في المقال السابق تحدثنا عن النظام النيوتنيّ للعالم، والذي امتاز بصفتيْن أساسيتيْن؛ الحتمية والاختزالية. دعنا الآن نعمل على تكسير كلّ منهما.


إلى اللاحتمية Non-determinism

قدمّ القرن العشرون تحدياتٍ عظيمةً لا يمكن لكلّ من الحتمية أو الاختزالية تحملها، أول تلك الضربات كان الميكانيك الكمومي في بدايات القرن العشرين، وظهور مبدأ عدم التأكد لـ فيرنر هايزنبرج؛ الذي يجعل تحديد مكان و سرعة الجسيم معًا في وقتٍ واحدٍ مُحالاً، ثم ظهر كيرت جودل – تُنطق مع لمحة ياء خفيفة قبل الدال – ليطيح باليقين الرياضي من خلال مبرهنة عدم الاكتمال التي أوضح من خلالها أنه في أيّ نظامٍ رياضيّ عدديّ متسق، يوجد عبارة لا يمكن التحقق من صحتها أو عدم صحتها (عدم البت)، وأنه لكي يكون النظام الرياضي العددي المتسق غيرَ متعارض، لابد أن يكون غير متكامل (اللا تمام)، ثم بعد ذلك ظهرت نظرية الفوضى في السبعينات. كانت البداية مع الفيزيائي إدوارد لورنز Edward Lorenz – و ليس لورنتز – من MIT حينما حاول أن يضع نموذجًا رياضياتيًّا حاسوبيًّا صارمًا مكونًا من 12 معادلة ضخمة لتوقع أحوال الطقس؛ ليكتشف أنه في كل مرة يضع فيها نفس البيانات لجهاز الكومبيوتر يحصل على نتائج مختلفة تماماً!، ما الذي يحدث؟ هل جُنّ الكومبيوتر؟

في الحقيقة، لا. كل ما حدث هو أن لورنز، في معادلات المرحلة الأولى من النموذج الرياضي، قام ببعض التقريبات approximations في الأرقام العشرية البعيدة؛ حيث تصور أن ذلك لن يؤثر كثيرًا على النتائج النهائية؛ لكن النتيجة كانت مفاجئة، حيث يمكن لدقةٍ بمقدار 0002. مثلاً في أحد قيم المدخلات في المعادلات أن تنقل الطقس من (صافٍ نهارًا ممطر قليلاً بالليل) إلى (تورنادو جديد يضرب السواحل الجنوبية)!. في تلك المرحلة ظهر واحد من أهم المصطلحات في القرن العشرين؛ الاعتماد الحساس على الشروط الابتدائية Sensitive dependence on initial conditions؛ أي أن بعض المنظومات تعتمد اعتمادًا عظيمًا على الظروف الابتدائية الدقيقة لها، كانت تلك هي البداية الرسمية لما يمكن أن ندعوه (نظرية الفوضى Chaos أو الشواش). تنتج الفوضى من مصدريْن أساسييْن؛ أولهما الاعتماد الحساس على الظروف الابتدائية، وثانيهما هو تأثير عدم التحديد الكمومي، وهو موضوعٌ سوف نسرد له مقالاً خاصًّا.


أثر الفراشة The butterfly effect

صاغ لورنز في سنة 1963 ما يدعى جاذب لورنز Lorenz attractor؛ وهو بنيةٌ ثلاثية الأبعاد لتوضيح سلوك التدفق الشواشي، ويشتهر بشكله الذي يشبه الفراشة؛ من هنا – ربما – جاءت تلك التسمية الساحرة، (أثر الفراشة The butterfly effect).

1

رفرفة جناح فراشةٍ في الصين يمكن أن تصنع إعصاراً في ليبيا، تغيرٌ بسيطٌ وغير محسوسٍ للغاية في الظروف الابتدائية يمكنه أن يصنع فارقًا عظيمًا في شكل العالم مستقبلاً، رجلٌ – بطريقة ما – زار ماضي الأرض من 2 مليار سنة، وحينما وصل داس بالخطأ على حشرةٍ صغيرة وقتلها، ثم عاد للمستقبل ليجد عالمًا مختلفًا تمامًا عن الذي تركه لمجرد أنه دهس حشرة صغيرة، إنه نفس التصور الذي يحكيه الفيلم الشهير The butterfly effect، إنها نفس الحكاية التي كنت أحكيها لزوجتي قديما، هو ذلك الاختيار الأخير الذي أثار انتباهك في قائمة الإجابات عن حادثة سيارةٍ تسببت في نهاية العالم، إنها مشكلةٌ عظيمةٌ للغاية لم تجد لها حلًّا إلا في انتقال شكل العلم وطريقة تفسيره للعالم بالكامل من وجهة نظرٍ إلى وجهة نظرٍ أخرى تمامًا؛ من الحتمية إلى اللا حتمية؛ من الاختزال إلى التعقّد!.

هنا يواجه العلم مجموعة تحدياتٍ عظيمةٍ معًا؛ حيث أن العلم – في جزءٍ رئيسيّ منه – مبنيٌ على التقريب، لا يمكن لنا جمع كل البيانات في أثناء إجراء تجربةٍ ما، كما أن بعض الأدوات الرياضياتيّة كالتفاضل والتقريب الخطيّ هي أدواتٌ تقريبية.

أثبتت العلاقات الخطّية نجاحًا ثقيلاً في فهمنا للطبيعة؛ لكن اعتماداً عليها توقف العلم تمامًا بداخل دائرة الفيزياء والكيمياء والمنظومات الصغيرة؛ لم يعد قادرًا على تحليل النظم المعلوماتيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئية. أداة العلم الاختزالية الحتمية، المتمثّلة في قواعد التراكب الخطّية التي تحدثنا عنها منذ قليل، ظهرت كعائقٍ واضحٍ أمام فهمنا لتلك النظم.


من الخطّية إلى اللا خطية

دعنا ننهي مقالنا بضرب مثالٍ لتوضيح الشكل الجديد من العلاقات في الرؤية العلمية الجديدة:

أحدهم يمتلك مصنعًا صغيرًا لإنتاج الملابس، يعمل في المصنع عاملٌ واحدٌ فقط، ينتج المصنع 50 قميصًا في اليوم، هل تعتقد أن إضافة عاملٍ آخر، سوف يرفع إنتاج المصنع ليصبح 100 قميصٍ في اليوم؟

من الممكن فعلاً؛ لكننا هنا نتجاهل فكرة أن أحد العمال من الممكن أن يحمّس الآخر على الإنتاج، أو ربما يدفعهما التنافس للعمل بطاقةٍ أكبر، أو أنّ العلاقة بين كلّ منهما قد تتطور بحيث يتخصص كلّ منهما في صناعة جزءٍ ما من القميص يبرع فيه، بينما يصنع الآخر جزءًا آخرَ يبرع فيه. يمكن هنا أن نحصل على 125 قميصًا في اليوم، كذلك من الممكن أن يقضيَ كلّ منهما وقته في الثرثرة مع الآخر، أو يجدها فرصةً لأخذ أجازاتٍ طويلة، هنا قد نحصل على 75 قميصًا في اليوم.

هذا المثال هو نموذجٌ مصغّرٌ للأنظمة المعقّدة؛ كتلك البيئيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، والتي يفشل العلم، بطبعه الحتمي الاختزالي في تفسيرها، يوضح هذا المثال التالي:

1. يمكن للنظام أن يكون أكبر من مجموع أجزائه، ظهرت (خصائص منبثقة) جديدةٌ للنظام بعد دمج عناصره.

2. لا يمكن أن نضع استنتاجاتٍ حتمية.

3. يفشل التراكب الخطيّ هنا في تحقيق نتائج؛ حيث أنه من المفترض أن يكون الناتج هو مضاعفات العدد 50 فقط.


علوم التعقد Complexity Science

2

كان المثال الأخير هو نموذجًا بسيطًا ليس إلا، سوف يفتح الباب أمامنا لحديثٍ طويلٍ عن نظامٍ علميّ جديدٍ بالكامل، يمكن أن ندعوه علوم التعقد Complexity Science، التي نشأت في ستينات القرن العشرين وبنت أصولها على دراسة المنظومات المعقدة Complex Systems، وظهور النظرية العامّة للأنظمة System Theory على يد لودفيج فون بيرتالانفي و السيبرنتيقا Cybernetics، أو السيبرانية، التي قامت على دراسة العلاقات بين العناصر في الأنظمة، و ظهر من خلالها عباقرةٌ مثل روس آشبي. علوم التعقّد تعتمد على النظر للعالم كعلاقاتٍ غير خطّية، غير اختزالية، حيث أن النظام لا يساوي فقط مجموع خصائص عناصره؛ ولكن هناك ما يمكن أن ندعوه خصائص منبثقة Emergent Properties للنظام مُضافة إليه، لها علاقةٌ ببنية النظام ذاته، وليس بوحداته، وذات تأثيرٍ على عناصره.

3

كان قصور الاختزالية – بمعناها المفهوم – هو ما فتح الباب لنوعٍ من الفكر يمكن أن ندعوه (الفكر النُّظمي System Thinking)، إنه التفكير، ليس من خلال وحدات النظام، لكن من خلال النظام كبنيةٍ واحدة، حيث هو عملية فهم كيف لمجموعة من الأشياء التي يمكن اعتبارها نظامًا أن تؤثر في بعضها البعض داخل كينونةٍ واحدة، أو ضمن نظامٍ أكبر، الفكر النّظُمي يسمح لنا بتفسير العالم من خلال وجهة نظرٍ علميّةٍ مختلفة تمامًا عن سابقتها الاختزالية، هنا أصبحنا نفكر بشكلٍ أكبر في العلاقات بين وحدات النظم، والصفات الجديدة المضافة إلى النظم، وتفكير الشبكة، وتكيّفها مع الأجزاء الأخرى للنظام، و تطور تلك العلاقات لصنع تكيّفٍ مع البيئة المحيطة؛ لينشأ من ذلك ما ندعوه (النظم المتعقدة المتكيفة Complex Adaptive Systems).

تستطيع علوم التعقد أن تقترب بشكلٍ جيّدٍ من تطوير فهمنا للمنظومات المعقدة؛ كدراستنا لمجموعات الطيور، والنمل، وحالات الاجتماعية العليا Eusociality التي نشاهدها في عالم البيولوجيا و النظم البيئية، يمكنها أن تعطيَ نوعًا مختلفًا من المعلومات حول التفاعلات بين البشر على شبكات التواصل الاجتماعيّ، وكيفية تصرف المجتمعات في حالات الكساد، كذلك سمحت لنا بفرصةٍ مختلفةٍ تمامًا لفهم نشوء الوعي على أنه انبثاقٌ Emergence من كيانٍ متصلٍ بشكلٍ ديناميكيّ قويّ، وهو الجهاز العصبي للإنسان، وأعطت لنا إجاباتٍ من منظورٍ مختلف عن التساؤل الشهير: كيف يمكن للوعي أن ينشأ في الروبوتات من خلال وحداتٍ معتمدةٍ على بعضها Interdependent، متصلةٍ فيما بينها Interconnected، بشكلٍ مثاليّ؟

كان مقالنا هو مقدمةٌ لابد منها لحديثٍ مفتوحٍ ينتهي بالإجابة عن سؤالنا في أول المقال:

إلى أيّ درجةٍ يمكن لفوضىً ما أن تتعقّد؟ هل يمكن للانتظام أن ينشأ من الفوضى؟ هل يمكن للكون أن ينظّم ذاته؟ ماذا نعني أصلاً بقولنا (نظام)؟ كيف يمكن أن ينشأ الوعي؟ كيف تدخل جموع الناس في قاعةٍ ما من بابٍ واحدٍ دون حدوث مشاكل؟ ما الذي يدفع جموع النمل لصنع جسرٍ حيّ لمساعدة البقية من القطيع على العبور؟

عسى أن تكون رحلةً مثيرةً لك، هي بالفعل كانت واحدةً من أكثر رحلاتي سحرًا!

المراجع
  1. Order out of chaos: man's new dialogue with nature – Ilya Prigogine
  2. Complexity Theory Course: Complexity academy
  3. what is complexity science, really? By Steven E. Phelan – Emergence Magazine – May2001
  4. map of complexity science – Brian Castellani
  5. شوية علم من فضلك لـ د. السيد نصر الدين السيد
  6. البساطة العميقة لـ جون جريبن