أنغام الحرب: لماذا يحارب متمردو دارفور في ليبيا؟
بدا الأمر أكثر تعقيدًا في الجوار الليبي منذ إسقاط نظام العقيد القذافي، فثمة خيوط سياسية هشة تنتجها جماعات ومؤسسات عدة متصارعة على السلطة يتوه فيها الجوار وتتمزق وحدته، فيما تتشابك الأدوار الإقليمية والدولية المتنازعة على الثروات والسياسة الليبية.الأنباء الواردة من ليبيا – حول تراجع قوات الخليفة حفتر في منطقة الهلال النفطي في الثالث من شهر مارس الجاري – أثارت العديد من التساؤلات حول حقيقة دعم مقاتلي حركة العدل والمساواة السودانية المتمردة لحفتر، فما حقيقة ذلك؟ ولماذا يقاتل المتمردون السودانيون في ليبيا؟قبل الحديث عن ماهية دور المتمردين السودانيين في ليبيا، نشير إلى أحد أبرز ملامح التجربة المعاصرة الحالية عامة والليبية خاصة، والخاصة بتفرد نموذج الجماعات الوظيفية (المرتزقة) بالتأثير في مجريات الحياة السياسية.
المسيري والجماعات الوظيفية
بالإمعان في التجربة الليبية والسورية والعراقية المعاصرة، نجد أنها تتسم بظاهرة الجماعات الوظيفية (المرتزقة) التي تحدث عنها عبدالوهاب المسيري في كتابه «الجماعات الوظيفية اليهودية نموذج تفسيري جديد». وهي مجموعات بشرية تستجلبها المجتمعات من خارجها في الغالب أو من داخلها للضلوع بوظائف معينة لا يمكن للمجتمع أن يقوم بها لأسباب عدة.
ويذهب المسيري إلى أن تلك الجماعات هي مجموعات متحوسلة منعزلة لا جذور لها ولا ولاء لها ينظرون لأنفسهم على أنهم كيان مستقل، وتتسم بالمرجعية الحركية وعلاقته بالمجتمع المضيف علاقة مادية اقتصادية.
وبالعودة إلى الداخل الليبي وتحديدًا إلى قوات الخليفة حفتر نجد أنها تتكون من مجموعة من الجنسيات المختلفة منها بعض العسكريين الليبيين الموالين للنظام القذافي السابق، بالإضافة إلى بعض التشاديين والدارفوريين وقوات فرنسية خاصة.
بالرغم من نشأة الحركة بأهداف أخلاقية وسياسية أيديولوجية، إلا أن تحول بعض من قاداتها بالرغم من نفي الحركة الأم إلى القتال في ليبيا بجوار قوات حفتر له دلالاته ودوافعه، وللوقوف عليها لابد من قراءة سريعة لتاريخ الحركة.
تاريخ موجز: من التحرير إلى التمرد
بدأت حركة العدل والمساواة كغيرها في المنطقة العربية، إذ كان منبتها حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، وما إن تأسست دولة ما بعد الاستقلال حتى تحولت غالبية تلك الحركات إلى صفوف المعارضة سواء المسلحة أو السياسية، فكان التحول الأول في تاريخ الحركة الأكثر بروزًا في السودان في نهاية التسعينات مع صدور ما عرف باسم «الكتاب الأسود» فانفصلت الحركة بقيادة المؤسس خليل إبراهيم مع بدايات الألفية الجديدة، وبدأت نشاطها العسكري وتحديدًا في إقليم دارفور منذ عام 2003.
عندما بدأت حركة التمرد ضد نظام البشير ومطالبة إقليم دارفور با لانفصال عن السودان لم تكن حركة العدل والمساواة وحدها هي التي حملت لواء التمرد ولكن ومع 2003 كانت حركة تحرير السودان هي الأخرى من الفواعل الأهم والأبرز في حركة التمرد والتي وصل عددها إلى 12 حركة في 2007، فكانت حركة تحرير السودان هي حاضنة الفصائل والأفراد المنشقين عن حركة العدل والمساواة خلال تلك الفترات، يذكر أن العدل والمساواة شهدت العديد من عمليات الانشقاقات خلال العقد الأول لها.
وبالرغم من الانشقاقات الداخلية داخل الحركة إلا أنها استطاعت أن تكون فاعلاً مؤثرًا في عمليات مفاوضات السلام والتي جرت برعاية قطرية أو ليبية منذ العام 2004، ويتسم موقف الحركة بالرفض المستمر لمحاولات توقيع اتفاق السلام بين الدارفوريين والحكومة السودانية.
للمزيد عن الحركة:حقيقة دعم مقاتلي حركة العدل والمساواة السودانية المتمردة لحفتر
الذراع الطويل والمستقبل المجهول
يتنازع تاريخ الحركة المعاصر حدثين هما الأكثر تأثيرًا في مسار عملها السياسي والعسكري، ففي عام 2008 شهدت الحركة الحدث الأبرز في تاريخ السودان والحركة معًا، حينما قامت العدل والمساواة ما عرف بعملية «الذراع الطويل» بالهجوم الكبير على العاصمة السودانية الخرطوم، والذي جاء كرد فعل على محاصرة المعارضة التشادية للرئيس التشادي «ديبي» مدعومة من الحكومة السودانية.
أما الحدث الثاني، فيرتبط بمقتل مؤسس الحركة خليل إبراهيم في ديمسبر 2011، كان إبراهيم قد غادر السودان متوجهًا إلى ليبيا في منتصف 2010 بعد أن حصل على منح إقامة بها من نظام القذافي، وبالرغم من محاولات الحكومة السودانية الضغط على القذافي لطرد إبراهيم مثلما فعلت مع مصر وتشاد، إلا أنه مكث بها حتى سقوط نظام القذافي ليعود إلى دارفور ويلقى حتفه في غارة جوية للقوات السودانية في نهاية العام.
ترك الحدثان أثرًا جللاً على مستقبل الحركة وتمردها، فتماهت خطوطها السياسية والعسكرية وتخلت عن تركيزها على مقاومة البشير، فصار الانشقاق عنوانها، والتخبط مستقبلها.
لماذا يتدخل المتمردون في ليبيا؟
ذهب الرئيس السوداني عمر البشير إلى القول بأن متمردي إقليم دارفور أصبحوا مجرد مرتزقة، لا يقاتلون من أجل قضية، وأن المتمردين يقاتلون في ليبيا مع الفصيل الذي يدفع لهم أكثر. فلماذا يقاتل المتمردون في ليبيا؟
ربما لا توجد أسباب أو دوافع أيديولوجية مباشرة للتدخل في الشأن الليبي، ولكن بالعودة إلى تاريخ العلاقات الليبية – السودانية خاصة فيما يتعلق بأزمة دارفور، نجد أن الأزمة مثلت للقذافي منذ 2003 محورًا مهمًا في علاقات البلدين، فمن ناحية اعتبر القذافي الأزمة الليبية ترتبط بالأمن القومي الليبي، وعلى عكس مجاهرة القذافي بدعم انفصال جنوب السودان عمل على أن تكون ليبيا محطة مفاوضات السلام بين المتمردين وحكومة السودان.
وبالرغم من الاتهامات الخفية التي وجهت إلى ليبيا في دعم حركة العدل والمساواة في عملية الذراع الطويل، إلا أن الدبلوماسية السودانية تبنت موقفًا محايدًا تجاه تلك الاتهامات، في حين عملت على عزلة الحركة دوليًا وهو ما قوبل بالموقف الإنساني للقذافي، كما ادعى عند منحه لرئيس الحركة الإقامة بليبيا.
هذا وقد مثلت ليبيا في أعقاب تحول موقف تشاد الداعم للحركة في نهايات العقد الماضي مسرحًا لعمليات حركات التمرد الدارفورية، ويعزو البعض هذا إلى تشابك وتعاضد المصالح بين الدارفوريين والنظام الليبي، ووجدت الحركة في الصراع الدائر في ليبيا في أعقاب إسقاط نظام القذافي أرضًا خصبة للنمو وممارسة دور عسكري بارز بحثًا عن شريك وداعم سياسي وعسكري لكسر العزلة التي يفرضها نظام البشير على الحركة.
كذلك الانشقاقات والأوضاع الداخلية التي تعاني منها حركة العدل والمساواة هي الأخرى قد تكون من الأسباب الرئيسية التي دفعتها للتدخل في ليبيا، بحثًا عن تواجد وحليف سياسي في المنطقة، كما تفعل غالبًا معظم الحركات المعاصرة في العراق وسوريا على سبيل المثال، كما أن البحث عن التمويل المادي هو أحد أبرز الأسباب الدافعة إلى التحول عن القضايا المركزية لجماعات التمرد وتحولها إلى مرتزقة، وهو ما عبر عنه البشير بقوله إنهم يقاتلون بجوار من يدفع لهم أكثر.
ماذا بعد دعم حفتر؟
تماهت خيوط الحركة السياسية والأخلاقية بتورطها في عدد من النزاعات الخارجية منها النزاع الأهلي في جنوب السودان والصراع الليبي، وهو بالتأكيد ما سيذهب بالحركة إلى مزيد من التفكك والضعف وفقد الدعم الدولي أو الإقليمي الضئيل على المستوى البعيد.
المراهنة على فصيل معين في بلد يتنازع فيه الكل ضد الكل لا يضمن للمتمردين شريكًا مستقبليًا محايدًا، ولكن الصراع الليبي سينهك الحركة ماديًا وبشريًا ويفقدها شعبيتهًا، وسيكون الطرف المستفيد الأوحد النظام السوداني.