موهبة الكذب
استيقظنا ذات صباح على الخبر الغريب التالي الذي نشرته جريدة لها احترامها، وكتبته صحفية اسمها شيماء النقباسي:
كان الخبر عجيبًا، فلم تكن هناك أي بوادر تنذر به على الإطلاق، وقد بدا لنا هذا كصدمة كهربية. بعد يومين أو ثلاثة ظهر التصحيح التالي في عدة صحف:
وكان الكل يعرف هذا لأن د. أمجد عبد الرءوف يمارس عمله من مكتبه كالعادة، ود. جمال موسى يعاني بعض المشاكل الصحية لا أكثر. وفي خبر آخر: «نفى الدكتور إبراهيم سالم، القائم بعمل رئيس جامعة طنطا، ما أثير عن إقالة الدكتور أمجد عبدالرءوف عميد كلية طب جامعة طنطا أو استبعاده من عمادة الكلية. وقال سالم في تصريحات، لـ«الدستور»، إن عميد كلية الطب كان حاضرًا وقت انعقاد مجلس الجامعة اليوم، مناشدًا المؤسسات الصحفية والمواقع الخبرية تحري الدقة والموضوعية وعدم تداول أي أخبار دون الرجوع لمصدرها. وأكد القائم بعمل رئيس الجامعة، أن عميد كلية الطب سيتخد الإجراءات القانونية ضد محرري الخبر المغلوط.»
كلا الرجلين صديق عزيز لي، لكني لا أتحدث هنا بشكل شخصي للدفاع عن أصدقاء. أتحدث عن أسلوب غبي في الكذب، وهو الكذب الذي يمكن أن تفضحه بمكالمة صغيرة تستغرق نصف دقيقة. أي أن المقصود هنا هو الشوشرة لمجرد الشوشرة، وثمة طرف خبيث قد دس الخبر للصحفية التي يمكنني أن أتخيل شكلها بسهولة تامة! بينما الكذب البارع يقتضي أن يكون هناك بعض الغبار والضباب أولاً.
كانت هناك إشاعة قوية منذ أعوام عن جعل سن المعاش خمسين عامًا وأن القرار نفذ فعلاً. قلت لناقلي الخبر إن هذا لا يمكن أن يحدث فجأة وأن معنى هذا أنني سأخرج إلى المعاش خلال شهرين، وإن نصف أعضاء القسم سيجلسون في بيوتهم غدًا ! لكنهم قالوا في ثقة إن هذه هي الحقيقة وإنها مأساة لكن لابد من قبولها. لم يكلفني الأمر سوى خمس دقائق لمكتب شئون الأطباء في الكلية عرفت منه أن الخبر مزور، ويقوم بالكامل على فاكس مزيف أرسله مجهول للكلية. برغم أن كثيرين صدقوا الخبر فإن هذا نموذج للكذب الذي يمكن نقضه خلال نصف دقيقة.
يبدو أن د. جمال موسى ضحية محببة لهذا النوع الغريب من الكذب المفضوح الذي تنهيه مكالمة هاتفية. منذ عام جعلوه يدير شبكة من تجار الأعضاء، وحشروا معه أسماء طبيبات يستحيل أن يشاركن في شبكة لتجارة المربى. وألحقوا اسم د. توحيد موافي الذي هو خارج مصر منذ أعوام طويلة.
قبل وفاة الفنانة شادية توفيت مائة مرة في الصحف والمواقع الاجتماعية، وفي كل مرة يتم نفي الخبر بسهولة نسبية. لكن عندما توفاها الله فعلاً فقد ظل الناس لا يصدقون لمدة يوم، وإلى أن نشر الخبر في مواقع عالية المصداقية.
هناك أناس تجد لذة فاحشة حقيقية في الكذب. والنقطة الأهم هي أنهم لا يخجلون عند افتضاحهم. هذه من مواهب الكذب المهمة أن تكون أقوى من الافتضاح وألا ينكسف طبعك. بعض الكذب غبي جدًا يذكرنا بالقاعدة القديمة (على الكذوب أن يكون ذكورًا)، أي على الكذاب أن يتذكر ما قاله من قبل حتى لا يقع في تناقضات لا تنتهي كلما حكى القصة. وهي طريقة يعرفها محققو الشرطة جيدًا. لو حكى القصة عشر مرات لغير شيئًا في كل مرة.
أحيانًا تكون الكذبة متقنة ويصعب تبينها، وتترك دائمًا رائحة الشك (لربما كان هذا صحيحًا) وهذا أخبث كذب ممكن. من ضمن هذه الأكاذيب هل كان الفنان فلان والفنانة فلانة متزوجين؟ هل المخابرات هي من قتلت فلانًا أم هو انتحر؟.. الخ ..
عندما توفي نجل الرسول (ص) إبراهيم، قيل إن كسوفًا شمسيًا غمر العالم، وأظلم الجو. هذه ثمرة سانحة يثبت فيها نبوته وقدراته، وقال الناس إن الشمس كسفت لموت إبراهيم، لكن الرسول خرج على الناس وكان مغضبًا حانقًا، وقال للناس قولته الشهيرة عن أن الشمس والقمر من آيات الله ولا تكسفان لموت أحد أو حياته. ما كان أحد ليكذبه لو قال العكس، لكن هذا درس في الدقة .. ببساطة ينفي هذا لأنه لم يحدث.
الصدق والأمانة .. أنبل ما في الوجود، بينما الكذب وسيلة قذرة جدًا وغير عادلة للتلاعب بعقول الناس، خاصة إذا وثقوا فيك.