فيلم «The Seventh Seal»: الفن والإيمان في زمن الوباء
من منفاه في إحدى بلدان الدنمارك هرباً من ألمانيا النازية عام 1939، كتب بيرتلوت بريخت Bertolt Brecht المسرحي والشاعر الألماني الشهير آخر دواوينه، بدأ إحدى المجموعات الشعرية بتلك الجملة، عبارة بسيطة من سطرين، لكنها تحوي أفكاراً عن قيم الفن والحياة والأمل في مواجهة الظلمة، صمود الأمل في وجه اليأس يعتبر تيمة لا يتوقف الفنانون عن تأملها في كل عصر، سواء اختبروا بذواتهم تلك الأوقات المظلمة مثلما اختبر بريخت وقت الحرب، أو رجعوا بخيالهم بالزمن ليستقوا من التاريخ ما يوازي معاناة البشرية المستمرة من الحروب والأوبئة والمجاعات وغيرها، وهذا ما فعله انجمار بيرجمان المخرج السويدي الأشهر في فيلمه «الختم السابع The Seventh Seal»، صنعه في أواخر الخمسينيات لكنه بنى عالماً يستدعي العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، تحديداً وقت اجتياح الطاعون أو كما يسمى «الموت الأسود» وقتله أكثر من نصف سكان العالم، خلفية الوباء المميت تلك صنعت مساحة لمناقشة مفاهيم مثل الموت والإيمان وقيمة الفن في الأوقات المظلمة.
يشتهر فيلم الختم السابع بتجسيده للموت في هيئة رجل متشح بالسواد ذي وجه بارد وابتسامة ماكرة، استقى ذلك التصميم من تمثيلات الموت في فنون العصور الوسطى كهيكل عظمي يرتدي عباءة سوداء ذات رأس مدبب ويحمل فأساً حاداً يحصد بها الأرواح، وفي فيلم بيرجمان يمثل ببساطة تجسيد للموت الأسود الذي يطوف البلدان، يقابل الموت فارساً نبيلاً يدعى أنتونيوس بلوك عائداً من رحلة حربية مع مرافقه يونس بعد عشرة أعوام إلى أرضه في السويد، رؤية الموت وجهاً لوجه تثير لديه الأسئلة الوجودية وتستدعي مخاوفه عن وجود الإله وفي حالة وجوده عن صمته عن شرور العالم ومعاناته الشخصية، يعلم بلوك أن موته قريب مثله مثل الآلاف حول العالم، فالوباء لا يرحم أحداً، يتحدى الموت في لعبة شطرنج، تمهله بضعة أيام يستجمع بها شتات نفسه أو يجد أجوبة لتساؤلاته، تبدو فرضية الفيلم قاتمة لكن بجانب الأبطال، الموت والفارس يوجد أيضاً زوج من مهرجي السيرك المرحين يتورط الزوج في عدة مشاهد ربما تثير الضحك، لكن وبشكل رئيسي يمثل وجودهما تمثيلاً للفن في الأوقات الحالكة التي يبدو فيها بلا معنى أو هدف.
الغناء عن الأوقات المظلمة
في فيلم أبطاله من المحاربين وآلهة الموت، يحتل الفنانون معظم الوقت على الشاشة، زوج من مهرجي السيرك، الزوج (يوف) خفيف الظل يملك خيالاً واسعاً، وزوجته (ميا) جميلة هادئة ترعى ابنها الرضيع، يعيشان في عربة سيركهما المتنقل، يتساءلان عن مصيرهما ومصير فنهما في تلك الأوقات الصعبة، في أحد المشاهد يتجادل أحد الممثلين الآخرين مع يوف، يلعب الممثل دور الموت مرتدياً قناع جمجمة مخيف، يقترح عليه يوف أن يقدم شيئاً أكثر خفة وإضحاكاً أو حتى مزحة ذات محتوى جنسي واضح ليضحك الناس، يرد الآخر بأن هناك مرضاً شريراً حولنا، ويبشر القساوسة الناس يومياً بالموت ويزرعون فيهم الأخلاقيات الواجب عليهم اتباعها لرفع غضب الرب، يسأل الأكثر مرحاً، ما الدور الذي يمكنه لعبه فيأتيه الرد ساخراً، «الروح البشرية»، وكأن هذا بالضرورة دور سيئ، فهو أقل تأثيراً من الموت، كما أن الفناء مقدر له، لكن يوف وزوجته يقدمان ما اعتادا تقديمه يريان أنه من الأفضل تسلية الناس بالمرح الأخرق المعتاد والغناء الحماسي المفعم بالأمل، لكن جمهورهم مجموعة من الجنود العائدين من موت ليواجهوا موتاً آخر، يقذفانهما بالطعام ويسخران منهما، لكن نظراً لخفة أرواحهما لا يوقفهما ذلك ويستمران في غناء أغنيتهما، يقاطع أصواتهما أصوات غناء أقل مرحاً، ترنيمة قادمة من مسيرة دينية مهيبة ومخيفة، أفراد في عباءات سوداء يحملان نموذجاً للمسيح المصلوب على أعناقهما، وآخرون يجلدون ذواتهم عقاباً على خطاياهم التي أثارت غضب الرب فابتلاهم بالوباء المميت.
في نموذج آخر يقابل يونس مرافق الفارس أحد الرسامين يعمل على جداريته، يعمل تحديداً على واحدة من المواضيع الشهيرة في فنون العصور الوسطى، «رقصة الموت»، والتي تحتوي أيقوناتها على تجسيد للموت يمسك بأيدي مجموعة من البشر ويأخذهم معه في رقصة أبدية، يتوجه يونس للرسام بتساؤلات عدة أولها، عن سبب رسمه موضوعاً كئيباً كهذا، «لكي أذكر الناس أن موتهم محتوم» يجيب الفنان، يعترض الفارس على ذلك لأن هذا النوع من الفن لن يجعلهم سعداء، لكن الفنان يملك الإجابة السريعة، «هل يجب أن أجعلهم سعداء على الدوام؟ لماذا لا أخيفهم قليلا؟»، يخبره الفارس أنهم سيشيحون بأنظارهم، لكن الفنان يجيبه بثقة أنهم بالطبع سوف ينظرون، فإن الجمجمة أكثر إثارة للاهتمام من فتاة عارية، يتساءل الفارس عما إذا كان الهدف من إخافة الناس هو حثهم على الارتماء في أحضان القساوسة والعودة للدين، يرى الرسام أن هذا ليس عمله، بل عمله تصوير الواقع كما هو، والواقع هنا هو رقصة الموت الحتمية، يتراجع عن ثقته عندما يخبره الفارس أن ذلك سوف يغضب البعض ويعترف أنه من الممكن أن يرسم شيئاً مفرحاً، فالمرء يجب أن يكسب عيشه حتى يأتيه الوباء بالموت.
تلك الرؤية المزدوجة لدور الفن هي جزء أساسي من سرد الفيلم لأحداث نهاية أبطاله، فبينما يحارب المحاربون فإن الفنانين يحاولون إيجاد جدوى لعملهم في وقت لا يبدو ذو أهمية حقيقة ومباشرة لأناس يعيشون أيامهم الأخيرة، بين محاولات الترفيه عنهم وتوثيق الوضع الحالي للأجيال القادمة أو لمن يعيشونه فإن مقولة بريخت تتخذ أبعاداً مختلفة عن استخدامها فقط للأمل الرومانسي في وجه المأساة، فإن الغناء عن الأوقات المظلمة هو إعلان عنها، وتصريح بها واعتراف بوجودها بل وتخليدها، وفي لحظات عابرة يمكن الترفع عن كل ذلك لاقتناص لحظة هادئة من الحياة والاستمتاع بمقطوعة هادئة يلعبها أحدهم على عوده ويصبح الفن مهرباً مؤقتاً من كل ما هو أسود ومميت.
سوف أتذكر تلك اللحظة
يصارع الفارس (بلوك) ذاته، يعذبها بتساؤلاته وانعدام استقراره، لا يستطيع قبول الموت كحقيقية مطلقة تمثل العدم، يريد بكل قوته أن يؤمن بوجود إله يعطي معنى لحياته ومعاناته، لكن يؤرقه أنه لا يستطيع رؤيته أو الشعور به، يشعر أن رغبته في التصديق والإيمان هي حمل في حد ذاته، فمرافقه يونس على سبيل المثال يبدو أكثر خفة وعدمية، فهو يملك عقلية ثابتة لا تؤمن ولا تحتار، تظهر عملية يونس في غطاء يستخدمه ليخفي مخاوفه، فهو يلعب دور الشخص الذي لا يهتم بصغائر الحياه ولا المشاعر الرقيقة، بل ويدعي عدم خوفه من الموت رغم القلق البادي عليه عند رؤيته جدارية رقصة الموت ورسوم تصور معاناة مريض الطاعون عندما يتمكن المرض منه ويفتك به، يرى يونس أن الحب هو الوباء الأكثر سواداً وأنه لا يعني شيئاً وأنه من السهل تخطيه، لا يثمن اللمحات الإنسانية بشكل حقيقي بل يسير في الحياة مدعياً القوة.
أكثر ما يجعل تجربة المرض قاسية هو امتناع الآخرين عن تعزية من يواجه موته، فالاقتراب منه يعني أن تشاركه أنت أيضاً، في أحد المشاهد يأتي أحد المصابين صارخاً مطالباً بشربة ماء تهدئ ألمه أو لمسة تعزيه قبل موته، تهم فتاة اتخذها يونس كمدبرة منزل ومرافقة له بمساعدة الرجل، لإراحته بشربة ماء ربما تكون الأخيرة في حياته، لكن يونس يخبرها كما أن هذا منعدم المعنى، يكرر على مسامعها عدة مرات أن تصرفها بلا معنى.
الفارس بلوك على الجانب الآخر يتوق للتواصل الإنساني والروحاني وإيجاد المعنى الذي يدعي يونس انعدام وجوده، يريد أن يتصل بربه وأن يصدق وجوده، ويرغب أيضاً في إيجاد الراحة الأرضية المتمثلة في الهدوء وربما وجبة تجمعه بمن يحب، يختبر الفارس لحظات محدودة من السلام والطمأنينة عندما يتعامل مع مهرجي السيرك وابنهما الصغير، يرى حبهما لبعضهما البعض واطمئنانهما كل للآخر، ووعد الحياة الذي يرونه في صغيرهما رغم انعدام المنطق فيه، يتذوق ثمار الفراولة البرية التي قطفتها الزوجة ويشرب الحليب الطازج الذي حلبته صباحاً، يستمع الى أغنية ألفها الزوج ويلعبها برقة على العود، يشعر الفارس للحظة أن همومه الوجودية صارت أكثر خفة وأصبح قادراً على تناسيها وأنه ربما إذا كان في أحضان زوجته المحبة التي تركها لأعوام ليرفع علم إلهه ويقاتل من أجله لربما كان أكثر سعادة، يعد نفسه بتذكر ذلك المشهد، وقت غروب الشمس وطعم الفراولة والحليب ومنظر العائلة الهادئ وصوت الموسيقى، يترك نفسه المعذبة تنعم بمتع حياتية بسيطة لمرة منذ عقد، على الرغم من أنه يعلم جيداً أنها لن تستمر طويلاً.