في خصوصيات الدولة ومصائر حركة الثورة العربية
كان فعل الاحتجاج المميت لبائع تونسي في بلدة هامشية جنوب الداخل، عندما أحرق البوعزيزي نفسه يوم 17 ديسمبر/ كانون أول 2010، هو الشرارة التي أطلقت حركة الثورة العربية. في الرابع عشر من يناير/ كانون ثاني 2011، حققت حركة المقاومة المدنية انتصارها الأول والأكبر بإطاحة الرئيس بن علي وهروبه من البلاد. ولكن حتى ذلك الوقت لم يكن قد اتضح بعد حجم ما يعنيه الحدث التونسي للعرب كأمة ودول. وليس إلى أن اندلعت التظاهرات في قلب العاصمة المصرية يوم 25 يناير/ كانون ثاني أن أصبح واضحاً أن ثمة حراكاً شعبياً ثورياً في طريقه لاجتياح المجال العربي. بهذا المعنى أصبح يناير/ كانون ثاني شهر الثورة العربية، التي سرعان ما امتدت إلى ليبيا واليمن وسوريا والعراق، بل وحتى الجزائر والمغرب والأردن. في يناير/ كانون ثاني الحالي، تمر خمس سنوات على هذا المنعطف التاريخي العربي الكبير، وتفرض الذكرى عشرات الأسئلة حول مصائر الثورات العربية ومآلاتها.
المشترك العربي هو الذي أدى إلى انتشار شرارة الثورة من تونس إلى جوارها القريب والبعيد، المشترك بمعنى التشابه بين أنظمة الاستبداد، سيطرة أقليات حاكمة صغيرة على مقاليد الحكم والثورة، وشعور العرب المستبطن بتاريخهم ومصيرهم الواحد. ولكن قرناً أو أكثر من تاريخ الدولة القطرية منح كل دولة خصوصياتها. ولم يكن غريباً بالتالي أن تأخذ حركة كل دولة من دول الثورات مسارها الخاص بها. ليس ثمة جدل كبير حول ما حدث في الجزائر والمغرب والاردن. ففي الجزائر، لعبت ذاكرة سنوات الجمر والدم وفائض مداخيل النفط والغاز، دوراً رئيسياً في احتواء بوادر حركة الاحتجاج ومنعها من التفاقم.
وفي المغرب، حيث تلتف القوى السياسية حول المؤسسة الملكية، قابل القصر الشعب في منتصف الطريق، وأجرى تعديلات دستورية إصلاحية، رأت الأغلبية الشعبية أنها كافية لدفع البلاد إلى مستوى أعلى من الحرية والديمقراطية. أما في الأردن، فقد كان المخرج أكثر مدعاة للشبهات، حيث استدعيت المخاوف التقليدية بين الفلسطينيين والشرق أردنيين لتحاصر موجات الاحتجاج وتعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه.
ما حدث في الجزائر والمغرب والأردن ليس محل جدل كبير، إذن. ما هو محل جدل ومثار الكثير من التساؤلات يتعلق بموجة الثورة المضادة، التي أطاحت بالآمال الكبرى لحركة الثورة العربية، بداية من مصر 2013. وربما ليس من الضروي استعادة تعبيرات لم تعد محصنة من الابتذال لتفسير الموقع الذي تحتله مصر في موجة الردة على حركة الثورة العربية؛ بل وهناك من يجادل اليوم في حتمية الصلة بين كون مصر أكبر العرب، وكونها الأكثر تاثيراً على مصائرهم وموقعهم على المسرح العالمي. مهما كان الأمر، فقد لا يكون هناك خلاف حول أن انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 كان بداية التحول في مسار حركة الثورة العربية ووعود الحرية والديمقراطية والعدل التي حملتها. لم يفتح الانقلاب الأبواب على مصراعيها للمجزرة التي ستعيشها مصر والعراق وسوريا واليمن بعد ذلك وحسب، بل وأوقع خللاً فادحاً في ميزان القوى المادي والنفسي في المشرق العربي برمته. منذ صيف 2013، رمت إيران بكل ثقلها خلف نظام الأسد في دمشق؛ اتخذ المالكي قرار فض الاعتصامات الشعبية بقوة السلاح؛ بدأ حفتر الانقلاب على ثورة فبراير/ شباط في ليبيا؛ وضعت أسس تحالف عبد الله صالح مع الحوثيين؛ وواجه التحالف الثلاثي في تونس سلسلة من حوادث الاغتيال الغامضة والاحتجاجات الأكثر غموضاً، التي اضطرته في النهاية للتخلي عن الحكم. خلال شهور قليلة، انتقلت المنطقة العربية من حاضنة لواحدة من أبرز حركات التغيير المدنية من أجل الحرية إلى ساحة هائلة لعدد من الحروب الأهلية المتقاطعة والمتداخلة.
ثمة تفسيران رئيسيان لحدث الانقلاب المصري، فاتحة الردة وموجة الثورة المضادة: يقول أحدهما أن الرئيس المنتخب د. محمد مرسي (وظهيره السياسي، الإخوان المسلمين)، انتهج سياسة تفرد وسيطرة، أدت إلى عزلته السريعة عن قوى الثورة الأخرى، ومن ثم وقوعه فريسة سائغة للقوى الانقلابية. أما التفسير الثاني، الذي يستبطن منطقاً معاكساً كلية للأول، فيقول أن مرسي والإخوان لم يكونوا ثوريين بما يكفي، وأنهم غضوا النظر عن وجود واستمرارية عمل مراكز قوى النظام القديم، المدنية والعسكرية على السواء. وما إن استعادت هذه الدوائر أنفاسها، حتى أطاحت بالرئيس وقوى الثورة مجتمعة. الصحيح، بالطبع، أن حكم مرسي القصير حمل شيئاً من هاتين الرؤيتين ونقيضهما في الوقت نفسه. كان مرسي ثورياً بما يكفي عندما أطاح بالمجلس العسكري الأول، وعندما فرض على النائب العام الاستقالة من منصبه، وعندما أجرى تغييرات جوهرية في قيادات مؤسسات الدولة ووكالاتها المتخصصة. ولكنه كان أيضاً أسير المسار القانوني – الدستوري الذي جاء به إلى الرئاسة؛ ولم يكن باستطاعته بالتالي تشكيل محاكم ثورية ولا تعليق المشانق. وبعد أكثر من عامين على إطاحته، لم يعد ثمة شك أن مقولة التفرد (والأخونة، المرادفة) لم تكن صحيحة. جاء مستشارو مرسي ووزراؤه ومساعدوه من كافة الاتجاهات، وحرص خلال شهور حكمه على أن يبتعد كلية عن جسم الدولة ذاتها؛ وعندما تفاقم الانقسام السياسي في البلاد، عرض رئاسة الوزراء على الليبرالي أيمن نور، أحد مؤسسي جبهة الانقاذ المعارضة.
في عمومه، يدور هذا الجدل على سطح موجة الثورة المضادة ولا ينفذ إلى حقائقها الصلبة. ما شهدته مصر، وأمتد سريعاً إلى معظم دول الثورات العربية، أن فعل الثورة نفسها، الجماهيري، المدني، كان كافياً لإطاحة أنظمة الحكم ولم يستطع أن يقتلع مؤسسة الدولة. وكانت أنظمة الحكم العربية، باستثناءات ضئيلة، استطاعت منذ الستينات السيطرة الكاملة على مؤسسة الدولة، بأجهزتها المدنية والأمنية والعسكرية، وتطويعها لصالحها. من يقف في مواجهة الشعوب، ومن انقلب على حركة الثورة والتغيير، ليس الطبقة الحاكمة التقليدية وحسب، بل مؤسسة الدولة ككل. إلى جانب ذلك، لم تستطع قوى الثورة والتغيير أن ترى أهمية المشترك العربي، وأنها تواجه قوى ثورة مضادة محلية وإقليمية على السواء. كل تعثرات حركة الثورة العربية والردة عليها ذات بعد إقليمي؛ وفي حالة سوريا على وجه الخصوص، سرعان ما تحول الإقليمي إلى دولي. أما السبب الثالث، وبالغ الأهمية، فيتعلق بقصر نظر قوى الثورة ذاتها، وعجزها عن إدراك الطبيعة الهشة لعملية الانتقال في سياق ثوري. كل أنظمة الحكم التي تولد من حدث الثورة تتطلب زمناً لتكتسب الشرعية وتؤسس للاستقرار؛ ولا يمكن تعزيز الشرعية والاستقرار عندما تصطدم الطموحات والولاءات، وتنقسم قوى الثورة على نفسها.
بيد أن لا حركة الثورة ولا موجة الثورة المضادة وصلت إلى نهاية الطريق. وبعد مرور خمسة أعوام على انطلاق حركة الثورة العربية، وعام ونصف العام على الثورة المضادة، لم يزل مصير المجال العربي مفتوحاً على الاحتمالات. خلال السنوات الخمس الماضية، تغير الإنسان العربي، وتغيرت الشعوب، بصورة لم تعد قابلة للارتداد. والمؤكد، أن موجة الثورة المضادة لم تستطع توفير بديل قادر على اكتساب الشرعية الكافية للاستمرار. كل دول الثورة المضادة هي في الحقيقة دول فاشلة، سواء أعلنت رسمياً كذلك أو لم تعلن بعد؛ وهي بصورة أو أخرى، في انتظار انعطافة تاريخية جديدة.