مسلسل «The Spy»: قصة الجاسوس الذي كاد يحكم سوريا
قد تتبلور حكايتنا اليوم بين جملتين، الأولى هي، «الجاسوس الأعظم هو الجاسوس الذي لا يعرفه أحد»، وهى عبارة يبدو أن الإسرائيليين لا يؤمنون بها، خصوصًا في حالة الجاسوس الذي نتحدث عنه اليوم.
أما الجملة الثانية، فهي « الجاسوس الأخطر ليس كوهين ولكنه الحاكم العربي الذي يعمل في خدمة العدو» وهي جملة تبدو متفق عليها إذا نظرنا لها بعيداً عن قائلها، وهو الجنرال السوري والرئيس الأسبق «أمين الحافظ»، وهو الرئيس الذي ترك منصبه من خلال انقلاب تم عقب فضيحة قضية اختراق جاسوس إسرئيلي لحكومته، لدرجة اقترابه من الوصول لمنصب نائب وزير الدفاع طبقًا لمصادر عديدة.
بين هذا وذلك نتتبع معكم اليوم هذه الحكاية الغرائبية عن الجاسوس الإسرائيلي «إيلي كوهين»، أو كما كان يُعرف في سوريا باسم «كامل أمين ثابت»، والتي عادت للنور، مؤخراً، من خلال مسلسل قصير من إنتاج شبكة «نيتفلكس»، يحمل اسم «The Spy»، وهو المسلسل الذي تمت إتاحته للعرض بدءًا من السادس من سبتمبر لعام 2019.
مرة أخرى، بعد عام بالتمام والكمال من عرض فيلم نيتفلكس عن تورط أشرف مروان مع الموساد الإسرائيلي، تعود نيتفلكس للغوص في الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن هذه المرة من خلال بطل يهودي هو «ساشا بارون كوهين»، ومخرج ومؤلف إسرائيلي هو «جيديون راف»، فهل ما نراه هنا هو مجرد بروباجندا صهيونية؟، أم أن الحكاية تحمل بالفعل قدراً من الحقيقة؟ وفي العمق من كل هذا، هل نحن أمام عمل فني يستحق المشاهدة؟
كوهين وتجسيد اضطراب الهوية
هنا نحن نتابع ممثلاً بريطانياً من أصول إسرائيلية يجسد جاسوساً إسرئيلياً من أصول عربية، الصدفة الأغرب هنا أن الممثل والجاسوس كليهما يحمل نفس الاسم «كوهين».
بعيداً عن الصدف، وعن المحتوى السياسي أيضاً، فالمسلسل فرصة جيدة لمعاينة اضهراب الهوية الذي يصاب به الجواسيس والممثلون بنفس الدرجة تقريبا، ففي الحالتين نحن أمام شخص يتخلى عن هويتة الحقيقية طواعيةً ويجسد بشكل مكتمل هوية أخرى، حتى يصل الأمر به في بعض اللحظات لنسيان ذاته.
اشتهر « ساشا بارون كوهين» في الأساس بقدرته على فعل هذا، فهو الممثل الكوميدي الذي يجسد شخصياته التمثيلية داخل وخارج أوقات التصوير، فعلها عدة مرات، ولكن تجسيده لشخصية «بورات»، من الفيلم الذي حمل نفس الاسم في عام 2006، يظل عالقًا في ذاكرة الجمهور، فقد استمر متقمصاً للشخصية طوال فترة التصوير، ثم طوال فترة عرض الفيلم والدعاية له، بما في ذلك اللقاءات التليفزيونية المباشرة.
قد يكون هذا هو طرف الخيط الذي جعل «ساشا كوهين» يختار هذا المسلسل بشكل خاص لتجسيد أداء درامي مغاير تمامًا لما اعتدناه منه، يبدو أن الرجل قد أعجب بشكل خاص بقدرة «إيلي كوهين» على تجسيد شخصية «كامل أمين ثابت» لمدة تجاوزت الثلاث سنوات.
يبدو إذن أن كوهين الجاسوس هو المثل التمثيلي الأعلى لكوهين الممثل، لكن الفارق الوحيد هنا أن هذا الأداء قد كلف كوهين الجاسوس حياته.
يقودنا هذا إلى سؤال آخر، ماذا نرى في دواخل هذا العمل بالضبط؟ هل نحن أمام دراما نفسية منزوعة الأثر السياسي؟
بروباجندا صهيونية
الإجابة على السؤال السابق ستكون لا، ودون لحظة تشكك، فالمخرج الإسرائيلي «جيديون راف» لا يفوت مشهداً واحداً تقريباً دون أن يذكرنا وبشكل غاية في المباشرة أننا أمام عمل يتبنى الرواية الإسرائيلية بشكل مكتمل، بحيث يبدو في بعض اللحظات وكأنه من إنتاج التلفزيون الإسرائيلي الرسمي.
في البدء يعتمد « راف » على مجموعة من التكنيكات البصرية لسرد حكاية الحياة المزدوجة لإيلي كوهين، أحدها هو الفريق بين درجة تشبع الألوان بين مشاهد كوهين في إسرائيل وكامل أمين ثابت في سوريا، بحيث تبدو الحياة وللمفاجأة باهتة في إسرائيل وزاهية للغاية في سوريا.
على جانب لأن الرجل فقير مضهد في إسرائيل، ورجل أعمال جذاب وغني في سوريا،وعلى الجانب الآخر لأن الحياة تبدو أكثر زهوة كلما حقق الرجل هدفه وغايته، وهو إثبات نفسه كرجل موهوب وذكي قبل كل شيء آخر.
هنا تبدو المعالجة مهتمة أكثر بدواخل جاسوس فريد من نوعه، فقد ولد وتعلم في مصر، ثم هاجر لإسرائيل وشعر منذ اليوم الأول أنه مطالب بإثبات ذاته، كونه يبدو عربياً حتى ولو تنصل من هذا.
لكن « راف » يأبى إلا أن يفسد كل هذا، من خلال مجموعة من علامات البروباجندا الفجة، التي تستمر معنا طوال فترة تواجد كامل أمين ثابت في سوريا. أول هذه العلامات هي أنسنة الإسرائيليين وشيطنة كل ما هو عربي، بحيث يبدو وبشكل مكتمل كل السوريين الذين تقابلوا مع كوهين بشراً سيئين، وأصحاب غرائز حيوانية عنيفة وتعطش للدماء في الكثير من الأحيان. أما عن ثاني العلامات، فهي الحديث بشكل مستمر عن أن إسرائيل وأطفالها ومزارعيها مهددون من العرب الهمج الذين يريدون محوهم من الشرق الأوسط، دون أي إشارة إلى أن هؤلاء المزارعين قد استوطنوا أراضي فلسطينية وطردوا أهلها، أما عن العلامة الثالثة والأكثر كاريكاتورية هي إظهار الجانب العربي في هيئة ساذجة وغبية للغاية، لدرجة يستحيل معها التصديق بأن مهمة كامل أمين ثابت كانت بمثل هذه السهولة.
الحقيقة والخوف الأكبر
المسلسل مليء بالبروباجندا إذن، لكن الكثير من الحقائق تبدو واضحة أيضا، فبغض النظر عن معرفتك بالحكاية من خلال هذا المسلسل، أو من خلال كتابات السياسي المصري الراحل محمد حسنين هيكل، أو حتى من خلال المقابلة الطويلة التي أجرتها قناة الجزيرة مع الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ، أو من أي مصدر أجنبي آخر، فالمؤكد أن إيلي كوهين قد عاش في سوريا بالقرب مبني القيادة السورية في بداية الستينيات وما أدراك ما الستينيات ولمدة تجاوزت الثلاث سنوات.
المؤكد أيضاً وباتفاق كافة المصادر أن كوهين قد دخل لمواقع عسكرية سورية برفقة أصدقاء من الضباط السوريين، أحدهم على درجة قرابة بأحد أهم قادة الجيش.
تختلف المصادر في النهاية عن إذا ما كان الرجل قد حظي بصداقة أيضاً مع رئيس الجمهورية أم لا، وعن حقيقة عرض منصب نائب وزير الدفاع عليه في وقت ما. لكن السؤال الأهم، هل كان هذا الجاسوس الإسرائيلي قادراً على شراء صداقة عناصر عسكرية في وقت الحرب؟f والإجابة قد تبدو مخيفة لكنها واضحة.
هكذا وبمد الخط على استقامته إلى زمننا الحالي، لا يمكننا أن نخفي أن التخوف أكبر.