هناك نوع من المؤلفات انتشر في الأندلس والمغرب انتشارًا واضحًا، أُطلق على هذا النوع اسم “البرامج”، وهذا النوع من التآليف طريف شغف به علماء الأندلس وطلابها أيما شغف، وكان يُطلق على هذه التآليف في بعض الأحيان اسم “فهرسة”، وللأسف فقد ضاع كثير من هذه البرامج والفهارس ولم يبقَ منها إلا النذر اليسير.

وحسبنا في التدليل على طرافة وجمال هذه المؤلفات، وأنها انعكاس جلي لمكانة العلم والعلماء في تلك الأوقات، بل هي رد للجميل، ووضع للعلماء في مكانتهم المرموقة، وتخليد ذكرهم فيها، فضلاً عن كونها وثيقة تُخلد مقدار العلوم والآداب والفنون التي تحصّل عليها العالم في فترة فتوته وشبابه، فهذه المؤلفات كان يُسجل فيها العالم ما قرأه من مؤلفات في مختلف العلوم، ذاكرًا عنوان الكتاب واسم مؤلفه، والشيخ الذي قرأه عليه أو تحمله منه، وسنده إلى المؤلف الأول، وربما ذكر خلال ذلك المكان الذي كان موضعًا للدرس، والتاريخ الذي بدأ فيه الدراسة أو ختمها، وكانت بعض هذه البرامج تهتم اهتمامًا زائدًا بالشيوخ، وتفرد لهم جانبًا فيه حديث عنهم، وعن حياتهم ومنزلتهم العلمية، دون أن تتجاوز في ذلك القصد والاعتدال، فالبرنامج إذن سجل يكشف المنابع الثقافية التي ارتوى منها العالم، والأصول التي اعتمد عليها، والتي كانت بغير شك مراجع له فيما ألفه من كتب.إننا في هذه الكتب أمام تلاميذ الحضارة الإسلامية وهم يتحدثون عن أساتذتهم الذين لقوهم وأخذوا عنهم العلم، وحديث هذا شأنه –أيًا كان اختلافه بين الإيجاز والإطناب– له قيمة المستند المباشر الذي يحمل في ثناياه ويكمن خلفه شعور نفسي يمتد أثره إلى القارئ لتلك الكتب؛ خلافًا لأكثر كتب التراجم العامة التي تفصِل حُجب الزمن بين المترجم والمترجم له، والتي يكون النقل فيها عن طريق غير مباشرة([1]).وقد كان شعور الوفاء بين طالب العلم الذي أضحى عالمًا بعد ذلك وشيخه من جانب، وحنينه إلى عهد الدرس والطلب من جانب آخر، من العوامل التي دفعت بعض العلماء إلى كتابة برامجهم، وقد عبّر العلامة أبو الحسن الرعيني([2]) الإشبيلي المولد، التلمساني الوفاة (ت666هـ) في برنامجه بقوله:||أثبتُّ في هذا البرنامج ما لم يفلته ذكري، وأوردتُ ما لم يرتب فيه فكري، من أسماء الأشياخ الذين لقيتُهم وأخذتُ عنهم، والإفصاح ببعض ما استفدته منهم، وإن كان قد أتى على كثير من ذلك ما يختصّ به الإنسان من نسيان، وذهاب معظم المقيد والمستفاد، بالتردد في الأسفار والتحول عن الأوطان، وفرقته شذر مذر هوائج الفتن وحوادث الزمان… ومما حثّني على إثبات ذلك واكتتابه، وحداني إلى إيراده واجتلابه ما حدثني به الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن أحمد الغافقي أذنًا، قال القاضي أبو الفضل عياش بن موسى اليحصبي …قال سمعت القاضي أبا علي الصدفي يقول: سمعتُ أبا محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي الإمام رحمة الله عليه يقول: يقبح بكم أن تستفيدوا بنا ثم تذكرونا ولا تترحموا علينا||ويقول الرعيني:||وحدثني الفقيه الجليل أبو الحسن بن القاضي أبي عبد الله بن زرقون – نا – أبي رحمه الله عن أبي عبد الله بن غلبون .. سمعتُ محمد بن إسحاق بن راهويه يقول: سمعتُ أبي يقول: قلّ ليلة إلا وأنا أدعو لمن كتب عنّا وكتبنا عنه، فجدد الله رحمته ورضوانه على كل من أخذنا عنه من المشيخة الأعلام، وجمعنا بهم وبأسلافهم في دار السلام بمنه||([3])ولقد وجد ابن الفخار رحمه الله هذا التقدير والاحترام والحب من تلامذته عندما شاخ وأصبح عالمًا تُشدُّ له الرحال، فمن جملة تلاميذه ابن عبد الملك الأنصاري (ت703هـ) صاحب الموسوعة الشهيرة “الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة” وهي موسوعة في تراجم أهل الأندلس والمغرب. قال ابن الزبير([4]) (ت708هـ) وهو شيخ ابن عبد الملك الأنصاري، في افتخار ابن عبد الملك بشيخه ابن الفخار الرعيني، وشغفه بتعليقه على كتابه الخاص:||كان الكاتب أبو الحسن الرعيني يستحسنُ أغراضه، ويستنبل منازعه، وكتب له على بعض كتبه بخطه بـ”صاحبي ومحل ابني”؛ لفتاء سنّه، وفائقَيْ نباهة خاطره، وذكاء ذهنه، وكان يفخر بذلك||([5])!وهناك برامج وفهارس أخرى، أشهرها فهرسة ابن خير الإشبيلي (ت575هـ) التي كُتبت في القرن السادس الهجري؛ وتُعتبر هذه الفهرسة من أوسع الفهارس التي وصلتنا عن الأندلسيين من حيث ضخامتها وكثرة ما ورد فيها من أسماء لكتب، وهناك برنامج ابن مسعود الخشني (ت544هـ)، وقد اهتم فيه بذكر الكتب والمؤلفات التي سمعها وقرأها، وهناك فهرسة ابن عطية المحاربي الغرناطي (ت541هـ) الذي يهتم فيها اهتمامًا زائدًا بذكر شيوخه، والجميل أنه يبتدئ بذكر معلمه الأول وهو أبوه([6]).وثمة تجربة حية تشبه إلى حد كبير البرامج والفهارس، هذه التجربة بطلها ابن رشيد الفهري محمد بن عمر السبتي (ت721هـ) المولود في سبتة([7]) بالمغرب. لقد رحل ابن رشيد وهو شاب يافع إلى المشرق لأداء فريضة الحج، وكعادة المغاربة في ذلك الوقت حرص على أن يتلقى بكبار شيوخ عصره لينهل من علومهم، وكان يدون ملاحظاته في بطائق صغيرة، أو بصورة تعليقات على المصنفات التي كان يحملها معه، ليُخرج لنا في نهاية المطاف كتابًا رائعًا ماتعًا سمّاه “ملء العيبة بما جُمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة” أي ما جمعه من الفوائد في وجهته التي قصد بها الحج أولاً، سيما أسماء الشيوخ والعلماء والأساتذة الذين قابلهم، وأخذ منهم.ونستطيع أن نحدّد خط سير رحلة ابن رُشيْد من خلال قراءتنا ما تبقى منها, إذ لم يصلنا هذا الكتاب بصورة كاملة – وما جاء في المصادر المختلفة, فقد خرج رحّالتنا من مدينة سبتة قاصدًا الحج سنة (681هـ)، وعمره سبعة وعشرون عامًا، وأقام بالمرية المدينة الأندلسية مدّة من الزمان لقي فيها الوزير الأديب ابن الحكيم، وتوطّدت أواصر الصداقة بين الرجلين, ورافقه في رحلته إلى الحج، فيمّم رحّالتنا شطر مدينة تونس عن طريق تلمسان وبجّاية بحرًا، ومنها تحوّل إلى الإسكندرية، ثمّ القاهرة التى وصلها سنة (684هـ)، ورحل من القاهرة إلى دمشق متوجّها إلى المدينة المنوّرة، ثمّ إلى مكّة المكرمة.وبعد أداء فريضة الحج عاد أدراجه إلى القاهرة فالإسكندرية سنة(685هـ)، ومنها ركب البحر إلى طرابلس الغرب, فالمهدية بديار إفريقية فوصلها في ربيع الأول من تلك السنة، وبلغ تونس في ربيع الثاني، وأقام بها عاماً كاملاً، ثمّ توجّه إلى مدينة بونه (عنابة الآن)، ومنها أبحر إلى مالقة ورندة والجزيرة الخضراء، ثم انتهى به المطاف إلى مدينة سبتة في جمادى الثانية سنة (686هـ) أي أن رحلته العلمية والشرعية استمرت خمس سنوات متصلة.في هذه السنوات الخمس لاقى ابن رشيد المئات من الشيوخ في كل تلك المدن التي نزل بها، وهذا وللحق نموذج لطريقة التعليم والتثقيف في ذلك العصر، وكان اهتمام طلاب العلم بتدوين هذه المصنفات رغبة في تذكر هؤلاء الشيوخ والعلماء، ليدعوا لهم، ويترحموا عليهم، فضلاً عن أنها تأريخ للمناظرات، وحلقات العلم، وطريقة الدرس في ذلك الزمن، ثم هي نوع من المذكرات الشخصية العلمية إن صح التوصيف، والقصة الآتية التي يرويها الطالب المغربي عن شيخه المصري تقي الدين بن دقيق العيد (ت702هـ) الفقيه المصري الشافعي الشهير ترسم لنا لوحة فنية رائعة عن قصة العلم في القرن السابع الهجري، وتُبين كيفية التواصل والتلاقي بين أبناء الحضارة الإسلامية شرقية وغربية دون عوائق أو حواجز سياسية أو ثقافية كاليوم، إنها تُظهر لنا ذكاء الطالب النبيه ابن رشيد، وعلم الشيخ المصري ابن دقيق، قال:||لقيتُ الشيخَ تقي الدين بن دقيق العيد أول يوم رأيته بالمدرسة الصالحية، وقد عُرضت عليه ورقة سُئل فيها عن البسملة في قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة، وكان السائل فيما ظننتُه مالكيا، فمالَ الشيخ رضي الله عنه في جوابه إلى قراءتها للمالكي، خروجا من الخلاف في إبطال الصلاة بتركها، وصحتها مع قراءتها، فقلتُ له يا سيدي: اذكر في المسألة ما يشهد لاختياركم، فقال: وما هو؟ فقلتُ: ذكر أبو حفص، وأوردتُ قول الميانشي، فغلطتُ وقلتُ:ابن شاهين. قال (أي الميانشي المالكي):صليتُ خلف الإمام أبي عبد الله المازري التونسي العلامة، فسمعته يقرأ: [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين……]، فلما خلوتُ به قلتُ له: يا سيدي! سمعتك تقرأ في صلاة الفريضة كذا، فقال لي: أوَتفطنتَ لذلك يا عمر، فقلتُ له: يا سيدي أنت إمام ولا بد أن تخبرني؟ فقال لي: اسمع يا عمر، قول واحد في مذهب مالك، أن من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الفريضة لا تبطل صلاته، وقول واحد في مذهب الشافعي: أن من لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم بطلت صلاته، فأنا أفعل مالا تبطل به صلاتي في مذهب إمامي، وتبطل في تركه بمذهب الغير، لكي أخرج من الخلاف. فتركني شيخنا حتى استوفيتُ الحكاية، وهو مصغ لذلك، فلما قطعتُ كلامي، قال هذا حسن، إلا أن التاريخ يأبى ما ذكرت، فابن شاهين لم يلقَ المازري، فقلتُ إنما أردت الميانشي، فقال: الآن صحَّ ما ذكرته||([8])ودون الخوض في شرح الخلاف الفقهي بين المالكية والشافعية في الجهر بقراءة البسملة في صلاة الفريضة، إلا أننا نلحظ عدة أشياء:أولها: نباهة الطالب وذكائه واستيعابه لأصل المسألة.

ثانيها: هدوء الشيخ وثقته، وتربيته للسائل بالموقف.

ثالثها: إبداء القناعة الشخصية والاجتهاد في العلم.

رابعها: حفظ ابن رشيد آراء شيوخه بسلسلة السند.

خامسها: علم الإمام ابن دقيق العيد ورسوخه في الفقه وعلم الرجال وطبقاتهم وتواريخ حيواتهم وموتهم، ومن لاقى مَنْ مِن الشيوخ والعلماء.


([1]) عبد العزيز الأهواني: كتب برامج العلماء في الأندلس ص89- 95، مقال بمجلة المخطوطات العربية- المجلد الأول – القاهرة، 1955م.

([2]) هو علي بن محمد بن علي، ويقال له ابن الفخار، من بني الحاج: أديب أندلسي، من الكتاب العلماء. كان أبوه فخارًا. وولد هو وتعلم في إشبيلية. واستقضي على مذهب مالك في مورو قرب إشبيلية (سنة 615هـ) وغلبت عليه الكتابة، فتنقل في الأعمال الديوانية بين غرناطة وإشبيلية ومرسية. وتوفي بمراكش. الزركلي: الأعلام 4/ 333.

([3]) إبراهيم شبوح: برنامج شيوخ ابن الفخار الرعيني ص114. تحقيق للبرنامح، مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد الخامس – القاهرة، 1959م.

([4]) الحق أن هذا مما يُعجبُ ويندهش له، بل ويدلل على تواضع العلماء، فابن الزبير وهو أستاذ وشيخ ابن عبد الملك يُفرد له تعريفًا وترجمة في كتابه “صلة الصلة”، وهذا لعمري دليل جديد على عظمة وروعة الحضارة الإسلامية، التي لا يستنكف علماؤها فيذكرون نجباء تلاميذهم في مؤلفاتهم ومعاجمهم ومذكراتهم، رغم صغر سنهم، وقلة مشاربهم مقارنة بهؤلاء الشيوخ.

([5]) ابن الزبير: صلة الصلة، نقلاً عن عبد العزيز الأهواني، مقال بعنوان “صلة الصلة لابن الزبير، والذيل والتكملة لابن عبد الملك” ص8، 9. ضمن منشورات مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية – مدريد، 1955م.

([6]) الأهواني: السابق.

([7]) المحتلة الآن من إسبانيا.

([8]) ابن رشيد السبتي: ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة 3/ 240.