فيلم الغريب: مرثية الأرض المنسية
تفتح السينما مجالات واسعة للتعاطي مع تيمة واحدة، فكرة التلقي ذاتها غير محكومة بنسق سردي مُعيّن، ما يمنح السينما في بعض الأحيان القُدرة على تطوير طابعاً تجريدياً، يتلافى الوجود المُباشر والحكي التقليدي، بل يخلق إيقاعاً خاصاً ولٌغة بصريّة فريدة تُتيح مساحات جديدة للاشتباك، بحيث تخلق طبقات مكثّفة وتنقل المروية البصرية إلى عُمق سينمائي كاشف، ليس كاشفاً بالمعنى السائد، إنما من الناحية العاطفية، فالكثير من الأفلام تحتاج يقظة عاطفية ورقة شاعريّة للمسها وتفكيكها، فالفن بشكل عام لا يملك الصلابة المنطقيّة أو النموذج المثالي، بل يتسم بالمرونة والحركة والتجريبية.
ما يمنح فيلم «الغريب» فرادته على أكثر من مستوى، كتجرُبة طويلة أولى لمُخرِجه السوري أمير فخر الدين؛ الذي يخلق فيلماً مكانياً في المقام الأول، وينطلق من خلاله إلى مناطق اكثر حميميّة في سؤاله حول الهويّة وقيمة الفرد بالنسبة لذاته ومكانته داخل النظام الاجتماعي، والحقيقة أن فخر الدين يؤسس لإشكاليّة شديدة التعقيد، لأنها تكتسب خصوصيتها من المكاني القائم على ظروف متفرّدة، فطبيعة الوجود داخل هضبة الجولان المُحتلة يؤثر على الأدوات والمفاهيم بشكل جوهري، فخواص الحيّز المكاني تنفُذ إلى طبيعة الأشياء الاوليّة، وظروفها الاستثنائية المُجحفة ــ كأرض مُحتلّة ــ تطور نماذج غير تقليديّة على مستوى الشخصيّات وتخلق مساحات جديدة للتلقي، فخر الدين هُنا ينقلنا إلى حيث الغُربة والاغتراب، يرصُد صراعاً بين البقاء مُغترباً داخل الأرض، او الرحيل إلى حيث الغُربة، في خيارين كلاهما مُر بالنسبة لطبيعة شخصيّة متحجرة مثل عدنان (أشرف برهوم).
الهويّة والمكان
يتحرّك فخر الدين من الاغتراب كتيمة أساسية وعلى هوامشها تتفاقم رؤى وأحلام وكوابيس، وفي العُمق يُثار التساؤل الأكثر أهميّة، سؤال عن الهويّة، رصده الشاعري للمكان يُعيد إثارة السؤال في كُل مرّة، ضمن كُل تكوين، فالأساس المشهدي للفيلم يتموضع داخل الرؤية البصرية للمكان بأسلوب عاطفي؛ يتماس مع الإشكاليّة الأساسيّة للبطل، إشكالية المكان على المستوى الروحي، ومُعضلة السكن حيث يُمكن للمرء الشعور بالانتماء، والحقيقة أن ظروف البطل الاستثنائية تتعرّض للمسكن والوطن في مواضع شديدة الحساسيّة، وعلى قدر الحساسيّة والشاعرية يتراكم الغموض والالتباس، أشار هيدجر إلى مُعضلة الإنسان في بحثه دائماً عن معنى متجدد للسكن:
وعلى هامش هذا ترصُد الكاتبة جوانا ريتشاردسون في كتابها «المكان والهويّة» أن الهوية بما تحمله من فرادة تتطلب مُعالجة خاصة، وتفرض إشكالية نفسها لأن لكُل هوية من هوياتنا ــ على مستوى فردي ــ عدداً من تركيبات الذات والبنية، وجميعها بالضرورة يتقاطع، هذه البنيات يُمكن أن تُهيمن عليها السُلطة أو التشكيلات السياسية وتُهمّشها بطريقة أو بأخرى، ما يخلق الإشكالية الهوياتية، تُشير ريتشاردسون إلى أهميّة الهويّة الفرديّة القائمة على الجنس أو العرق أو الدين أو العمر في تسليط الضوء على احتياجات مجموعات معينة ضمن إطار المساواة الاجتماعية والعدالة، ولكنها ــ تقول ريتشاردسون ــ على لناحية الأخرى أهملت تعقيدات الهويّة، والعلاقة المُتبادلة مع المكان؛ الروابط التي تخلق الوطن، من ذلك المنظور يُمكن أن نرى فيلم «الغريب» بتعقيداته وكثافته وطبقاته العميقة، فالأمر بالنسبة لفخر الدين لا يتوقف على الفردي أو الذاتي، بل يتجاوز ذلك، حتى لو بشكل غير مُباشر، ليُشير إلى الارتباط اللا إرادي بالأرض وتعقيداتها، وأهميّة فهم الماضي ودمجه باللحظة الآنية لخلق رؤية أوسع من نظرة الإنسان لنفسه، فالاتصال المتجذر بالأرض لا يتمثل في التواصل المادي، بل هو مجموعة من التراكمات التاريخيّة والتجارب الفردية والجماعية، ما يُقدم الفيلم كدراسة حالة مُمتدة للمكاني والزماني، تطرح الفردي كنموذج مبتور إذا فصلناه عن سياقه، إنه نموذج واضح للكُليّة المطلوبة لرصد وتحفيز المشاعر كوسيلة للتواصل والتوحد مع البطل في محنته التي تتبدى في بُطء على الشاشة، كأنها مُتجمّدة لا تتحرك، فالديناميكيّة المعهودة في الأفلام التُجارية والتي تعتمد على ترتيب وتنسيق الأحداث لتخلق إيقاع وشعور بالتسارع لا تنفع هُنا، في نموذج اللا بطل، حيث يتوقف الزمن، ويتجمد الإنسان في مكانه، غير قادر على الحراك، ويواصل البحث عن الشيء الذي يُقيّده بالمكان؛ في بلد يمتلك كُل مقومات الفصل والإزاحة ليُغري بالمُغادرة.
الداخلي الضائع والخارجي المحتجز
يجسد الفيلم طبقتين كلاهما يندرج تحت تصنيف المحبس، أحدهما برّي يتجسّد في الاحتلال المادي للأرض وتضيق المساحة وفرض الوصاية السلطوية وخلق الحواجز، والأخر سجن يقع على المخيال، محبس ميتافيزيقي وروحي، حيث يفتقد المرء للديناميكية المطلوبة ويخفق في التواصل مع العالم فينطوي داخل ذاتها وذكرياته ويتوحد مع طبيعة قاسية تُلقي عليه ثوب الصلابة واللا مُبالاة، ولكنه في الحقيقة يتعذب، خصوصاً مع إجباره الانخراط داخل نموذج الاحتلال، أي أن كياناً خارجياً دخياً يُسطو على الوعي الجمعي ويحتكر النسق الاجتماعي، فيُهمّش المجموعة والفرد كلاهُما كأشياء بلا قيمة، فسياسة الاحتلال لا تأخذ في اعتبارها وعي فردي أو جماعي، بل تُهيمن على كُل شيء، وتضع له أطُر وحواجز تكون بمثابة رؤية جنائزية للفرد المحبوس.
يشتبك فخر الدين مع تكوين مكاني في المقام الأول، فالمكان بالإضافة لكونه مُميّز جغرافيا؛ يتسم بخاصيّة سياسية استثنائية تُساهم في تحويل تلك الجُغرافيا إلى فواصل وعراقيل، بيد أن استعادة المكان وخلق ذاكرة موازيّة لمساحة مجهولة بالنسبة للمتلقي؛ هو ما يمنح الفيلم طابع مُميز، فالفيلم يتعرّض لاحتلال منسي أو مُتجاهل بدرجةٍ ما، لذلك فاستجواب الماضي والحاضر والمستقبل من خلال الاشتباك مع المكاني كتيمة ومحور موضوعي شامل لكل الموتيفات الأخرى التي يجري مناقشتها بشكل غير مُباشر في العمل؛ ما يصنع تفرد المُنتج الإبداعي، ولكن على عكس الشموليّة التي يحظى بها المناخ المكاني؛ يؤسس كُل شيء على طبيعة فرديّة، فالفيلم أشبه بدراسة حالة للبطل، تُلاحقه الكاميرا في كُل مكان، وتُراقبه العيون، إرادة البطل هي ما يتحكم في الريتم ويخلق السياق القصصي وليست إرادة خارجيّة حتى مع سطوة الاحتلال التي تبدو مُهمّشة في أكثر من موضع داخل الفيلم، لأن البطل يتعاطى معها من ذلك المنظور.
النظر إلى الأسفل واستبعاد الطيران
يبدأ الفيلم بخطوة للخلف، ليس سينمائياً، إنما على مستوى تجريد الشخصيّة من قيمتها؛ باستهلالٍ مشهدي يُفرّغ شخصيّة عدنان بآليّة ماديّة، لها جذور في طبيعة الانساق الاجتماعية العربية، يحرم أبو عدنان (محمد بكري) ابنه من الميراث؛ فعلٍ يُجرّده من الأهميّة الاجتماعية؛ يحمل القرار تأثير مُباشر على رؤية الفرد داخل مجتمع شبه قروي، فالمحروم من ميراث والده؛ شخص عاق، موصوم كشخصيّة مبتورة، تفقد ميزاتها الاجتماعية، وتخسر أمانها المادي. كبِرَ عدنان بجروحٍ غائرة، غير قابلة للشفاء، جروح داخلية وخارجية، قمع متوارث في دوائره الصغير المُقدسة ــ الأسرة ــ والكبيرة العموميّة، الأرض والبلد، وأصبح بين نارين، ففِعل التفريغ الأوليّ الذي مارسه الأب في بداية الفيلم، كان له أثر عكسي على الابن، فهو مُطارد بأحلام الرحيل المُكثفة لزوجته ليلي (أمل قيس)، وعلى الناحية الأخرى مربوط بأحلام ترميم الجذور، والبثا هُنا فِعل مقاومة، كفاح بشكل غير مُباشر ضد المحتل، ومحاولة إثبات شيء ما لوالده الذي لا يعتبره سوى خيبة أمل كُبرى، والحقيقة أن الأمر يتجاوز العلاقة الفردية بين الأب والابن، فالبطل هُنا ينخرط في محاولات لترميم الجذور، حقل التفاح يُمثل أكثر من قطعة من الأرض، علاقته بالأرض تصوره كقُربان لشيء أكبر، هو نفسه لا يعرف ما هذا الشيء، فالعلاقة ذاتها سامة، علاقة الأرض المُحتلة بأصحابها تقوم على الغضب، فالأرض المُستعمرة بمثابة جرح دامي ومتجدد بالنسبة لأصحابها، يحاولون معالجته ولكن الفجوات التي خلّفها صنعة هوّة جهنميّة، وأضحى الجميع خائف من النظر تحت أرجلهم، وتحولوا بأعينهم إلى الأعلى حيث الأحلام والفراغ اللانهائي، كيما علاقة الأب بأبنه، علاقة مجروحة، تتطلّب المعالجة غير أن عدنان تحوّل إلى شخص أخر، شخص مجروح هو الاخر مثل أرضه، يحتاج إلى من يتشبث به ويحاول إصلاحه، غارق في الاغتراب مثل رُقعة أرض مُحتلة ومعزولة بين مساحات حُرّة ومستقلّة، من هُنا يتبدى كشخص غريب الأطوار لأن علاقته بوالده لم تكسره بل جعلته متمرداً، فعدنان هو الوحيد الذي لا يخاف التحديق بالهوّة، لا يخشى الحقيقة، فالاغتراب أحيانا يمنح صاحبه نوعاً من الجسارة، وهذا ما يخلق للسردية امتدادات خارج إطار الفردي، يُلاحظ عدنان جُندي مُصاب على الحدود، فينتشله، وتبدأ الحكايات بالتوسع في خطوط متداخلة تطرح سؤالاً هويّاتياً أكثر منه سياسياً، فالمُجند وعدنان كلاهما غريب من نوع مختلف، ولكنهما يشتركان في التمسك بالجذور، فالأول لا يملك إلا ذاكرة وصورة لمنزله القديم بالجولان، يعود ليبحث عنه وربما يراه لمرة أخيرة، إذا فهو يتحرك من الخارج إلى الداخل، والثاني يتشبث بأرضه في الداخل، ويخاف الخارج، يصوّر فخر الدين الخارج كأنه مساحة من التخلي، هجران الهويّة والأصل، إمحاء للذاكرة والسقوط في غواية اللا مكان، حيث يتحول الإنسان إلى ظاهرة عالميّة، بلا موطن حقيقي.
يصوّر فخر الدين المكان بطبيعة شموليّة، بلقطات واسعة يتبدى داخلها الإنسان ضئيل وهامشي، فالأرض تبتلعه، والمنحنيات تُخفيه، لعبة الانحجاب داخل الطبيعة تُشير لهيمنة البنية التضاريسيّة على كُل شيء، وتأثيرها حتى على طبيعة القصة وحواجز الاحتلال، والمكان كاستعارة هو مُفتاح الفيلم بشكلٍ ما، حتى مشهد الخاتمة يُشير إلى هذه النُقطة، والحقيقة أن تأثر فخر الدين بعباقرة سينمائيين لا يُمكن اخفاءه، خصوصاً نوري بيلجي جيلان وفيلمه «مرة في الأناضول» الذي يتشابه مع فيلم الغريب من الناحية التضاريسية، ومخرجين آخرين مثل شاعر السينما العظيم «أندري تاركوفيسكي»، إلى جانب تأثر بالأدب، وتضمين أبيات شِعر صريحة داخل الفيلم كأداة يُمكن استعارتها وتوظيفها بشكل مختلف داخل السينما، ورُبما تلك هي النُقطة الأضعف داخل السرد، وخصوصاً المشهد الختامي حينما ركّب المخرج صوت عدنان في خلفية المشهد وهو يصدح بأبيات شِعر أو مرثية لنفسه ولعالمه، لم تكن لها قيمة من الناحية السردية، فالجانب البصري كان أقوى كثيراً من الصوت الداخلي، بحيث يُمكن الاكتفاء به لإنتاج اللحظات المرجوّة بفاعليّة عاطفية وبصرية، ولكنها اختيارات فنية للمُخرج لها وجاهتها.