فن اللامبالاة: محاولة بائسة لإنقاذ التنمية البشرية
«فن اللامبالاة: لعيش حياة تخالف المألوف».. عنوان من النوع الذي تطالعه عندما تمر على منصات باعة الصحف في الشوارع. وهو النوع نفسه الذي يلج غالبا إلى قوائم الأكثر مبيعًا، فالجميع بالتأكيد يودون معرفة «المفاتيح العشرة للنجاح» أو «كيف تعيش سعيدًا»، على سبيل المثال. لكن إذا كنت ممن لا يلقون بالًا لهذا النوع من الكتب، فإن الصورة التي التقطت لمحمد صلاح – أحد رموز النجاح في العالم كله اليوم – وهو يطالع كتاب «فن اللامبالاة»، تدفعك بالتأكيد إلى التساؤل عما يطرحه هذا الكتاب وأشباهه، وهل هو مفيد حقًا إلى درجة تدفع محمد صلاح إلى الاهتمام به؟
المؤلف هو الكاتب الأمريكي «مارك مانسون»، وقد صدر الكتاب بلغته الأصلية عام 2016، ثم صدرت النسخة العربية بترجمة «الحارث النبهان» في العام 2018 عن منشورات الرمل. ينتمي الكتاب إلى فئة «مساعدة الذات»، لكنه مثال نموذجي على نمط جديد من كتب «التنمية البشرية» آخذ في الانتشار؛ نمط متميز يعبر عن أزمة تزداد وضوحًا في هذا النوع من الأعمال التي بدأت تفقد ثقة القرّاء.
خارطة الكتاب
يحمل الفصل الأول رسالة واضحة: «لا تحاول»، إذ جعل الكاتب مبدأ عدم المحاولة هدفًا رئيسيًا من الكتاب، مستندًا إلى مقولة «ألبير كامو»، الفيلسوف الفرنسي الوجودي: «لن تكون سعيدًا أبدًا إذا واصلت البحث عما تتكون السعادة منه، ولن تعيش حياتك أبدًا إذا كنت من الباحثين عن معنى الحياة». كما يقدم لنا الفصل «القانون التراجعي» الذي ينص على أن لعدم المبالغة في الاهتمام مفعولًا عكسيًا، يؤدي إلى النجاح لا الفشل.
ويأتي الفصل الثاني بعنوان «السعادة مشكلة»، ليؤكد حتمية الألم من أجل تحقيق الأحلام، بما يجعل محاولة تجنبه تصرفًا ضارًا. أما الفصل الثالث فحمل عنوان «لست شخصًا خاصًا متميزًا». وفي «قيمة المعاناة» – عنوان الفصل الرابع – يدعونا الكاتب إلى اختيار القيم الصحية، فلا يتوجب على الإنسان البحث عن طريقة لوقف المعاناة، بل عليه أن يبحث عن هدف يستحق عيش تلك المعاناة.
بعدها، يأتي فصل «أنت في حالة اختيار دائم». ونقرأ فيه عن عجز الإنسان عن التحكم فيما يحدث له، لكنه يستطيع اختيار رد الفعل المناسب. وانتبه «أنت مخطئ في كل شيء» – كما هو عنوان الفصل السادس – لذا عليك مساءلة معتقداتك وأفكارك وأسلوب حياتك على الدوام، لا للوصول إلى الإجابات الصحيحة؛ بل الإجابات الأقل خطأً. ويحذرنا الكاتب في الفصل السابع من اليأس والقنوط عند العقبات والعثرات، لأن «الفشل طريق التقدم».
وفي فصل بعنوان «أهمية قول لا»، نقرأ أن الطريقة الوحيدة لإكساب الحياة نوعًا من المعنى هي التنازل عن الحرية الكاملة والالتزام بهدف محدد. وأخيرًا، يأتي الفصل التاسع «وبعد ذلك تموت»، فصلا أدبيًا بامتياز، يسرد فيه مانسون قصة وفاة صديق مقرب، ويشاركنا بعض التأملات في قالب أدبي رقيق.
الثعبان يخلع جلده لا أنيابه
قال أحد المعلّقين ساخرًا إن مكتبات اليوم لا تخلو من رفي كتب متجاورين، يحمل أولهما عناوين مثل «أطلق طاقاتك الهائلة» و«حقق أحلامك وامتلك العالم» و«كيف تصبح الأفضل»، بينما يحمل الثاني عناوين مثل «كيف تتخلص من الاكتئاب» و«عشرون نصيحة لتجاوز الإحباط». يظهر ذلك مدى التناقض والمخاتلة في كتب التنمية البشرية، فنصفها يخبرك بأنك أعظم إنسان، بينما يعترف نصفها الآخر بأنك شخص محبط!
يمثل كتاب «فن اللامبالاة» توجهًا مختلفًا، ليس أقل وردية فحسب، بل انتقاديًا في مواجهة الدعاوى القديمة التي تشرّبتها الثقافة الشعبية، أبرزها استثنائية وتميز كل فرد في المجتمع؛ يظهر ذلك عندما يحدثك زميل مثلًا عن شوقه إلى يوم يكتشف فيه مجال تميزه، فلكل فرد – كما أخبرونا – مهارة ومجال يفوق فيه غيره. أما مانسون فيقولها صراحة: «لسنا استثنائيين كلنا!»، كذلك «إحساسك الجيد تجاه نفسك لا يعني أي شيء في حقيقة الأمر، إلا إذا كان لديك سبب وجيه يجعلك تحس ذلك»، فأنت «لست شخصًا فريدًا مختلفًا عن الآخرين»، لكن «يخشى كثير من الناس قبول تواضع الحال لأنهم يظنون أن قبوله سيؤدي بهم إلى عدم إنجاز أي شيء».
اقرأ أيضًا:خرافات الطاقة: بدائل السياسة والدين في الإعلام
رغم تلك الصراحة والروح النقدية – كما يظهر حتى الآن – لم يستطع الكاتب تجنب مختلف خطايا خطاب التنمية البشرية التقليدي، حتى بدا الكتاب محاولة ذكية تستخدم الحيل والأساليب الخبيثة ذاتها لكسب جمهور متشكك صدمه واقع الحياة.
يمكن القول إن اختلاق القوانين والسنن الكونية الكاذبة – مثل قانون الجذب من قبل – هو أشد أساليب التنمية البشرية ضررًا. وقد ظهر ذلك النزوع مع أول فصول الكتاب، حيث قدم الكاتب «القانون» التراجعي باستنتاج مفرط في السذاجة. يقول مارك مانسون:
في هذه الفقرة بدأ مانسون بالحديث عن «أمر من الأمور»، ثم عن شخص أقل استثمارا في نجاح «شيء ما»، وانتهى بأن «كل شيء» يبدو وكأنه يتخذ موضعه الصحيح. ليخرج لنا في نهاية الأمر «قانونًا» ينص على أن «لعدم المبالغة في الاهتمام مفعولًا عكسيًا»! هكذا حصلنا على «قانون» عبر تسلسل أفكار واضح الفساد.
يمكن ملاحظة النهج نفسه عند استدلاله على «الحلقة الجحيمية التي تكرر نفسها»، وإن جاء تلك المرة أشبه بألعاب الحواة. يقول مانسون:
ثم ينتقل إلى شعور آخر قائلًا:
في الواقع، صُمّمت أدمغة البشر – لا أعرف موقف سائر الحيوانات – بحيث تسكن إلى التناسق وتخلقه أحيانًا مسببة خداعًا بصريًا، لعل ذلك ما يجعلنا نمر على أمثال تلك الفقرات كثيرًا دون الانتباه إلى الخدعة. فمن جعل الاهتمام بالقلق مؤداه إلى قلق من القلق، وجعل الاهتمام بالغضب مؤداه إلى غضب من الغضب. ألا يمكن للإنسان أن يحزن لقلقه المستمر؟ أو يغضب من حزنه الدائم؟ هكذا، باستقراء طفولي صار لدينا شيء من اللا شيء أسمي بالحلقة الجحيمية. الآن، لا بد أنك ترغب في التخلص من شباك تلك الحلقة الجحيمية الوهمية؟ حسنا، إليك «مسحوق اللامبالاة السحري».
أما عن الوقائع والقصص التاريخية التي أكثر الكاتب من ذكرها، فقد حمّلها في الأغلب ما لا تحتمل. فعل ذلك على استحياء في قصة بوذا الواردة في بداية الفصل الثاني، على سبيل المثال. حيث أقحم تفاصيل ودوافع وتأويلات لا تعرفها القصة الأصلية. كما كاد الأمر يبلغ حد الكذب في كثير من الأحيان، مثل قصة «تجربة ملجرام» الشهيرة في علم النفس، الواردة في الفصل السادس، فقد قال الكاتب يصف التجربة:
عمد الكاتب في هذه الفقرة إلى استخدام تعبيرات توهم بغير الحقيقة في أغلب المواضع، مثل قوله «صعّدوا العقوبة» التي يفهم منها مبادرتهم بالفعل بينما كان التصعيد يعقُب أوامر من المشرفين. أو قوله «لم يكد يوجد بين هؤلاء المعاقبين من رَفَض ذلك» بينما رفض ذلك أكثر من ثلث المشاركين. هنا، لا يمكن عذر الكاتب بالجهل، مثل حاله عند حديثه عن مقولة «المسؤولية الكبرى ترافق السلطة الكبرى» – بمعنى أن القوة تصاحبها مسئولية – التي نسبها إلى شخصية «العم بِن» في فيلم «الرجل العنكبوت» (وردت في الترجمة العربية للكتاب «الرجل الوطواط» خطأ)، في حين أنها في الأصل مقولة للفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير.
اقرأ أيضًا:«تأثير إبليس»: كيف يتحول حراس السجن إلى مجرمين؟
كذلك أبى الكاتب إلا أن يفسد جميله برفض بعض التصورات السامة التي قدمتها التنمية البشرية عن الحياة وطبيعتها، حين قدّم تصورات أخرى لا تقل عنها ضررًا، مثل ما جاء في الفقرة التالية:
في الحقيقة، لا أتصور إنسانًا يقاسي المعاناة التي أكّد الكاتب أنها من ضروريات الحياة، قد يمر على عبارة كتلك مدوّنة بيقينية صارخة دون أن يغمره شعور بالذنب والعجز والفشل وجلد الذات، ناهيك باستنزاف الجهد في معركة دون كيخوتية.
للأسف، يمتلئ الكتاب غير المترابط بعديد الدعاوى الفارغة والاستنتاجات الساذجة والاستشهادات الخاطئة والتناقضات الفجة التي يحتاج بسطها إلى كتاب أكبر حجمًا. كما يمتلئ بأمثلة على المشكلة الكبرى التي تحرم التنمية البشرية من السمت العلمي: الذاتية المطلقة، بمعنى الافتقار إلى أي قاعدة حاكمة للمزاعم المتباينة التي لا تخضع إلا لهوى الكاتب والصيحة الجديدة التي يرجى من ورائها كسب الجمهور/الزبائن ثانية. وهو ما تبدى بصورة فجة في إحدى الفقرات، حيث قال الكاتب:
هكذا الأمر صراحة، إنها إجابة متوقعة لا تجدي، بينما نحن في بحث دائم عن الغريب والمثير للانتباه، دون أي ضابط إلا الهوى.