الأم الخادمة والأم المربية
برأيكم.. ما أفضل شيء يمكنكم تقديمه لطفلكم؟.
تعليم جيد؟، تدريب رياضي؟، طعام صحي؟، حياة مرفهة وملابس فاخرة؟.
صدقوني.. شيءٌ واحدٌ يمكنكم أن تعولوا عليه في طريق سعادة طفلكم؛ وهو أن يكون مكتفيًا بذاته واثقًا في قدراته!.
ولنأخذ من أنفسنا عبرة، في حال مرضنا يبقى شغلنا الشاغل هو من سيعتني بنا ومن سيقوم بمهامنا بدلا منا؟، وهل سيؤديها على النحو الذي نرجوه أم سنضطر للقبول بأي مستوى يقدمه لعدم وجود بديل غيره؟، في ذلك الحين لا وقت لدينا للتفكير بالدراسة أو الاستكشاف أو حتى الاستمتاع.
فكيف نتوقع أن الطفل الذي يعتمد كليًا على أبويه لتلبية احتياجاته الخاصة سيكون مطمئنًا واثقًا وطموحًا؟.
يعرف الآباء جيدًا انجذاب أطفالهم البالغ للأعمال الحقيقية في حياتهم اليومية، المكنسة والمكواة والبوتاجاز والغسالة وكل الأشياء الحقيقية في منزله، ما لا يعرفه الآباء هو أن طفلهم يستطيع بالفعل إنجاز العديد من هذه المهام بكفاءة!.
شرطان فقط يلزم توافرهما كي نساعد طفلنا على إتمام هذه المهام:
1. توفير أدوات مناسبة لهم
الطفل الذي يخفق في مساعدتنا فيسكب العصير على الطاولة بدلاً من داخل الكوب، أو يسقط الطبق على الأرض بدلاً من وضعه على الطاولة ليس لأنه غير مستعد لأداء هذه المهام بعد، لكن لأن حجم الأدوات التي يستخدمها أكبر من أن يحكم سيطرته عليها بيديه الصغيرتين.
جرب أنت أن تأكل بمغرفة الطعام الكبيرة أو أن تشرب من قنينة بطول ذراعك دون أن تحدث فوضى.
فالحل هنا ليس بمنع الطفل عن التجربة؛ لأن مثل هذه التجارب والخبرات هي ما تساعد الطفل في تطوير مهاراته وصقل شخصيته، والأحرى هو أن نساعده بتوفير أدوات حقيقية بأحجام مناسبة له.
2. تعليمات محددة وخطوات بسيطة واضحة
يتعلم الطفل بالتقليد والمحاكاة، لكن وتيرة حياتنا المتسارعة مقارنة بمستوى تركيزه الوليد أشبه بمراقبتنا للاعب خفة محترف، ندرك أنه أخفى الكرة من تحت الغطاء لتظهر في قبعته لكننا لا ندري تحديدًا كيف فعل ذلك حيث قام به بسرعة بالغة لا تناسب مستوى معرفتنا بهذه الألعاب.
لذلك لا يكفي أن نمنح الطفل فرصة مراقبتنا عن كثب فحسب، بل أن نقسم المهمة الواحدة لعدة خطوات أبسط، نقدمها له ببطء ووضوح ليستوعبها وينجح في تنفيذها ما يزيد ثقته بنفسه وإحساسه بالإنجاز.
الإحساس بالإنجاز يشبع نهم النفس التواقة لإثبات ذاتها وصقل مهاراتها، كما يشبع الطعام خوار الجسم الجائع.
إنها تلك التجارب والخبرات التي نمر بها هي ما تصنعنا وما تتشكل به صفات شخصياتنا، بفشلها ونجاحها، بقسوتها ومرونتها، بحلوها ومرها، وسلب الطفل فرصة اختبار كل تلك التجارب هي تعدٍّ صريح على آدميته وحقه علينا كإنسان مستقل بذاته، بالنهاية هو طفل ولّانا الله رعايته وليس دمية ملّكنا الله إياها، ومعرفتنا بالفرق بين الرعاية والتملك هو ما سيصحح لنا مسارنا في التربية إذا جانبنا الصواب، وقت الفطور على سبيل المثال يمكن أن يستغرق منا ساعة ونصف إذا تركنا المجال للطفل أن يجهز فطوره بنفسه ويأكل بنفسه ويغسل صحنه بنفسه، ويمكن أن يستغرق نصف الساعة إذا فعلنا كل ذلك بدلاً منه، يتوقف هذا على رؤيتنا الخاصة لمهمتنا في تربيته، هل نُعد شخصًا مستقلاً يستطيع خدمة نفسه مستقبلاً، أم أننا نخدم شخصًا سيظل معتمدًا على انتظار خدمة غيره له دائمًا؟.
لا تتهاونوا في هذا الأمر، في الواقع إن 80 بالمائة من شخصية الطفل التي سيعيش بها مستقبله تتكون في السنوات الأولى من طفولته، أعطه حرية ووكّل له مهامًا ومسؤوليات جادة وستنتج شخصًا مسؤولاً مكتفيًا بذاته، أو علّمه أنه غير جدير بالثقة ولا يمكن الاعتماد عليه في أعمال جادة وستنتج عالة جديدة على المجتمع، هذه العادات التي تتأصل بداخله في طفولته المبكرة يصعب تغييرها مستقبلاً، فبعض الآباء يرون أنه لا بأس بتدليل الطفل في السن الصغير، على أساس أنه لا مفر لديه من تحمل مسؤوليته كبيرًا، وهي فكرة غير منطقية تمامًا، فهم بذلك يصعبون المهمة على الطفل ولا يصنعون به معروفًا.
والآن… ماذا نفعل لدعم استقلالية الطفل وثقته بقدراته؟، إليكم بعض الأفكار:
1. علِّم طفلك كيف يعتني بنفسه
كآباء نحن نطمح دائمًا لتقديم أفضل ما يمكننا عمله لطفلنا، لكن حين يتعلم الطفل أن يقوم بتدبير شؤونه بنفسه فسيدرك قيمته الذاتية وقدرته كشخص مستقل في أسرته، ارتداء ملابسه وإعداد وجبته والعناية بمظهره الخارجي وتنظيف الفوضى التي يخلفها وراءه كلها أعمال تعتبرها بعض الأمهات من مهامها كأم جيدة لطفلها، في حين أن مهمتها العظمى هي أن تساعده أن يفعل هذه المهام بنفسه، فقط سيطري على رغبتك في السيطرة على الأمور، واتركي له متسعًا من الوقت للمحاولة والتعلم في سبيل الإتقان.
2. اترك له المجال كي يختار بنفسه ويتحمل عواقب اختياره
لا شك أن النشاط الذي يختاره الطفل بنفسه يستطيع أن يركز فيه مدة أطول من النشاط الذي يُفرض عليه، أفسحوا المجال لطفلكم لاختيار ملابسه، ألعابه، الكتاب الذي سيقرأه، الطعام الذي يفضل تناوله، إلخ.
قيام الطفل بقرارات تخص شؤونه يجعله أكثر مسؤولية وأكثر وعيًا بذاته وأكثر استقلالية، يمكنكم تقليل عدد الخيارات المتاحة للطفل حسب سنه لتقليل الضغط النفسي الذي ينشأ من تعدد الخيارات المتاحة، وللتحكم أكثر في النتائج الناشئة عن إتاحتكم لحرية الاختيار لطفلكم.
3. وكّل لطفلك بعض المهام والمسؤوليات
طفلك مثلك، يشعر بالرضا والإنجاز حين يقوم بمهمة ما على وجه حسن ويختبر نتائج عمله فيمن حوله، سواء من استحسان وقبول، أو شكر وامتنان، أو حتى مجرد أثر جميل في بيئته.
الألعاب البلاستيكية أو الإلكترونية لا توفر له هذه الفرصة، هو بحاجة للقيام بأعمال حقيقية جادة مناسبة لقدراته، لذلك حين يعرض عليك طفلك أن يساعدك في أمر جاد من شئون المنزل، وتوجهه أنت أنك لست بحاجة لمساعدته وأن بإمكانه التوجه لغرفته واللعب بألعابه، فأنت بذلك توجه له رسالة غير مباشرة أنه غير جدير بثقتك ومساعدتك، فهو لا يرقى لأعمال الكبار الجادة، ولا يليق به إلا ألعاب الأطفال التافهة.
أذكر منذ فترة حين كنت أتحدث لأختي في مكالمة مرئية عبر الإنترنت، ظهر طفلي في الخلفية يتناول فطوره ويقشر بيضة بنفسه، كان يبلغ حينها عامًا تقريبا، تعجبت أختي وسألتني هل يستطيع تقشيرها؟! فأجبتها متعجبة بدوري لماذا؟، ألا يستطيع طفلك – ذو العامين ونصف – تقشير بيضة؟، صمتت تفكر للحظات وردت: «لا أدري! فأنا دائمًا أعطيها له مقشرة!».
هنا تكمن المشكلة، نحن نعطي أطفالنا الدنيا كبيضة مقشرة على طبق من ذهب، متى سيتعلم الطفل ويختبر قدراته ويتحدى نفسه ليتفوق عليها؟، وكيف سيقوم بتصريف شؤونه الخاصة في غيابنا؟، أيجب علينا أن نجعل من أنفسنا محورًا لحياته بدلاً من أن نشغله بنفسه؟، هل يجب أن نهتم وحدنا بالأمور الهامة في حياته، ونتركه مستغرقًا في توافه الأمور؟.
أيًا كان أسلوبكم مع أطفالكم واختياراتكم في التعامل معهم فهي بالتأكيد نابعة من حب عميق لهم، وحين تدعمون هذا الحب بالمعرفة الكافية والنظرة الواعية لأهدافكم المستقبلية من تربيته ستطيب لكم ثمار غرسكم بإذن الله.