كيف تهتدي إلى روح الفراشة؟ عن سيرة «محمد علي كلاي»
أشهر ما قاله «محمد علي كلاي» وسجَّله له التاريخ، أمَّا عن الشق الثاني من المقولة، فيسهل الاستدلال عليه من أسلوب كلاي في الملاكمة الذي اعتمد على الحركة المستمرة، والمرونة، والخفة، وسرعة تفادي الضربات، ثم يلدغ كالنحلة، فيُسقِط منافسه أرضاً في الجولة، وبالطريقة التي سبق وأعلن كلاي بأنه سينهي اللعبة بها، ويمكن القول إنه مؤسس تلك المدرسة في الملاكمة، فلم يسبقه أحد في اتباع مثل تلك الأساليب القتالية. ولكن سؤالنا هنا كيف حلَّق كلاي كالفراشة؟
قد تتوهم للحظة يا عزيزي القارئ أن تحليق كلاي كالفراشة يعبر عن حركته المستمرة في الحلبة، ولكني أخالفك قليلاً هنا، فالفراشة لم تكن كلاي، بل كانت روحه، وما يؤكد كلامي هو الاسم الذي اختاره كلاي من أجل سيرته الذاتية «روح الفراشة»، The Soul of a Butterfly: Reflections on Life’s Journey، كتاب تتمتع فيه بسرد قصة حياة بطل لن يتكرر، ملاكم خاض أكبر مبارياته خارج الحلبة، وسحق فيها مواجهيه تماماً كما اعتاد أن يسحقهم داخل الحلبة، ولكننا لسنا هنا لاستعراض إنجازاته، ومواقفه، فما أكثر من تحدث عنها. نحن هنا من أجل نظرة تأملية في روح الفراشة، روح محمد علي كلاي.
لن أخدعك، فإن أحببت أن تهتدي إلى روح الفراشة، فالطريق أمامك وعر، متعرج، يتطلب صبراً، وتأملاً، ونفساً تبحث عن الاطمئنان، موقنة أنها ستصل له عن قريب أو بعيد، ولكن إليك بعض أقباس من شأنها أن تساعدك في طريقك إلى البحث عن ضالتك المرجوة.
أولاً: البيئة الأسرية السوية
نلاحظ كيف ساهمت البيئة الأسرية السوية في خلق روح الفراشة، فرغم كل ما كان يواجه عائلة كلاي من فقر وسوء أوضاع اقتصادية، وأضف لهما ظلماً وقهراً فقط لأنهم من أصحاب البشرة السمراء، لم يسمحوا بمثل تلك الأوضاع من أن تنال من روح الفراشة التي كانت لا تزال في مرحلة اليرقة، فقد حرص أهل كلاي على خلق عائلة مترابطة متماسكة، كل فرد يدعم الآخر، وكل فرد يفكر في غيره قبل نفسه، زرعت بداخل كل فرد فيهم الحب، وحرصت على ألا تُوفِّر تربة يُزرع فيها كراهية، ولكن هل النشأة في بيئة أسرية غير سوية قد يمنع الاهتداء إلى روح الفراشة؟
الإجابة ببساطة هي لا، قد تُصعِّب العملية بعض الشيء، ولكن لن تمنعها تماماً، فلم ينفد الوقت بعد، ما زال أمامك أن تصلح ما أُفسد فيك، لم يفُتْ ميعاد شفائك من جروحك، ولكن ألا تبدأ الآن؟
نشأتك في بيئة غير سوية ليس اختيارك، ولا يلومك أحد على شيء كهذا، ولكن أنت المُلام الأول في استمرارك في تجاهل علاج ما أحدثه هذا فيك من شقوق، بل استغلاله كشماعة تُعلِّق عليها فشلك وإخفافاتك.
ثانياً: حب الذات
يذكر لنا كلاي في كتابه أن السواد الأعظم من أصحاب البشرة السمراء لم يتقبلوا شكلهم ولم يحبوه، ولا يمكن لومهم، ففي عالم لا يوجد ما هو جميل إلا وكان لونه أبيض، من المستحيل أن ترضى عن شكلك وأنت لست أبيض، فحتى الإله كان من أصحاب البشرة البيضاء، كما تُوضِّح لنا كل صور السيد المسيح، فكيف لإله أبيض أن يقبل أبناءً ليسوا من نفس بني لونه.
ولكن لم تتقبل فراشتنا هذا الكلام، بل أصرت على أنها جميلة، وما دامت جميلة فالجسد الذي يحتويها لا بد أن يكون جميلاً، وصدَّق كلاي الفراشة بداخله فعلم أنه جميل، وأن الله لا يخلق سوى الجميل.
ثالثاً: الخوف
يغذي الخوف روح الفراشة من خلال مواجهته. الخوف يسيطر على الجبناء، ومواجهة الخوف تسيطر على الشجعان، يهرب الضعيف ويختبئ حتى لا يناله الخوف، بينما يبحث القوي عن الخوف حتى يسحقه، هذا ما علمنا إياه كلاي، وهذا ما أرشدتنا إليه الفراشة.
خرجت فراشتنا من شرنقتها، ولكنها كانت تهاب الطيران فلم يسبق لها أن طارت، تماماً كما كان يخشى نحلتنا ركوب الطائرات. كان كلاي في مأزق شديد بسبب خوفه من السفر جواً، وأمر كهذا كان كفيلاً بأن يحرمه من الكثير من الأشياء، بدايةً من ذهبية أولمبياد روما، حتى ما وصل إليه من ألقاب وبطولات، ولكن تشجعت الفراشة وتشجع كلاي، واجه كل منهما خوفه، فوجدا أنهما يجيدان الطيران بلا خوف، بل بإمكانهما أن يلدغا كالنحلة.
أخيراً: الغاية
جل ما تُعلِّمنا إياه روح الفراشة، هو أن الغاية هي أساس الهوية، وعلى قدر حجم غايتك تتحدد هويتك، فمنذ أيامها الأولى كيرقة علمت الفراشة أنها لم تخلق عبثاً، بل كان لتكوينها حكمة، ومهمتها أن تكتشفها، واكتشفتها، وعلمت الفراشة أنها وُجدت لتخلق حلماً وأملاً، وتخلق عزة وكرامة، وُجدت ليلدغ الحق الباطل، فكان دائماً ينظر محمد علي لنفسه كأمل أصحاب البشرة السمراء بأن يستردوا حقهم المسلوب، فكانت كل رفرفة جناح لتلك الفراشة موجهة من أجلهم، من أجل رد اعتبار كبارهم الذين لاقوا إهانة يجب ألا يتعرض لها أحد، من أجل صغارهم، الذين وُجدوا لا يعلمون من أين جاءوا، ولأين ينتموا، لا جذور لهم فكيف يكون لهم جذوع.
ظن الجميع بما فيهم محمد علي أن هدفه في الحياة انتهى بعد تقاعده وإصابته بالشلل الرعاش، لأول مرة تخلل اليأس والإحباط إلى روح فراشتنا، لكن لم يدم هذا كثيراً فسرعان ما وجدت فراشتنا معنى جديداً وغاية جديدة تُعظِّم أكثر وأكثر من شأن تلك الهوية، فاختار كلاي أن يكون مثلاً إيجابياً لكل زملائه في المرض، وألا يدع اليأس يتمكن منه أكثر من هذا، فينتقل لهم، خصوصاً أنهم رأوه دائماً مثلاً أعلى للقوة والصلابة.
لم يكذبوا حين علَّمونا في المدارس أن «أثر الفراشة لا يزول»، فرفرفة جناحي فراشتنا تسببت في زلازل أكبر من تلك التي تحدث في اليابان، زلازل كان من شأنها أن تُغيِّر شكل العالم، وتُغيِّر جغرافيته، وتكتب في تاريخه فصولاً لم يكن يتوقع أحد بأنها قد تُخَط في يوم من الأيام.
لا يمكن الجزم بأن ما ذُكر هو كل شيء للاهتداء إلى روح الفراشة، فكما ذكرت لك مُسبقاً، إنها مجرد أقباس تنير الطريق، فالطريق ليس سهلاً، ولكنني أستطيع أن أجزم لك أنه يستحق، وإن كنت لا تُصدِّقني فاقرأ بنفسك كتاب «روح الفراشة»، وستعلم حينها إن كان الطريق يستحق أم لا، ولتقترب أكثر من تلك الفراشة التي اختبأت خلف هذا الثور الهائج.