قصة الدولة الأفريقية التي صنعت سلاحًا نوويًا ثم دمرته
أشار التقرير إلى أن أحد الأقمار الصناعية الأمريكية المزودة بمستشعرات نووية، والتي بإمكانها التقاط الإشارات والإشعاعات النووية الدقيقة، قد رصدت «وميضًا نوويًا» في إحدى نقاط المحيط الهندي، على بعد آلاف الأميال من ساحل جنوب إفريقيا، وعند الأخذ بالاعتبار أن اتفاقا قد وقع في العام 1963 تعهدت بموجبه كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتي بألا يجري أحدهم أي اختبارات نووية في البحر أو الجو أو الفضاء، فقد كان الخبراء يشيرون إلى أحد احتمالين: إما أن خللا فنيا قد أصاب الجهاز فرصد وميضًا وهميًا لم يوجد أبدًا، وهو احتمال لم يصمد طويلا، وإما أنه كان هناك اختبار محدود بالفعل، سرعان ما توجهت أصابع الاتهام بإجرائه إلى سلطات جنوب إفريقيا. قبل ذلك بعامين،كان قمر تجسس سوفيتي قد اكتشف أنفاقا تحت الأرض في صحراء جنوب إفريقيا تستخدم في اختبارات نووية، أبلغت موسكو الإدارة الأمريكية التي مارست ضغوطها على الحكومة الجنوبية لوقف العمل في المشروع، كانت هناك كذلك تلميحات بتورط إسرائيلي في تلك الاختبارات التي جرت في المحيط الهندي.
جنوب إفريقيا والقنبلة النووية: فتش عن تل أبيب
بدأ المشروع النووي الجنوب الإفريقي في 1949، كان سلميا، وتلقي الدعم الفني والبحثي من الأمريكيين والإنجليز والألمان والفرنسيين، وحين اكتُشف سعي نظام الأبارتهيد لتطوير سلاح نووي تحت غطاء برنامجها السلمي، توقفت العلاقات النووية مع الدول الغربية عام 1976، وأعلن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أنه ليس من حق جنوب إفريقيا أن تطور برنامجها النووي لأي أهداف كانت، سلمية أو عسكرية، وهو ما رد عليه وزير خارجية بريتوريا بأن بلاده ستطور برنامجها النووي في أي وقت تشاء، كان نظام جنوب إفريقيا على ما يبدو مصرًا على أن تمتلك البلاد سلاحها النووي الخاص، ليكون رادعا للسوفييت ضد أي ضربات عسكرية محتملة ضدها أثناء فترة الحرب الباردة، فضلا عن امتلاك اليورانيوم والذي كانت تشير توقعات الخبراء آنذاك إلى نقص المخزون العالمي منه، ويبدو أن هذه النقطة التي بدأت فيها تتوطد علاقات بريتوريا النووية مع إسرائيل، الدولة التي يعرف الجميع امتلاكها لذلك السلاح، لكنهم لا يُقرُّون بذلك على المستوي الرسمي.تشير التقارير إلى أن المسؤولين الفنيين والسياسيين من الطرفين قد تبادلوا الزيارات لتطوير ذلك التعاون النووي، حصلت إسرائيل على اليورانيوم من الجنوب، فيما زودته بمعدن الترتيوم tritium المشع، ذلك الذي يقوي من قوة القنابل الذرية، وقد يستخدم في صناعة القنابل الهيدروجينية، ظل المسؤولون من كلا البلدين ينفون هكذا تعاون، ولم تعترف جنوب إفريقيا بالسعي لامتلاك سلاح نووي إلا بعد سقوط نظام الفصل العنصري« الأبارتهيد» أوائل التسعينات. شكّل تغيير النظام في جنوب إفريقيا نهاية لمشروع التسليح النووي، فتحت البلاد أبواب محطاتها النووية لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي أصدرت وثيقة تؤكد أنه حتى العام 1989 كان لدى جنوب إفريقيا ستة رؤوس نووية،والسابع قيد التحضير، يبلغ طول الواحد منها أقل من مترين، وقطره نحو 650 ميلليمترًا، قوته التدميرية تعادل تلك القنابل التي ألقيت على هيروشيما وناجازاكي إبان الحرب العالمية الثانية. صحيح أنه بالمقارنة بالأسلحة النووية الإستراتيجية التي كانت تملكها القوي العظمي، فإن المنتج الجنوب أفريقي كان «تكتيكيًا»، محدود القوى التدميرية، وصحيح أن اختبارًا أو اختبارين نوويين هما لا شيء بالقياس إلى نحو 2000 اختبار نووي أجرتهم القوى العظمي، إلا أنها تظل في النهاية أسلحة نووية، جعلت بريتوريا يومًا عضوًا في النادي النووي المغلق على أعضائه.
ما الذي دفع إسرائيل إلى المشاركة في اختبار العام 1979 المثير للجدل تحديدا؟ هل هو الاتفاق الإسرائيلي- الأمريكي، الموقّع عام 1969، والذي قبلت فيه واشنطن حينها بوقف مراقبة أنشطة مفاعل ديمونة الإسرائيلي، في مقابل تعهد الأخيرة بعدم إجراء تجارب نووية؟ هل أرادت تل أبيب الالتفاف على الاتفاق والمشاركة في إجراء تجاربها عبر التعاون مع طرف ثالث وبعيدا عن أراضيها؟ هل سعت تل أبيب إلى الحصول على نتائج تلك الاختبارات عوضا عن تكبد مشقة إجرائها بنفسها؟ في ظل شح المعلومات والتكتم الإسرائيلي التقليدي على الأنشطة النووي، فإن الكثيرين لا يمكنهم الجزم بشيء على وجه الدقة، وقّعت جنوب إفريقيا على معاهدة منع الانتشار النووي عام 1991، بعكس الإسرائيليين الذين يرفضون إلى اليوم التوقيع عليها.
ذهب السلاح وبقي الطموح النووي قائمًا
تخلت جنوب إفريقيا عن طموحاتها في حيازة أسلحة نووية، لكن ظلَّت الدولة الإفريقية الوحيدة التي تمتلك محطات نووية لأغراض سلمية، مفاعل«كويبرج» الذي يقع على بعد 30 كم شمال مدينة كيب تاون، هو المفاعل النووي الوحيد العامل في القارة السمراء متوليا إمداد البلاد بجزء من احتياجاتها من الطاقة، وفي حين أن القدرات النووية لجنوب إفريقيا هي قدرات متواضعة كمَّا ونوعَّا قياسا بالدول الصناعية الكبرى؛ إلا أنها تسعى إلى تطوير تلك القدرات، سعيًا لا يتوجه النجاح غالبًا، فقد فشلت خطة PBMR التي أطلقت عام 1999 لبناء ثلاثة مفاعلات جديدة، وانهارت الاستثمارات المالية للمشروع بعدما استنزف نحو 9 مليارات راند «العملة المحلية». كما يواجه مفاعل كويبرج نفسه، مصاعب فنية، تؤثر على قدرته في إنتاج الطاقة.
تسعي بريتوريا إلى تطوير المحطات القائمة، وبناء مفاعلات جديدة، إذ تسعى إلى أن تتبوأ مركز القيادة في أفريقيا، ويمثل أمن الطاقة بالطبع إحدى الركائز الهامة لتلك القيادة، ويذكر أنه في سبتمبر/أيلول الماضي، وقّعت جنوب أفريقيا وروسيا اتفاقية حول الشراكة الإستراتيجية والتعاون في مجال الطاقة النووية والصناعة، وبموجب الاتفاقية، تقوم روسيا بمساعدة جنوب إفريقيا في بناء 8 مفاعلات نووية، مع القدرة على بناء ما يصل إلى 9.6 جيجاوات من المفاعلات النووية بحلول عام 2030.، وقد واجه المشروع انتقادات داخلية، إذ تصل تكلفته إلى عدة تريلوينات من العملة المحلية، وهوالصفقة الأضخم على الإطلاق في تاريخ البلاد، ويتخوف المعارضون من احتياطات الأمان، كما يقولون إن تلك المشاريع تجري في إطار من السرية وخلف الأبواب المغلقة، هذا فضلا عن التقديرات بأن البلاد لا تحتاج لكل هذا الكم من الطاقة التي ستنتجها المحطات المستقبلية المفترضة.حين يقف أحد قادة الدول العظمى متحدثا عن السلام، ومطالبا العالم بالحد من التسلح، ومتباكيًا على انتشار السلاح الذري الذي بإمكانه أن يبيد البشرية في ساعات محدودة، فإن من حقنا أن نتهمه بالكذب، وأن تصريحاته ليست لغير الاستهلاك الإعلامي ورسميات السياسة التي ليس منها مفر، فقط مسؤولو جنوب أفريقيا يمتلكون ذلك الحق، فهي الدولة الأولى في العالم التي قررت أن تغادر النادي النووي طواعية، ولأجل السلام، ونتمني صدقا ألا تكون الأخيرة،ليأتي اليوم الذي يخلو فيه ذلك النادي المشؤوم إلا من ذكريات الماضي الكئيب، ولعنات ضحايا هيروشيما وناجازاكي التي ستظل تلاحق الإنسانية أبد الدهر.