«حكاية السيد زومر» هو عنوان رواية للكاتب الألماني «باتريك زوسكند» صاحب رواية العطر، وهي العمل الأشهر من بين كتاباته. عند مطالعة العنوان يُخيَّل إلى القارئ أنه بصدد الاطلاع على سيرة كاملة لشخص إسمه «السيد زومر»، في حين أن صفحات الرواية تتحدث عن شخص يحيا على هامش حياة الأخرين، لا يعرف عنه أحدٌ شيئًا.

نجح الكاتب في أن يشعر المتلقي أن هذا الشخص ما هو إلا طيف أو شبح في قرية صغيرة، كل قاطنيها يعرفون بعضهم البعض. جعلتني هذه الرواية أستحضر عملا آخر لنفس الكاتب وهو رواية «الحمامة»، حيث كان البطل شخصًا وحيدًا يعيش على الهامش أيضًا، لا يرغب في أن يكلمه أحد ولا أن يضطر للإجابة على أي سؤال.

بطل «الحمامة» كان يقاوم البشر بالسكون، يحافظ على رتابة حياته مهما كلفه الأمر، لا يريد أن يشاركه أحد في أي شئ، يحافظ على استقراره إلى الحد الذي يجعله يضطرب بسبب طائر يتخذه العالم رمزًا للسلام. أما السيد زومر فيحتمي من الناس بالحركة، لا يكف عن المشي جيئة وذهابا مهما كانت حالة الطقس ولو أمطرت السماء حجارة، لا يكف زومر عن السير، لم يره أحد من أهل القرية في حالة سكون أبدًا. نسجت هذه الصورة حالة من الغموض حول الرجل، لم يره أحد مرة في السوق أو في واحدة من المناسبات الاجتماعية مثلا، كانت زوجته تقوم بزيارات ثابتة للمدينة للتبضع، أصبحت خطواتها محفوظة ومواعيدها معروفة.

الراوي

يقدم «باتريك زوسكند» في هذه الرواية الحكاية على لسان طفل بعين من الفضول والترقب، طفل مولع بتسلق الأشجار، يرى العالم من أعلى الفروع، يعرف كيف يختار الشجرة التي يستطيع أن يشاهد العالم من فوقها ثم يهبط دون خسائر ولا إصابات. كان يرى السيد زومر يجوب القرية بخطواته الثابتة وبمظهره الذي لا يتغير؛ ففي الشتاء يلبس المعطف والبنطال والحذاء الذي يصل إلى الركبة ويحمل المظلة، وفي الصيف يلبس الشورت والقميص قصير الأكمام، وفي الحالتين حقيبة الظهر التي يرجح الراوي أنها تحوي الشطائر وغطاء المطر، وكذلك العصا التي يتوكأ عليها دوما ويضبط عليها خطواته وتعينه على المشي لمسافات طويلة.

هذا الطفل الذي كان يهوى أن يطير ويشعر أثناء تسلقه للشجر أنه ارتفع عن الأرض واقترب من ذلك الحلم، رغبة في الحرية يترجمها عقله وجسده على هيئة رغبة في التسلق أو فتح ذراعيه في وجه الريح أثناء الجري نزولا من المنحدر، غيرَ عابئ باحتمالية السقوط وأخطاره.

لم يسمع الراوي صوت السيد زومر سوى مرة واحدة في حياته حينما كان الطفل يركب السيارة إلى جانب أبيه وهبت عاصفة قوية وأمطرت السماء قطعًا من الثلج، بينما السيد زومر يسير ويسير، لم يوقفه المطر ولم تردعه العاصفة، حاول أبو الطفل أن يكلمه ولكنه لم يتوقف عن السير، حاول أن يطلب منه أن يركب معهم لأن الجو في الخارج مميت ولكنه رفض وطلب منهم أن يتركوه يمشي في سلام، مما أثار تعجبهم ثم نقلوا هذا الحدث لبقية الأسرة، وهنا فُتح باب الاستنتاجات وبدأ كل فرد من الأسرة بالتكهن؛ ما الذي يجعل إنسانًا يقتل نفسه بالسير في طقس كهذا، ثم استقر رأيهم في النهاية إلى أن السيد زومر يعاني من مرض نادر، يجعل جسده في حالة من الرعشة الدائمة في حالة ثبات جسده، أما إذا تحرك فإن الرعشة تختفي.

ولكن تحت رذاذ المطر على الطريق العام المغطى بشظايا البرَد وهو يسوق بمحاذاة السيد زومر صاح أبي عبر الباب المفتوح بالجملة النمطية: ستجلب الموت لنفسك ! فإذا بالسيد زومر يقف. اعتقد انه تحديدًا عند سماعه (تجلب الموت) تصلب واقفًا وعلى نحو فجائي بحيث اضطر أبي إلى ضغط الفرامل كي لا يتجاوزه، ثم نقل السيد زومر عصا الكستناء من يده اليمنى إلى يده اليسرى، التفت إلينا وقال بصوت عالٍ وواضح وهو يضرب كعب عصاه بالأرض عدة مرات في تعبير عن عناد يائس: (إذن دعوني في أخيرًا بسلام) ولم يقل شيئًا آخر.

حرية الحياة والموت

اختار السيد زومر أن يمضي في حياته سيرًا على قدميه، بل أن تكون حياته هي السير لا يحب الناس ولا يشاركهم في شئ، لا يشغله كيف ينظرون إليه ولا ماذا يقولون عنه نظرًا لسلوكه الغريب، اختار أن يتحرك بلا توقف مهما كانت مشقة السير، ربما كانت عصاته التي يتوكأ عليها هي الرفيق الأفضل، ربما كان يعاني من مرض نادر بالفعل يجعل هذه الحركة المستمرة
ضرورة، وربما لم تكن هذه هي الحقيقة، ولكن على أي حال كان السيد زومر يحظى بحرية لا يتمتع بها غيره، فلا يدين لأحد بشئ، يحتفظ لنفسه بمساحة شاسعة من الأمان، يحيط نفسه بالطرق والغابات عِوضًا عن البشر.

إذا نظرنا إلى كتابات باتريك زوسكند فإننا نلاحظ طبعًا من الغرابة والتفرد لأبطال أعماله، ينسج عالمًا خياليًا بالكامل، ويضع أبطاله في أُطُر من الغموض، يسبر أغوار النفس البشرية المعذبة، ويرافق غريبي الأطوار الذين يبتدعهم ثم يكتب عنهم باقتدار وبراعة.

اختار السيد زومر أن يمضي في النهاية بحرية وسلام كالذين حظي بهما طيلة الفترة التي عرفه فيها الراوي، حيث أن الكاتب لم يتحدث عن تاريخه ولا ماضيه، اكتفى فقط بحكاية سيره حتى يفسح المجال للقارئ أن يضع له التاريخ الذي يروقه، منح القارئ الحرية الكاملة ليتخيل ما قبل رحلة السير الطويلة جدا، ولكنه حسم نهايتها، حيث مضى السيد زومر سيرًا إلى البحيرة، واستمر في المشي داخلها بثباته المعتاد حتى اختفى تمامًا بعد أن غمرته المياة حتى رأسه.

كان الراوي يجلس فوق غصن شجرة كعادته حينما ظهر أمامه ذلك المشهد، وظل مشدوهًا يراقب السيد زومر، الذي لم يتراجع ولو للحظة، ولم يتردد، ربما فكر الطفل أن يصرخ أو يستغيث ولكنه آثر السكوت في النهاية، أن يترك الرجل يمضي في سلام كعادته دومًا وأن يتمتع بحرية اتخاذ القرار الأخير.

اختفى السيد زومر من الوجود ولم يعرف أحد أين ذهب، فجنح الناس كعادتهم لتأليف الحكايات حول اختفاءه، ذهب كثيرون للاعتقاد بأن «السيد زومر جن في آخر أيامه، يبدو أنه تاه ولم يعد يعرف طريق الرجوع إلى بيته، ويحتمل أنه لم يعد يعرف اسمه وأين يقيم»، غير أن هناك شخص واحد كان يعرف الحقيقة، ولكنه اختار أن يكتم السر، لأنه كان يعلم يقينًا أن هذا ما أراده السيد زومر.

لا أعرف سببًا لإصراري على السكوت طوال تلك المدة، لكني لا أظنه الخوف أو الشعور بالذنب أو تأنيب الضمير. ربما كان ذكرى ذلك التأوه في الغابة، والشفتين الراجفتين في المطر، وتلك الجملة الابتهالية: (دعوني إذن في سلام أخيرًا)، إنها الذكرى نفسها، التي أسكتتني عندما رأيت السيد زومر يُغرق نفسه في البحيرة.