قصة العَلَم
في المدرسة اعتدنا طقوس تحية العلم، وكانت هناك لوازم لدى المدرسين مثل: «أريد أن يسمع موشى ديان في تل أبيب صياحكم» … «لازم تخبط الأرض تطلع شرار» … وكنا نقضي ساعات طويلة مع طقوس الوطنية هذه، وهي طقوس صورية على الأرجح لكني أعتبرها ضرورية.
وكنا نتبادل المزاح والقرصات أثناء تحية العلم وأثناء غناء النشيد القومي، الذي كان (والله زمان يا سلاحي) ثم جعله السادات (بلادي بلادي)، فلم نتعامل معه بجدية وهذا مفهوم بالطبع بالنسبة لصبية مراهقين لا يرون سوى العبث في كل شيء. كنا في مدرستنا نُبدِّل الكلمات لتصير (بطاطس بطاطس بطاطس). طقوس صورية على الأرجح لكني أعتبرها ضرورية.
في الصف الثانوي كانت هناك الدراسة العسكرية، وهي طوابير لا حصر لها في الشمس لتعلم (صفا وانتباه) وسلام سلاح، وكان هناك كلام فارغ كثير، مثلاً كتاب التربية العسكرية للصف الثالث الثانوي كان ينصحنا بـ«عند انفجار القنبلة الذرية انبطح أرضًا».
ومرت السنون…..
كان ذلك مؤتمرًا طبيًا منذ أعوام، وقد دعا مقرر المؤتمر الجالسين للوقوف لتحية العلم. عُزف السلام الوطني فوقفنا جميعًا، لكني رأيت بعض الأطباء الجالسين ينظرون لنا في اشمئزاز وتحد ويرفضون الوقوف. لاحظت أنهم جميعًا ملتحون يبدو واضحًا أنهم أصوليون. كان هذا في عصر مبارك عندما كان الناس يحبون الإخوان ويتمنون لو أتيحت لهم فرصة الحكم.
لكن التصرف بدا لي مستغربًا وزاعقًا برفض فكرة القومية. بالنسبة لهم يعتبرون تحية العلم نوعًا من الوثنية، ولسان حالهم يقول: «هل سنعود لهراء عبد الناصر هذا مرة أخرى؟». كان هذا غريبًا، لأن كل شعوب العالم تحيي علمها وتقف أمامه في إجلال. حتى قتلة داعش يحترمون رايتهم السوداء.
الوطنية شيء لا يفرض فرضًا ولا يمكن إرغام أحد عليه. لكن هناك مقدسات لا يجب المساس بها. عندما يُعزف السلام الوطني فعليك أن تقف باحترام. هذا هو ما أفهمه.
استعدت هذه الخواطر عندما سمعت عن مقترح تحية العلم والسلام الوطني في الكليات، وهو ما تم تطبيقه فعلاً أول أيام الدراسة، ولا أعتقد أن الفكرة ستستمر لأنه لم تتم دراستها بشكل عملي. لست ضد تحية العلم قطعًا، وما زلت لا أفهم موقف أولئك الذين رفضوا الوقوف لعلم بلادهم، لكنني في الوقت ذاته لا أعتقد أنه يمكن حشر الوطنية في قلوب الشباب بهذه الطقوس. الوطن معنى يستقر في النفس قبل كل شيء، ولابد أن تشعر وأنت تمنح الوطن أنه يمنحك الكثير في الوقت ذاته.
بالنسبة لمواطن أمريكي يعني الوطن الانتماء والتعليم والصحة والدخل وعدالة القانون والديمقراطية، لقد منحه الوطن كل شيء. أما في مصر فالشاب لا يشعر بأن الوطن يقدم له شيئًا سوى الإحباط. يعرف أن الثري وذا النفوذ يأخذ كل شيء، وأنه لا أمل في العدل أو تكافؤ الفرص، حتى صارت الأغنية هي: «ما تقول لي ايه ادتنا مصر ؟». لو أرغمت هذا الشاب على عشرة طوابير يوميًا فلن تحرك وطنيته. الوطنية في النهاية صفقة متبادلة.
جربت أكثر من مرة وأنا في بلد عربي، أن أجلس مع مصريين لا يكفون عن انتقاد النظام المصري أو انتقاد أحوال مصر، وقد يحدث أن يشارك شقيق عربي غير مصري في التعليق أو يسخر، هنا كنت أفاجأ بالمصريين الذين كانوا يهاجمون مصر ينتفضون في عصبية ويردون عليه، وهذا تطبيق حرفي لمقولة «أدعي على ابني وأكره اللي يقول آمين». هنا تتحرك الوطنية والانتماء بالسليقة ومن دون أعلام ولا شعارات.
كانت ثورة يناير هي آخر مرحلة تعامل الناس فيها بتقديس مع العلم. بعد هذا أساءوا استخدامه بشكل واضح، حتى صار عندي نوع من الارتباط الشرطي، نوع من النفور التلقائي والحساسية، لأنهم يدعون لنوع واحد من الوطنية الحكومية (الصناعية).
أنت تؤيد الحكومة إذن فأنت وطني محترم. أنت ضد الحكومة حتى لو كنت تعشق تراب الوطن، فأنت خائن عميل من شمّامي (الكُلّه).
ارتبط عندي مع الوقت بلجان الداخلية والمواطنين الشرفاء إياهم والمنافقين. وما زلت أذكر صورة البلطجي الذي يرقص فوق سيارة أمام نقابة المحامين ملوحًا بالعلم وهو يهز ردفيه وكرشه في رقاعة، على أنغام (بشرة خير). ثمة شيء لا أفهمه في لحن تلك الأغنية يجعل الناس يرقصون بميوعة. تحدث كذلك عند المناسبات الوطنية العامة وارتداء الإيشارب الأحمر لدى الفتيات.
يبدو أن مصر واقعة للأبد في فخ من يلوحون بالعلم ومن يلوحون بآيات الله. وقد قرأت في كتاب المغالطات المنطقية تعبيرًا لصمويل جونسون يقول: «الوطنية هي آخر ملاجئ الأوغاد». هنا تلجأ إلى المشاعر الوطنية أو الدينية لتفرض رأيك مهما كان خاطئًا. وهي طريقة تُدعى «التلويح بالعلم».
خلاصة هذا المقال هي: يجب احترام العلم والسلام الوطني … يجب أن نحب الوطن … لكن حبه يحتاج بالتأكيد لبعض الجهد من الوطن نفسه.