منذ الحروب الصليبية في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، والغرب لا يزال يستكشف العالم الإسلامي من كافة جوانبه، هذا العالم الذي غزاهم في عقر دارهم شرقًا من بيزنطة وغربا من الأندلس وجنوبًا من صقلية وإيطاليا، وهو العالم الذي احتكر طرق التجارة، ومصدر الصناعات، ومركز الاقتصاد العالمي لقرون عديدة، لذا كان استكشاف البنى المعرفية والثقافية التي قام عليها هذا العملاق الإسلامي في الشرق، ضرورة ملحة أملاها الواقع على الغرب في كافة أطواره، ضعيفًا ثم قوياً ومسيطرًا.

وقد أطلق على الدراسات التي تعرّفت على الشرق من قبل الغرب فكريًا وثقافيًا ومعرفيًا، اسم استشراق، وإن تم تكثيف هذه المعرفة منذ فتح القسطنطينية في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم شهدت طفرة كبيرة في ظل الاستعمار الغربي منذ القرن الثامن والتاسع عشر.

وقد تنوعت أهداف ومضامين الدراسات الاستشراقية، وجولات المستشرقين والرحّالة الغربيين في عالمنا الإسلامي، وكان على رأسها تمهيد الطريق للاستعمار والتبشير، ومنها من خدم التراث العربي والإسلامي خدمة جليلة بإعادة إخراجه للنور، وإقامة المناقشات العلمية حوله، وهي الحلقات والدراسات التي انقسمت على نفسها بين متعسف ومنصف، وبين دعيٍّ وحاذق [1].

يرى إدوارد سعيد عدة تعريفات للاستشراق منها أنه «أسلوب في التفكير مبني على تميّز متعلق بوجود المعرفة بين «الشرق» (معظم الوقت) وبين الغرب». ويضيف سعيد بأن الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي أو حقل بحثي ينعكس سلبا باختلاف الثقافات والدراسـات أو المؤسسات، وليس تكديسا لمجموعة كبيرة من النصوص حول المشرق، إنه بالتالي توزيع للوعي الجغرافي إلى نصوص جمالية وعلمية واقتصادية واجتماعية وفي فقه اللغة. وفي موضع آخر يُعرّف سعيد الاستشراق بأنه المجال المعرفي أو العلم الذي يُتوصل به إلى الشرق بصورة منظمّة كموضوع للتعلم والاكتشاف والتطبيق. ويقول في موضع آخر «إنّ الاستشراق: نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق»[2].


المدرسة الألمانية

أما المدارس الاستشراقية الغربية فقد تنوعت بحسب أقطارها وأهدافها، وحسبنا أن نبدأ بالمدرسة الألمانية لأنها امتازت منذ القرن الثامن عشر في ظل رائدها يوهان جاكوب رايسكة (1716- 1774)، بخصائص منها:

– إنها لم تكن نتيجة لأهداف سياسية واستعمارية. ولم تكن وثيقة الصلة بالأهداف الدينية التبشيرية كدول أخرى مثل فرنسا وإنكلترا وإيطاليا، بل على العكس كان الألمان على علاقة طيبة بالدولة العثمانية، فقد تحالفوا معها في الحرب العالمية الأولى [3].

– غلبة الروح العلمية وتقصي الحقائق على الدراسات الشرقية في ألمانيا، فهي تمتاز بالعمق والشمولية.

– ما يبرزها عن غيرها من المدارس الاستشراقية الأخرى هو الاهتمام بالقديم والتركيز على دراسة التراث العربي وخدمة التراث. بدأ الاهتمام باللغات الشرقية مرتبطا بعلم اللاهوت. وكانت اللغة العبرية هي أساس هذه الدراسات ثم ما لبثت اللغة العربية والإسلام أن لقيا الاهتمام في أعقاب القرون الوسطى والدخول في عصور النهضة. ولعل أبرز ما قام به المستشرقون الألمان في مجال اللغة والتاريخ العربيين والدراسات الإسلامية هو أنهم جمعوا ونشروا وفهرسوا المخطوطات العربية والنصوص القديمة [4].

لقد ساهم المستشرقون الألمان أكثرَ من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية، وخصوصًا كتب المراجع والأصول المهمة، ونشر المخطوطات، فإن أهمَّ ما قام به المستشرقون الألمان وضعُ المعاجم العربية؛ فقد وضع فرايتاج (1788 – 1861) المعجمَ العربي اللاتيني في أربعة أجزاء، ثم وضع فيشر (1865 – 1949م) معجمًا للغة العربية الفصحي، وقاموس هانزفير (1909 – 1981م) العربي – الألماني للغة العربية المعاصرة، وقاموس شراكل (1923م) الألماني – العربي، الذي صدر سنة 1974، والقاموس الضخم للغة العربية الفصحى الذي عمل عليه أولمان (1931) في جامعة توبنجن، وفي سنة 1980م كان قد وصل إلى حرف الكاف (ك)، وفي سنة 2000 انتقل العمل على هذا القاموس إلى جامعة ميونيخ، ووصل إلى حرف الميم (م)، وإن العمل على هذا القاموس سيستغرق مائة سنة ونيِّفًا، على الرغم من الإمكانات التكنولوجية والمادية المتوفرة، وعلى رغم أن الذي يعمل على هذا القاموس هو فريق عمل!

ومن حسن الحظ وسوئه في آنٍ واحد أن آلافَ المخطوطات العربية والإسلامية قد وجدتْ طريقَها نحو المكتبات الألمانية [5]، فربما لو ظلَّت قابعةً في أماكنها لقُضِي عليها، وقد آلت إلى المكتبات الألمانية في الجامعات والبلديات، من خلال الشراء والاستيلاء عليها من الأقطار العربية، لكنها – وبحق – وجدت مَن يسعى إلى حفظها وتصنيفها وفهرستها والعمل على تحقيقها، وإن نظرة في أعداد هذه المخطوطات لتوضِّح لنا أهميتَها كذخائرَ تراثية لا تقدَّر بثمن [6].

وإنّ أكبر الإفادات من بحوث الألمان في التاريخ العربي القديم، تمت على يد الدكتور جواد علي صاحب الكتاب القيّم «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، في عشر مجلدات؛ فقد رجع الرجل إلى ستة وعشرين كتابا ألمانيا، وحوالي الأربعمائة مقال للباحثين الألمان من بوركهاتر وغلازر وإلى هومل وماريا هوفنر ورودو كاناكس والتهايم. وما يزال الذين يؤلفون الكتب المدرسية للجامعات عن تاريخ العرب القديم يرجعون الى دراسات هؤلاء العلماء عبر كتاب جواد علي دونما ذكر له في كثير من الأحيان.

على أن أكبر تأثير للاستشراق الألماني في مجال التاريخ والكتابة التاريخية جاء من خلال كتاب يوليوس فلهاوزن المشهور: الدولة العربية وسقوطها، وقد صدر الكتاب عام 1901م، وتُرجم الى الانجليزية، وبدأ الدارسون العرب يعرفونه من خلال تلك الترجمة. ثم ترجم إلى العربية مرتين بمصر والشام، على يد عبد الرحمن بدوي ويوسف العش، وقد أثر في الكتابة التاريخية العربية تأثيرا كبيرا.

وتبعا لميله الأول اعتبر فلهاوزن العصر الأموي استمرارا للعصر الراشدي من حيث الطابع العام: العربي. وقد سايره في ذلك مستشرقون من مثل هنري لامنس اليسوعي الفرنسي، لكن لأسباب مختلفة [7].

ولا بد لمن يتناول الاستشراق الألماني أن لا يُهمل الحديث عن تيودور نولدكه (1836- 1930م) ، الذي اهتم بالأبحاث القرآنية، إلى جانب اهتمامه بالشعر العربي القديم وخصوصاً المعلقات. وكذلك كارل بروكلمان (1868- 1956م)، الذي اهتم بتاريخ الأدب العربي، ووضع كتابه الشهير «تاريخ الأدب العربي»، الذي ظهر الجزء الأول منه أواخر القرن التاسع عشر، والذي عمل عليه طوال نصف قرن من الزمن، ونقله إلى العربية بتكليف من جامعة الدول العربية: عبد الحليم النجار، ونشرته دار المعارف في مصر في ثلاثة أجزاء. وكتاب آخر مهم تركه لنا بروكلما هو «تاريخ الشعوب والدول الإسلامية»، الذي ظهر سنة 1939م، ونقله إلى العربية نبيه أمين فارس ومنير بعلبكي سنة (1949- 1951م). وكتابه الرائد «قواعد اللغات السامية» في مجلدين ضخمين 1961م [8].

ويأتي هلموت رايتر (1892 – 1971م) خاتمة لجيل العماليق من المستشرقين الألمان، فقد كان الرجل موسوعي الثقافة، ملمًا باللغة العربية والتركية والفارسية، ومتضلعًا في التاريخ والتصوف والفلسفة الإسلامية وعلوم اللغة، ومتمكنًا من بحر المخطوطات وتحقيقها، فقد مكث في تركيا عشرين عامًا دارسًا لمخطوطاتها، فصار من أقدر العارفين بالمخطوطات الإسلامية في اسطانبول منذ نهاية العشرينيات حتى نهاية الأربعينيات. تقول عنه المستشرقة الألمانية المرموقة آنا ماري شمِيل:

إنه لمن الصعب حقًا تعيين الأثر الرئيسي الذي خلّفه ريتر، ولقد صدرت دراساته المتصلة للمخطوطات الشرقية عبر عشرات السنين في مجموعة مسلسلة من المقالات التي نشرها أول الأمر في مجلة (الإسلام) الألمانية Der Islam ثم بعد ذلك في مجلة (أورينس)، وكانت هذه السلسلة من الأبحاث المنشورة تحمل عنوان (لغويات) حيث يقف قارئها على قدر هائل من المواد حول المخطوطات التي تتناول لونًا معينا من الموضوعات خاصة ما تعلّق منها بتاريخ التصوف الإسلامي، ومن ذلك دراسته عن جلال الدين الرومي الذي عرّف فيها الغرب بحلقات أتباعه ومريديه، وله دراسة أخرى عنوانها «السهرورديون الأربعة» قدّم فيه كبار متصوفي الإسلام في القرن الثاني عشر[9].

[1] للتعرف أكثر عن مضامين الاستشراق وأهدافه انظر: إدوارد سعيد: الاستشراق، دار رؤية، ويوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق؛ الدراسات العربية والإسلامية في أوربا حتى بداية القرن العشرين، ترجمة عمر لطفي، دار المدار الإسلامي، ومحمد السيد الجليند: الاستشراق والتبشير قراءة تاريخية موجزة، دار قباء.

[2] مازن مطبقاني: الاستشراق، دراسة بحثية منشورة بعدة مواقع.

[3] انظر: رائد أمير عبد الله: المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربية الإسلامية، مقال بمجلة العلوم الإسلامية – الموصل، 2014م.

[4] رضوان السيد: المستشرقون الألمان ص6، 11 – 16. وانظر: صلاح الدين المنجد: المستشرقون الألمان؛ تراجمهم وما أسهموا به ص7- 15. دار الكتاب الجديد – بيروت.

[5] محمد أبوالفضل بدران، بمجلة الوعي الإسلامي، بتاريخ: 2006-01-16، العدد رقم: 483.

[6] أنور محمود زناتي: المدارس الاستشراقية .. المدرسة الألمانية، مقال على شبكة الألوكة.

[7] رضوان السيد: مقال بعنوان «الاستشراق الألماني والتأثير العربي»، مقال بمجلة الشرق الأوسط، بتاريخ 30 أكتوبر، 2004م.

[8] مقال «تطور مدارس الاستشراق الألماني في القرن العشرين»، مجلة الحياة، العدد 13.

[9] آن ماري شميل: شيخ المستشرقين الألمان؛ هلموت ريتر، ضمن كتاب «المستشرقون الألمان؛ تراجمهم وما أسهموا به» لصلاح الدين المنجد ص186.