في الثالث من يناير/ كانون الثاني 1938 بدأ إرسال إذاعة «بي بي سي» العربية، والتي تعد أول محطة إذاعية ناطقة بلغة أجنبية تابعة لهيئة الإذاعة البريطانية. جاء إطلاق المحطة كرد فعل مباشر على «راديو باري»، وهي محطة إذاعية قامت الحكومة الإيطالية ببثها إلى العالم العربي منذ عام 1934. وكان بث راديو باري مزيجًا من الموسيقى العربية المفضلة شعبيًا، ودعاية ثقافية كانت تهدف إلى دعم الميول المؤيدة للفاشية في العالم العربي، ونشرات أخبار تحمل تشويهًا مكثفًا ضد البريطانيين.في البداية تعامل المسئولون البريطانيون مع جهود إيطاليا بهدوء، إلا أنه ابتداءً من عام 1935 أصبح راديو باري مجاهرًا بعدائه للبريطانيين، وهاجم السياسة البريطانية في فلسطين على وجه التحديد، الأمر الذي دفع المسئولين البريطانيين إلى الاهتمام والبدء بمناقشة الكيفية التي سترد بها بريطانيا، وقد تقرر أن بريطانيا أصبحت في أمس الحاجة إلى إنشاء محطتها الإذاعية العربية الخاصة للرد على البث الإيطالي، حسبما أوضح وزير المستعمرات البريطاني في أغسطس/ آب 1937:
بدأت مناقشات مفصلة حول الشكل الذي يجب أن تأخده المحطة، وبالإضافة إلى القضايا اللوجيستية كالمحتوى، وما الذي يرتكز عليه، فقد كان المسئولون البريطانيون مهتمين بأنه بأي لهجة من لهجات اللغة العربية يجب أن تستخدم في بث تلك المحطة، وكان هناك وعي قوي بذلك من أجل أن تكون الإذاعة المقترحة مفهومة على نطاق واسع، وأن تؤخذ بجدية، وكان إعداد الخيار الملائم لغويًا حاسمًا في ذلك الأمر.تشكلت لجنة معينة من مجلس الوزراء البريطاني لمناقشة قضية اللهجة العربية المستخدمة في راديو باري – وتم التكهن بأن تلك اللهجة تعود لرجل دين (شيخ) من أصول ليبية، وذكرت «أن باب الانتقادات كان مفتوحًا على تلك اللهجة لكونها عتيقة ومتكلفة وتثير سخرية المستمعين». وما جعل العربية الكلاسيكية خيارًا غير محبذ بالإضافة إلى إمكانية إثارتها للسخرية، هو الحقيقة القائلة بأن الكثير من العرب ممن لم يحصلوا على نصيبٍ كافٍ من التعليم ربما يجدون معاناة في فهمها. ونظرًا لوجود تنوع كبير في اللهجات الإقليمية على امتداد العالم العربي، فإن اختيار لهجة واحدة قد أصبح مشكلة مماثلة.
الوكيل السياسي في الكويت «جيرالد دي جوري» اعتقد أن اللهجة العربية «النجدية» هي الخيار الأمثل، حيث قال:
دعم طرحه بإيراد اقتباسات من كتابات الرحالة في القرن 19 مثل «جون لودفيج بوركخارت» في كتاب «ملاحظات حول البدو والوهابيين 1831»، و«تشارلز مونتاجو دوتي» في «رحلات في الصحراء العربية 1888»، حيث شدد كل منهما على أن طبيعة اللهجة العربية البدوية النجدية غير فاسدة بالمقارنة – وفقًا لعبارة بوركخارت – بـ«اللغة المنحطة للعوام من أهل الشام والمصريين».شدد «دي جوري» على أهمية اتخاذ القرار الصحيح، مدللًا على ذلك بقيام حاكم الكويت بالتعبير عن أسفه لعدم وجود إذاعة عربية تبث من لندن، حيث تحدث أمامه عن ضعف قواعد اللغة لدى المذيعين براديو بارى. ودافع دي جوري عن وجهة نظره قائلًا:
غالبًا يعد موقف دي جوري انعكاسًا لتوجه عنصري بدأ ينتشر بين المسئولين البريطانيين بخصوص النقاء الظاهري للعرب، وبشكل مبالغ فيه عن الحقيقة.اقتراح أكثر دقة تم طرحه من قبل «روبين فورنيس» أستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة حاليًا) في القاهرة حيث تم استدعاؤه من وزارة الخارجية للإدلاء بخبرته. وقد خدم فورنيس سابقًا كنائب للمدير العام للإذاعة الحكومية المصرية، وكرقيب على الصحافة في حكومة الانتداب على فلسطين، وخدم أخيرًا كنائب للرقيب على الصحف في مصر. وقد ركز بشدة على اتخاذ القرار الصحيح، معلقًا على قيام راديو باري للتو بتعيين مذيع يتحدث بلغة عربية غير متقيدة بالقواعد النحوية بلهجة شامية، حيث قال: «إن عربًا فلسطينيين تحدثوا حول أنهم يسخرون من لهجة ذلك المذيع»، وعقّب على ذلك قائلًا:« إن المصريين ربما يسخرون من الأمر أكثر من ذلك».
وقد أوضح فورنيس أنه في محطة الإذاعة القاهرية يتم استخدام العربية الكلاسيكية (الفصحى) بشكل عام في البرامج المتعلقة بالدين والأدب والتاريخ، ويتم استخدام العامية المصرية من حين لآخر في الروايات التمثيلية والبرامج الموجهة للأطفال.بطريقة أخرى، صك فورنيس مصطلح «النحوي المصري»، الذي يستخدم بشكل عام. و«النحوي» مصطلح يستعمل في مصر للإشارة إلى اللغة العربية الفصحى، إلا أنه من الواضح أن المصطلح في ذلك الوقت كان يشير إلى شيء مختلف. ولكي يوضح فورنيس ما يعنيه، فإنه يصف الموضوع كالتالي:
يقدم فورنيس مثالًا محددًا حول نطق كلمة «ثلاثة أيام»، فهي عندما عندما تنطق بالنحوي فإنها تنطق ليس بالكيفية التي تنطق بها الكلمة في العربية الفصحى «ثلاثةُ أيامٍ» (ثلاثة أيامن)، أو كما تنطق الكلمة في العامية المصرية الخالصة «تلات أيام»، ولكن تنطق «ثلاثة أيام». وقد أوضح فورنيس أنه على المذيع الذي يتم اختياره للإذاعة البريطانية تجنب اللهجات العامية، وكذلك تجنب العربية الكلاسيكية العتيقة إلا في المجالات التي يتم فيها استعمال الفصحى في إذاعة القاهرة – وهي تلك التي يعتبرها عمومًا متكلفة بشكل سخيف -، وتجنب الأخطاء النحوية قدر الإمكان واستعمال «النحوي المصري». وعلل ذلك قائلًا:
في ذلك الوقت أنشأت بريطانيا بالفعل إذاعة عربية محلية تابعة لسلطة الانتداب على فلسطين، ولهذا فقد استخدمت تلك الإذاعة ما تشير إليه اللجنة المعينة من مجلس الوزراء حول البث العربي باعتباره نحويًا فلسطينيًا. أقرت هذه اللجنة أنه بالرغم من أن اختيار نوع اللهجة العربية المفترض استخدامها في الإذاعة ينطوي على صعوبات أكيدة، إلا أن ذلك لا يعني أن الأمر غير ممكن.من خلال تعليقات بناءة حول الأسلوب وطريقة النطق، تمت صياغة رؤية مفادها أنه: «يمكن تطوير نوع من اللغة تدريجيًا يكون مستساغًا لشريحة واسعة من المستمعين الناطقين بالعربية». ويعد ذلك وصفًا موجزًا ليقرب للذهن نوعًا من اللغة العربية ظهر خلال القرن العشرين، وعادة ما يشار إليه حاليًا بما يسمى «عربية المثقفين» أو «العربية الرسمية».
«مايلز لامبسون» السفير البريطاني في القاهرة كان قد تقبل طرح فورنيس فيما يتعلق باستخدام النحوي، إلا أنه اعتقد أن ذلك يمكن «أن يثير خلافًا في الرأي بينه وبين من يدافعون عن استخدام العربية الكلاسيكية العتيقة باستثناء المواد الإذاعية الموجهة للأطفال والتمثيليات الشعبية والمواد الفكاهية وغيرها».وتخوف لامبسون على الرغم من أن النحوي المصري قريب بشدة من العربية الفصحى من دون اللزمات الإعرابية، لأن البعض ربما يحمل وجهة نظر تفيد بأن ذلك سيضفي نكهة مصرية على المواد الموجهة إلى الجمهور العام في البلدان الناطقة بالعربية، وهو الأمر الذي ربما سينتقص من تأثيرها الواسع.بالرغم من مخاوف لامبسون فإنه يبدو أن آراء فورنيس كانت مؤثرة، ولهذا فإن أول مذيع تم تعيينه من قبل بي بي سي العربية كان مصريًا ويُدعى «أحمد كمال سرور»، والذي عمل سابقًا في الإذاعة المصرية. وقد تم إعلان أول بث لبي بي سي العربية بصوته.
بعد انطلاق الإذاعة أصبحت بي بي سي العربية ذات شعبية كبيرة، وحظي سرور على وجه الخصوص بإشادة وثناء المستمعين بسبب امتلاكه لموهبة الإلقاء الواضح والفعال.في سبتمبر/ أيلول 1938 أصدرت بي بي سي تقريرًا سريًا كان قادرًا على إخبارنا بوجود استحسان جماعي لصيغة اللغة العربية المستخدمة، وجودة تقديم البرامج فيها، ومما قيل في هذا الصدد: «إنه كان هناك تفضيل للإذاعة مقارنة بأداء بقية الإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية». من المثير للاهتمام أن التعليقات المعارضة جاءت من أوروبيين، وهي الانتقادات التي قال تقرير بي بي سي إنه سوف يهملها لاعتمادها على انطباعات متسرعة ومعلومات مغلوطة. زعم التقرير وجود انتقادات محددة من عينة أن اللهجة المصرية للمذيعين «مثيرة للاستياء خارج مصر» و«لا تحظى بتأييد الرأي العام المحلي».قد اقتبس التقرير للرد على تلك الآراء أقوال شخص إنجليزي معروف جيدًا في بغداد، حيث قال:
واحد من الأوربيين الذين انتقدوا إذاعة بي بي سي العربية بشدة كان «جيمس هيوارث دن»، أستاذ اللغة العربية بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية، حيث هاجم الرجل أسلوب المذيعين.وبالرغم من أن هيوارث دن قد زعم أنه عبر عن رأي كل عربي تحدث معه حول هذا الموضوع، فإن وجهة نظره قد اصطدمت وتعارضت مع طائفة واسعة من الأدلة التي تم تجميعها من كل أنحاء العالم العربي. جادل التقرير عن أن القول بأن اللغة العربية الأدبية الحديثة «لغة مصطنعة ومقتبسة من الكتب» لا يتوافق مع المعايير الثابتة عالميًا. وكانت النقاشات بخصوص الأسئلة الجدلية حول القواعد النحوية والأسلوبية متوقعة، لاسيما مع قلة إنجاز الأطروحات الصحيحة التي لا جدال فيها. المناقشات حول الاستخدام الملائم للعربية الفصحى والعربية العامة – وإن كانت مكروهة أحيانًا – لا تزال مستمرة حتى اليوم، ولكن الملفت في الموضوع هو أن بي بي سي العربية ما زالت تحظى باستماع قطاع كبير من المواطنين على امتداد العالم العربي، وربما لعبت دورًا في تطوير الإعلام العربي خلال القرن العشرين، وساهمت في ظهور لغة يتحدث بها المتعلمون العرب، هي مزيج من العربية الفصحى وعدد هائل من اللهجات الوطنية والإقليمية على امتداد العالم العربي.
مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.