدًا إلى السماء ليلًا لفترات طويلة، ثم عادت الكهرباء إلى منزله.
ثم جاء ظل غريب من بعيد فقام أحدهم بإطلاق النار عليه، لكنهم وجدوه جارهم الذي توجه إلى الشارع المقابل للبحث عن الكهرباء، حينها يتم اتهام الذي أطلق النار بأنه الفضاء، فلماذا كان سريعًا في إطلاق النار هكذا؟ وكيف سبق الجميع في ذلك؟ حتى تعود سيارته إلى العمل فجأة، ثم تقوم حالة من الفوضى وينتشر العنف بين الناس، بينما يتابع فضائيان من بعيد، ويعلنان أن السيطرة على الأرض ستكون أسهل ما يكون.
بالمثل، جاء الرعب في الفيلم بشكل أساسي كون الخطر مُتخفيًا، مما أثار الصراع بين الشخصيات في المقام الاول عوضًا عن مواجهة الكائن الطفيلي فعلًا، فهو يُهاجم عادة الأشخاص المنفردين، فعندما يغيب أحد الشخصيات عن الشاشة ثم يعود، تبدأ في التساؤل هل هو نفس الشخص؟ أم أن الكائن قد تمكّن منه؟ هل يكمن الاعتماد عليه أم أصبح جزءًا من المؤامرة؟
لكن بنفس الوقت ترى دائمًا الشخصيات تقوم بمهمات منفردة، ويتخلّون عن الجماعة بالرغم من التهديد والخطر، مما يخالف المنطق وينتقص من مصداقية الفيلم، وينزع التشويق ويُسبِّب التشوش للمشاهد، حيث تفقد القدرة على متابعة منْ توجَّه إلى أين، واحتمال إصابته، لكن أليس هذا من الطبيعة البشرية؟ ألا يقوم البشر بمثل تلك التصرفات المنافية للعقل والمنطق في أحلك الظروف؟ منذ بدأ وباء كورونا والبشر بأنحاء العالم يتعاملون بنفس السذاجة كأن شيئًا لم يحدث، ولا يوجد خطر في الأنحاء.
ثم يبدأ الفريق في مهاجمة بعضهم البعض، ويحاولون التخلّص من بعضهم، وكل منْ يحمل ضغينة تجاه آخر يتهمه بالتحوّل، مما يُهدِّد بخروج الوضع عن السيطرة ووقوع الفريق ضحية للفوضى، بينما ينجو الكائن الطفيلي، الذي بإمكانه تدمير العالم بالكامل في أيام قليلة، حال وصوله إلى القارات، مما يبرز التساؤل: هل من الأفضل التركيز على النجاة الشخصية للفريق، أم التفكير في البشرية ككل؟ كما فعل الفريق النرويجي وحاولوا التخلص من الخطر بقتل بعضهم وحرق الجثث، ثم مطاردة الكلب في كل مكان.
ومع غياب طريقة فورية لمعرفة مَن البشري ممّن تملّكه الكائن، يكون الوضع مشابهًا لسباق الذعر والرعب، الذي اجتاح العالم مع انتشار مرض «الإيدز»، بالتزامن مع وقت عرض الفيلم، فقط اختبار دم يمكنه الفصل، لكن قبل ذلك لا يمكن التأكد إطلاقًا، وحينها يصبح الجميع مريضًا محتملاً، وفي ظل جهل الناس عن ماهية المرض أو كيفية الإصابة به في البداية، تكون البارانويا والأوهام سلاح الدفاع الوحيد، ويُمهدان الطريق أمام الانقلاب على الآخرين لإنقاذ النفس.