آيات شيطانية: «الملحمة المحمدية» وكرنفال التنوير
من بين عديد ما كتب عن رواية «آيات شيطانية» للكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي وكثير السجالات التي دارت بعد صدورها سواء حول الرواية نفسها أم حول تداعياتها الكثيرة وفي قلبها فتوى الخميني بإهدار دم كاتبها، فإننا نستطيع اعتبار الجدل الذي دار بين صادق جلال العظم «وهو بطل معظم هذه السجالات في حقيقة الأمر» وبين عبد الرزاق العيد على أنه الأرفع بين كل هذه السجالات والكتابات.
هذا السجال الذي ابتدأ بدراسة العيد «سلمان رشدي في المنظور العربي» ولحقه رد العظم في كتابه «ما بعد ذهنية التحريم»، يدور حول ثلاثة مستويات يناقش عبرها العظم والعيد رواية رشدي، «مستوى أدبي» يتعلق ببنية الرواية وتقنياتها السردية ومركز التبئير السردي لها وكيفية قراءتها وكشف دلالتها وأبعاد تناصيها مع روايات أخرى «عند العظم عولس جيمس جويس ومساخر رابليليه، وعند العيد مسخ كافكا»، و«مستوى قيمي» يتعلق بأفق استخدامها لـ«الملحمة المحمدية» بتعبير العظم، وهل هو استخدام مجاني لا يفعل سوى النيل من مرتكزات «إسلام الشعب» الذي يفترض من رشدي أن يدافع عنه [1] كما يقول العيد أم أن له حضورًا حتميًا، حيث له قدرة على كشف بعض أبعاد شخصية الرواية الرئيسية «صلاح الدين شمشا» عبر إضاءات حُلمية ورؤيوية وكرنفالية، و«مستوى تنويري» يتعلق بموقع الرواية من أسئلة التنوير والنهضة وقدرة الجزء الخاص بـ«جبريل» وكل ما يتعلق بـ«الملحمة المحمدية» على أن يكون ذا أفق تنويري، سواء عبر الهرطقة وفقًا للعظم، أو عبر إنشاء شبكة علاقات تسمح بتعدد الأصوات كتقنية روائية تجعل الرواية فعالية تنويرية وفقًا للعيد [2]. وهذه الأبعاد الثلاثة غير منفصلة، بل إنها شديدة التداخل كما سنوضح.
محاولتنا هنا هي استثمار لهذا الجدل الرفيع عبر تعقيده عن طريق إدخال «صوت آخر» بالإضافة لأصوات جويس وكافكا وبريخت وباختين ورابيليه وجينيه، هو صوت ميلان كونديرا، والذي تناول بالفعل الرواية في صفحات من كتابه «وصايا مغدورة» الكتاب الثاني من ثلاثية الرواية، وإن كنا هنا سنعتمد بالأساس على كتابه «فن الرواية» الأول في الثلاثية، وعلى كتابته الروائية كذلك فظننا أن كونديرا – وعبر ثلاثة مفاهيم رئيسة – تشكل محورًا لرؤيته للرواية كما عرضها في «فن الرواية» ولكتابته الروائية كما نطالعها في أعماله يستطيع أن يفيدنا كثيرًا في هذا الجدل حول رواية رشدي وحول مستوياتها الثلاثة الأدبي والقيمي والتنويري.
فمهفومه عن «وحدة الثيمة» يفيدنا كثيرًا في حسم أمر التفكك الذي يطال بنية «آيات شيطانية»، والذي اضطر العظم في معرض دفاعه عن الرواية أن يرجعه لتقنيات جويسية وبريختية، يرى العيد أنها غير متوفرة أبدًا في رواية رشدي، التي لو قرأت كروايتين أو ثلاثة لما شعر أحد بفرق [3]، يفيدنا كونديرا في هذا الجدل حيث يشكل «التفكك الظاهري» جزءًا رئيسًا في معمار رواياته، لكن لا يصل أبدًا لتفكك حقيقي بسبب «وحدة الثيمة» كتقنية رئيسة في كتابته، والتي تربط كل ما في الرواية حتى لو مقالات بـ«الموقف الوجودي» لأفرادها، وعبر هذا المفهوم الثاني «الموقف الوجودي» وما يتعلق به من «كلمات أساسية (مفتاحية)» نستطيع أن نوجه لرواية رشدي السؤال عن موقع «الملحمة المحمدية» المروية عبر هذيانات «جبريل فاريشتا» في كشف وإضاءة أبعاد شخصية الرواية الرئيسية «صلاح الدين» المتمحورة حول كلمات «المنفى والعودة والولادة الجديدة»، وهذا لأن إضاءة الوجود واكتشاف أبعاد جديدة منه هي القيمة المركزية للرواية عند كونديرا، هي «أخلاقية الرواية»، وفقًا له «إن الرواية التي لا تكشف جزءًا من الوجود ما يزال مجهولاً هي رواية لا أخلاقية» وكما ينقل عن هرمان بروخ «اكتشاف ما لا يمكن للرواية وحدها أن تكتشفه هو مبرر وجودها»[4]، وإذا كانت الرواية هي كشف تعقيد الكائن عند كونديرا، وهي بهذا بالذات حديثة وتنويرية وضد الاستبدادية والشمولية والأنساق المغلقة فكما يكرر «لا رواية في ظل استبداد»[5] فإننا نستطيع عبر هذه الرؤية طرح السؤال؛ هل كانت رواية رشدي تنويرية؟
لكن مبدئيًا وقبل الدخول لتحليل المستويات الثلاثة للرواية، حتى نستطيع تقييمها فإن علينا أولًا أن نموقع رواية رشدي في تاريخ «ما بعد اهتزاز المدونات التقليدية» أي التاريخ اللاحق على النقد التاريخي لسير الأنبياء والتشكيك في موثوقيتها، وهذا كي نحدد بوضوح كيفية استثمار رشدي لهذه المدونات في خلق «ملحمته المحمدية» والدلالة الأولية لهذا الاستثمار، فإذا كانت الرواية المعاصرة التي تتناول الأنبياء والنبوة تعتمد بقدر كبير على التزعزع الذي طال الثقة في المدونات التقليدية «السير طالما نتحدث عن النبي محمد والأناجيل حين نتحدث عن المسيح»، فإنها لا تستخدم هذا التزعزع بنفس الطريقة، فالروائي قد يلجأ في بناء نصه لملأ الفراغات التي لا يذكرها التقليد من أجل إضاءة جوانب غابت عن السرد التقليدي أو قام بتهميشها.
مثال هذا قيام ساراماغو في روايته «الإنجيل يرويه المسيح» بالتركيز على الجانب البشري في المسيح وتوسعة حيز مريم المجدلية ونسج علاقة حب جسدي بينهما في محاولة لاكتشاف البعد البشري قليل الحضور في الأناجيل الرسمية، وقد يميل الروائي بدلًا عن هذا لتضخيم مناطق «الحرج» في المدونات التقليدية، أي تلك الأخبار التي لا يرضى عنها المؤمنون بصورة كبيرة لكنها استمرت في المدونات التقليدية سواء في المركز «مثل بعض عناصر الحرج المذكورة في الأناجيل الرسمية الأربعة مثل تعميد يوحنا للمسيح ومثل الصلب ومثل مصاحبة المنبوذين والخطاة» أو في الهامش «مثل الروايات التي تتحدث عن النبي ببعض ما لا يراه المؤمنون لائقًا والتي تشيع في كتابات الأخبار القائمة على التجميع لا فرز المرويات». ونحن نستطيع أن نقول إن رشدي اختار التقنية الثانية وحدها، فـ«الملحمة المحمدية» في رواية رشدي الشهيرة هي محض تضخيم للحرج [6].
وإذا كان البعض قد رأى أن يتعامل مع هذا التضخيم من رشدي بمعيار تاريخي، فحسن حنفي والعظم يبينان أن ما ذكره رشدي تذكره الروايات بالفعل والرجل لم يختلق شيئًا، وغيرهما يركز على كون هذه الروايات ضعيفة وفاقدة للموثوقية التاريخية مما يجعل استخدام رشدي لها محض انتهازية لا أكثر، إلا أننا نود التعامل مع المسألة من منظور آخر، ففي ظننا أن «حضور الهامش» و«تضخيم الحرج» في الرواية يفقد كل دلالته لو تمت قراءته كأمر تاريخي، هذا لأن طبيعة هذا التضخيم بكل ما فيه من سخرية وتدنيس لا يعمل على مقاومة الرواية الرسمية بأخرى مهمشة لها نصيب أكبر من التاريخ، بل المقصود منه التأكيد على «لا تاريخية كتابة السيرة» برمتها في هامشها ومتنها، فحضور الهامش والمنفي هدفه القول بأن الرواية الإسلامية الرسمية عن محمد هي محض اختلاق، رواية اختلقت وصنعت على مهل عبر نفي المشين «تلك الروايات المهمشة والحرجة التي يضخمها رشدي» عن المؤسس لتكريس الإيمان المتشكل وتبريره، مما يجعلنا نعتبر «تضخيم الحرج» عند رشدي هو مقاومة أدبية غرضها كشف أدبية التقليد، لذا فإن رواية رشدي ليست مجرد رواية ناتجة من تزعزع المدونات التقليدية بل إنها في حقيقة الأمر تحاول صنع هذه الزعزعة بمساءلة حقيقة الرواية المركزية عبر استحضار هامشها وهو ما تنبه له بذكاء فتحي بن سلامة حين اعتبر تخييل رشدي بمثابة نقد تاريخي للنص [7]، مع التأكيد على أن الهامش عند رشدي لا يحضر كحقيقة بديلة عن «حقيقة الإيمان» بل كنفي لوجودها من الأساس.
وطالما أننا أوضحنا هذه النقطة التي نظنها مهمة حيث إنها تحدد كيفية استثمار رشدي للمدونة التقليدية في بناء ملحمته المحمدية الجديدة «تضخيم الحرج» ودلالة هذا الاستثمار الأولية «زعزعة الرواية التقليدية»، فإننا نستطيع العودة للسؤال المركزي هنا وهو كيف لنا في ضوء هذا أن نقيم رواية رشدي من حيث كونها «تخييل جديد للأصول» بتعبير فتحي بن سلامة؟ كيف نكتشف دلالتها للوقوف على قيمتها الأدبية، والقيمية «إضاءة الكائن»، والتنويرية «كشف التعقيد»؟
معمار رواية رشدي، ثلاثة مستويات متداخلة
ربما كل قارئ للرواية يتبين له قدر من التفكك بين أجزائها، وغريب أننا لا نجد في كل من تناول الرواية من التفت لهذا ونبه إليه إلا عبد الرزاق العيد، ربما لأنه الوحيد تقريبًا إلي جوار العظم الذي اهتم لقرائتها أدبيًا، لكن بالطبع التفكك الظاهري يظهر في كثير من الأعمال والروايات الجيدة والممتازة، طالما إنه لا يصل حد التفكك الحقيقي، وهذا ما يراه العظم والعيد كلاهما، وبالنسبة لرواية رشدي فالعظم يعتبر أن فوضاها وحلميتها هي مثل فوضى وحلمية «عولس جويس»، من حيث هي فوضى غير تلقائية ولا معبرة عن عجز الكاتب بل مصنوعة ومتكلفة عبر موهبة الكاتب في الكشف عن غموض الواقع وفوضاه بتقنية سردية مناسبة وليس بالحديث عن الفوضى عبر ذات السرد التقليدي [8]، بذا يصبح حضور «الملحمة المحمدية» في رواية رشدي شبيهًا بحضور ملحمة هومير في عمل الأيرلندي العظيم، وتنسج الرواية عبر هذا التداخل في الأزمنة والأمكنة لتكون رحلة ومغامرة أدبية متكاملة.
وفي الحقيقة نحن نتفق مع العيد تمامًا في كون هذا النسج الذي يتحدث عنه العظم غير موجود في رواية رشدي، وأننا أمام وحدتين بل ربما ثلاثة لا رابط عميق ولا ناسج كاشف بينهما، رغم العلاقة المباشرة والتقاطعات بين جبريل وصلاح الدين التي تظل سطحية وعرضية.
فضلًا عن كون التفكك لا علاقة له أبدًا بالرغبة في سرد تعقد الواقع وفوضاه كما يكرر العظم، لأن هذا لا ينفي وجود وحدات تنسج النص الروائي غير وحدة الشخصية ووحدة الحدث وتناظر الفعل، والعلية البنائية التكوينية والتشارط السببي والضرورة الداخلية التي يرفضها العظم، وأيضًا لأن العلاقة والتقطاعات بين صلاح الدين وجبريل هي قائمة بالفعل في الرواية لكنها تظهر كعلاقة عرضية وتقاطعات مفككة وهذا غير مقبول مع كل ما يردده العظم عن أهمية حضور هذيانات جبريل فاريشتا في الرواية ودورها في كشف الموقف الوجودي لصلاح الدين شامشا باعتبارهما ظلين لبعضهما كما يؤكد العظم من داخل الرواية وهو ما نتفق معه.
لذا فالسؤال المفترض إجابته هنا لتحديد طبيعة بناء رواية رشدي هو أين هي الوحدة التي تضم هذا النص وتجعل علاقة صلاح الدين وجبريل علاقة حقيقية في نسيج واحد بالفعل، وليس تقاطعات عرضية، بتعبير آخر، أين هي الوحدة التي تجعل التفكك الذي يتحدث عنه العيد والذي يراه كل قارئ للرواية تفككًا ظاهريًا فحسب لا أكثر؟
ظننا أن هذه الوحدة هي وحدة الثيمة؛ «التساؤل الوجودي كفحص دائم للكلمات الخاصة (المفتاحية)»[9] وفق تعريف كونديرا لها [10]، وهي ثيمة أعلنها صاحب الرواية نفسه فيما ينقل العظم حين يقول «إن الرواية تتساءل عما إذا كان البشر قادرين على الحياة من دون إله»[11]، من هذا المنطلق فموت جبريل الذي ظل يهذي طوال الرواية متماشيًا تمامًا مع خاتمة صلاح الدين الذي أطل من شرفته في آخر مشهد لينظر لبحر العرب متمنيًا بلدوزر يهد هذا المكان كله ويقتلعه من جذوره [12]، فصلاح الدين الذي يعيش الرواية بطولها بين جدل المنفى والعودة «ككلمات مفتاحية لفهم موقفه الوجودي»، بين بلد حديث يضطهده لأنه ملون وبين بلد أصلي يشيع فيه الجهل والهذيان، يستعد لمعانقة بلده وللإجابة بـ «ها أنا ذا» على رفيقته الهندية زينات وكيل «فقط» بعد موت جبريل، فجبريل ليس شخصية يخفي وراءها المؤلف هذياناته في حيلة قديمة، شخصية لا علاقة لها بصلاح الدين حتى أنها قد تستقل كرواية جويسية أو فوكنرية كما يرى العيد، بل هي شخصية ترتبط بالموقف الوجودي لصلاح الدين عبر مفاهيم العودة والمنفى والهذيان والإله والشيطان والولادة الجديدة ككلمات كاشفة عن الموقف الوجودي للبطل.
إن جبريل شامشا هو تجسيد كل ميراث النبوة – والذي يشكل جزءًا أساسيًا من الهند الإسلامية والهندوسية التي ينتمي لها ويرتحل منها ويعود إليها صلاح الدين – بعد أن تكشف عن هرج هذيان [13] وتمشهد كزيف وبهرج [14]، لذا فموته ليس وكما يقول العيد موت شخص يهذي عن المقدس حكم عليه خالقه نفسه بالموت [15]، بل موته هو موت المقدس ذاته كمحض هذيان! موت هذا الذي يقف سدًا بين رشدي وبلده وبين بلده وبريطانيا الحلم!
على هذا الأساس فإننا نجد من الصعوبة الكبيرة وفيما يتعلق بالمستوى الثاني لنقاشنا للرواية، المستوى القيمي/ أخلاقية الرواية، أن نعتبر حضور الملمحة المحمدية في رواية رشدي حضورًا مجانيًا يمكن مقاربته عبر السؤال الخارجي عن الوظيفة الاجتماعية والفكرية لعمل رشدي كما يفعل العيد، بل الأقرب أن هذا الحضور له صلة عميقة بشخصية صلاح الدين، فنحن لا نستطيع أن نفهم موقف صلاح الدين من النبوة والحلم والرؤى، ميراث النبوة بتعبير الإيراني داريوش شايغان، إلا عبر هذه الهذيانات الجبريلية التي تضيء تمامًا موقف صلاح، فهي تكشف عن أن صلاح الدين لا يرفض هذا الميراث فحسب بل بالأحرى يحتقره كمرض وهذيان وجنون! لذا فهو لا يتمنى إصلاحه أو تنويره بل فحسب انتظار موته ذاتيًا ثم النهوض على جثته، أن يتخذه دينًا ينقِذ عبر الترك نفسه كما يقول فتحي بن سلامة في تحليل التماهي النهائي من صلاح الدين بـمحمد اليتيم [16]، إن صلاح الدين – وكما يظهر في نهاية الرواية – وكي يتصالح مع ميراث أبيه بوضوح يتجلى في «ها أنا ذا سآتي معك» فلابد أن يكون هذا الميراث بلا جبريل، بلا أحلام ورؤى، بلا هذيانات.
وهذا يذهب بنا للمستوى الثالث في تقييم الرواية وهو موقعها من التنوير والنهضة، يقيم العظم جداله عن تنويرية الرواية على أساس كونها هرطقة ضرورية من أجل نسبنة الموروث الحضاري الإسلامي ويقارن صنيع رشدي برابيليه وجويس تجاه موروثهم المسيحي، في حين يصر العيد على كون تنويرية الرواية تقوم على كونها فضاء يسمح بتعدد الأصوات، بحيث يحضر صوت التراث في الرواية بكل حقة في التعبير عن ذاته في مواجهة بقية الأصوات وهو ما لم تقم به رواية رشدي غير التنويرية وفقا لهذا التوصيف.
إذا عدنا مرة أخرى لكونديرا ولمفاهيمه التي استعنا بها هنا لإثراء هذا الجدل، فإن فكرته حول كشف الرواية عن تعقد الكائن وتعقد الوجود وصلة هذا بالتنوير يفيدنا هنا كثيرا [17]، فنجد أن أمر لا تنويرية هذه الرواية لا يقتصر على كوننا لا نجد فيها بقية الأصوات فلا نجد أمامنا سوى القضاء/ الفتوى التنويرية فتوى آية الله رشدي!! بموت جبريل النهائي فحسب، بل كذلك على طريقة عرضها لشخصيات الملحمة المحمدية وعلى رأسهم النبي محمد وجبريل الملاك، فهذه الشخصيات لم تجد من الكاتب أي عناء في تركيب صورهم ولو قليلاً كما يفترض بالملحمة التي يتكشف فيها الوضع الوجودي للبطل صلاح الدين شمشا، بدلًا عن هذا فنحن نجد أمامنا شخصيات مسطحة وساذجة وهزلية وأحادية تتحرك لتنطق بروايات الهامش الذي يستثمرها المؤلف لمقاومة المدونات التقليدية، حتى أنك في بعض لحظات القراءة تنسى أنك تقرأ رواية حديثة متعددة الأصوات وكاشفة عن التعقد وتشعر كأنك أمام تلخيص ساذج لمرويات تاريخ الطبري! أما كل ما قاله العظم عن الخفة والمرح والسخرية التي تنطوي عليها هذه الأجزاء من رواية رشدي والخاصة بالملحمة المحمدية حتى إنه يقارنها برابلييه فليست في ظننا سوى مبالغة في غاية الغرابة!
لكن الأكثر طرافة، هو أننا لو عدنا لنصوص السيرة نفسها ولقصة الآيات الشيطانية وغيرها من القصص عن الوحي مثل النصوص الواردة في حادثة الغار ومثل قصة برهان خديجة والواردتين في سيرة ابن هشام سنجد أن حتى الموريات المقبولة والرسمية في قضية النبوة فيها من التوتر والجدل وتعدد الأصوات – صوت التراث نفسه ليس واحدًا إذن – وكشف الأبعاد الشخصية للنبي ما هو أكبر بكثير مما فعلت رواية رشدي الحديثة!! لذا فإننا نستطيع اعتبار تخييل السيرة هو خيال ناجع كثيرًا في مقابل فقر شديد في خيال الروائي البريطاني، فبينما تكشف نصوص السيرة عن تعقد الوحي والنبوة وتركيبية الشخصية المحمدية فإن رواية رشدي لا تطال في عرضها سوى سطح السطح.
ولتوضيح هذا علينا قراءة قصة الآيات الشيطانية وقصة برهان خديجة حتى نوضح ما نقصد بنجاعة التخييل وكشف التعقيد الذي يظهر في نص السيرة ويغيب عن رواية رشدي.
الآيات الشيطانية بين نجاعة الخيال وفقره
ما تقوله الآيات الشيطانية عن الوحي هو ببساطة أن طريق الوحي غير مأمون، فهي تستعيد هذا الالتباس بين الإله\الشيطان وهو الالتباس الذي كان حاضرًا في الواقع الجاهلي عشية المبعث نتيجة شيوع الكهانة والسحر المرتبطة بالشيطان لجوار التبنؤ المرتبط بالله التباس الكاهن/ النبي هو التباس يستثمره رشدي كما يقول لنا العظم مرارًا، وهذا الالتباس هو الذي جعل القريشيين يسمون النبي كاهنًا وساحرًا، أي أن ما يسمعه كلامًا شيطانيًا وما يحدثه سحرًا شيطانيًا لا وحيًا أو معجزة إلهية، قام الإسلام بنفي هذا الاختلاط، عبر أرشفة الشيطان ورجمه ومنع التسمع وتقليص تصرف الشيطان في الكون والتأكيد على قوة وأمانة جبريل، وبذا تم رسم صورة الوحي الإسلامي كبيان إلهي محصن ومأمون [18].
وإذا كان الوحي ومن سوره الأولى أكد على غياب هذا الالتباس بالنسبة للنبي محمد، حيث إنه أكد على قوة جبريل وعلى تقليص حدود الجان وعلى نفي التسمع، إلا أن نص السيرة ربما تنبه لكون هذه الطمأنة الإلهية لا تنفي القلق الذي ينتاب النبي تجاه ما يسمع ويعاين، على الأقل في بدايات تلقي الوحي.
ونحن نستطيع أن نجد هذا القلق والحيرة في ماهية من يلقي وحيه الملاك أم الشيطان في الرواية الشهيرة والواردة في سيرة ابن هشام والمعروفة بـبرهان خديجة، والتي قامت فيها خديجة بحسر رأسها وإلقاء خمارها كي تختبر ماهية المتجلي للنبي هل هو ملاك أم شيطان [19]، ولا يعنينا هل القصة سليمة أم لا، بحذافيرها أم لا، فحتى لو كانت القصة بأكملها تخييلًا، فهي ليست تخييلًا مجانيًا في حقيقة الأمر بل تخييلا يمسرح هذا الشعور الذي يعانيه النبي وهذا الالتباس الذي يطال كل تجربة في مواجهة الآخر تمامًا، أي أنه تخييل يكشف تعقد الكائن عن أن الأشياء أكثر تعقيدًا مما نظن لو استخدمنا تعبيرات كونديرا.
حضور هذه القصة في بعض كتب الحديث وبتحسين بعض المحدثين لها والأهم ورودها في سيرة ابن هشام الأوسع انتشارًا وتأثيرًا، ينفي تمامًا أو على الأقل يحدد فعالية فكرة التشكيل الإيماني التبريري للسيرة ويجعل مقاومة رشدي الأدبية لكشف أدبية السيرة هي مقاومة بلا معنى وصراع في فراغ، هذا لأن هذه القصة تحمل نفس ما تحمله قصة الآيات الشيطانية من معنى عن التباس الوحي وتعقد النبوة وكونها أعقد مما قد يظنها المؤمن كزيارات ممهدة بلا التباس ومع هذا فقد استمرت في الحضور في المدونات السنية الرسمية! بل وتحديدًا في هذا النص – نص ابن هشام – الذي يحدد صاحبه نفي المشين كإحدى استراتيجيات بنائه.
لكن الفارق الوحيد بين هذه القصة وقصة الآيات خصوصا حين تحضر الأخيرة بمفردها كما عند رشدي، هو أن قصة الآيات تشمل بعدًا آخر (سياسي – عقدي)، حيث تروي حدث مساومة محمدية مع القريشيين [20]، لذا فإن اختيار رشدي لهذه الرواية تحديدًا كي تكون عنوانًا لروايته ومركزًا لملحمته المحمدية الجديدة لا يحمل إلا دلالة واحدة – بالإضافة طبعًا لوهم أن نص السيرة الرسمي هو نص لا يحمل تعقيدًا وتركيبًا وهو تصور شديد السطحية بالطبع – هي المبالغة في تسطيح الشخصية المحمدية بجمع كل ما يمكنه إظهاره بنفس الصورة الاستشراقية الأثيرة زير نساء وسياسي انتهازي يستطيع التضحية بمبادئ دينه المركزية إن كان ثمة مبادئ حتى اسمه ليس محمدًا بل ماهوند كما هي التسمية الوسوطية المشينة للنبي كمدع [21]، هذا التسطيح يجعل شخصية النبي محمد تظهر في رواية رشدي بصورة غير متناسقة وبعيدة تمامًا عن أي تركيب، حتى إننا لا نستطيع هنا الحديث عن شخصية روائية بل عن أن نقارن هذه الشخصية بماكبث شكسبير وكرمازوف ديستوفسكي وزوربا كازنتزاكيس وعبد الجواد محفوظ [22] كما يفعل العظم، بل فحسب عن بؤرة تجميع سطحي لكل الصفات السيئة، هذيانات وسياسة أريبة تحسب المكاسب بالمسطرة وادعاء نبوة لتحقيق رغبات طارئة شخص يهذي وفي ذات الوقت هو عاقل يدعي النبوة من أجل مصالح قومية وشخصية في آن!
هذه التجميعة الرشدية غير الأصيلة تفشل فشلاً عظيمًا في إظهار تعقد الوجود وتسطح باسم المرح التنويري شخصية لم يخف الإيمان نفسه تركيبيتها، مما يجعلنا نتساءل أي بعد تنويري لهذه الرواية، بل أي تنوير هذا الذي سيقوم لا على إضاءة الوجود وكشف تعقيد الكائن بل على التسطيح المطلق لكل شيء!
كرنفال التنوير
يشير العظم إشارة لافتة لبعد من أبعاد رواية رشدي هو كرنفاليتها، والكرنفالية تعني عند العظم تلك اللحظة من الزمان والمكان التي يجوز فيها الكلام بحرية مطلقة عن كل شيء مهما كان، فرواية رشدي كرنفال ساخر ومعارض وكرنفاليتها تتبدي في عناصر التمثيل والتهريج والأقنعة والتخفي والأحلام والبذاءة والضحك والمرح والعربدة [23]، نحن نريد تطوير هذا الوصف الذي يقدمه العظم لرواية رشدي عبر استحضار دلالة الكرنفال في علوم الأديان، وهذا اتساقًا مع كون إحدى الكلمات المفتاحية لرواية رشدي هي تناسخ الأرواح والولادات الجديدة، فالكرنفال/ العيد كما يصفه كايو هو طقس انتهاك غرضه تأوين الفترة السديمية الخلاقة من أجل التحضير لولادة جديدة [24]، ونحن نستطيع اعتبار رواية رشدي -ومن منظور العظم لها كرواية تنويرية – هي طقس انتهاك غرضه التحضير لولادة الجديدة if the old refused to die, the new could not be born [25]، لكننا لو دققنا ووفقا لما عرضناه منذ سطور قليلة عن غياب كشف التعقيد عن هذه الرواية ، فإننا لا نستطيع اعتبارها كرنفالاً تنويرياً بأي حال، هذا لأن الانتهاك الذي يفضي لعالم جديد يكون عبر استعادة عالم البدايات بغموضه وتعقيده وسديمه، وهو ما لا يفعله رشدي حين تقتصر هذيانات جبريل عنده على التجميع السطحي لشخصيته وشخصية محمد دون قدرة على الغوص أعمق والتقاط التعقيد ومعايشته، لذا فرواية رشدي أبعد عن الكرنفال/العيد وأقرب لرقصة شائهة على السطح!
وآيات رشدي الشيطانية أو كرنفاله الذي ليس سوى رقص فوق السطح يلخص كثيرًا من مسارات التنوير العربي والإسلامي في صلته بالدين، حيث إنه ينطوي على سطحية لا يحسد عليها تجعله يرقص على سطح الظواهر دون قدرة على الغوص فيها، وربما دون رغبة حتى، لكن سماجة هذا التنوير لا تقف عند حد الرقص فوق ظواهر تحتاج لفهم، بل إنها تتجاوز كل مدى حين تريد منا أن نحيي تلك الرقصة الكسولة على أنها طريقا للتنوير!
[1] ما بعد ذهنية التحريم، ص407 [2] ما بعد ذهنية التحريم، ص402 [3] نفسه،ص400 [4] كونديرا، فن الرواية، ص13 [5] نفسه، ص21 [6] نستطيع التفريق في سير الأنبياء بين نوعين من الحرج، حرج موضوعي وحرج طارئ، نقصد بالحرج الموضوعي هذا الحرج الذي يظل حرجًا للمؤمنين في كل عصر، أما الحرج الطارئ فنقصد به الحرج القائم على تغير السياقات الاجتماعية والسياسية ومنظومة القيم وأطر المعرفة والتي تجعل فعلاً ما يبدو حرجًا رغم عدم كونه في سياق حدوثه وتدوينه الأول يمثل أي حرج، والحرج بالمعنى الأول وحده هو الهام لما تناوله طوال هذه المقالات، لأن حضوره ورغم كونه حرجًا منذ لحظة تدوينه يحدد كثيرًا فعالية الطرح الخاص بالتشكيل الإيماني لسير الأنبياء ويؤكد على عكسها من كون الشهادة والتوثيق بعد من أبعادها الخارجية والداخلية تحتم حضور حتى الحرج في هذه السير [7] فتحي بن سلامة، الإسلام والتحليل النفسي، ص56 [8] ذهنية التحريم، ص271 [9] فن الرواية، ص88 [10] في الوصايا المغدورة يشير كونديرا لكون الخط الرئيس ومركز الثقل للرواية هو قصة جبريل وصلاح الدين وأن قصة الإسلام الملمحة المحمدية وقصة عائشة وحجاجها هما خطان تابعان، ويشير لأهمية هذين الخطين في فهم هوية الفرد وهوية الشخص كمشكلات رئيسة للرواية، ص27، لكن كونديرا لا يوضح لنا صلة جبريل وصلاح الدين ببعضهما سوى أنهما هنديان تتساكن في روحهما حضارتان هندية وأوروبية، وظننا أن هذه الصلة لا تتكشف لنا إلا عبر إدخال أبعاد المنفى والعودة والوحي والدين والإله كمشكلات رئيسة للرواية كما نحاول أن نفعل هنا.[11] ذهنية التحريم،ص224 [12] ص474، نعتمد هنا النسخة الإنجليزية التي طبعتها بينجين جروب في 1989 [13] من أعمق مواضع رد العظم على العيد هي محاولته الإجابة عن من هو جبريل فاريشتا بطل الرواية وظل صلاح الدين، وظننا ووفقًا لكثير مما يستدل به العظم نفسه، فإن جبريل هو تجسيد لكل ميراث النبوة، من هنا تركيبيته بين الشيطان والملاك وبين أوجه كثيرة للملائكة وتناص كثير من أقواله مع أسفار توراتية، لكنه تحديدًا تجسيد لكونها هزلاً وهذيانًا وهذا يتضح تمامًا في كون جبريل شامشا هو أيضًا نجم سينمائي يجسد أفلامًا لاهوتية، ما بعد ذهنية التحريم، من ص143 وإلى ص153، فهذا البعد الأخير في شخصية شامشا ليس تعبيرًا عن التعامل السيئ والتجاري من الإعلام ووسائل الدعايا مع ميراث النبوة كما يفترض كونديرا في الوصايا ص32 بل هو ما تكشفت عنه النبوة في عصرنا الحديث كمحض وهم، وهذا لأن كونديرا حين يجعل قيام جبريل فاريشتا بدور كبير الملائكة في فيلم هو مجرد إشارة للتعامل السينمائي والدعائي السيء مع النصوص المقدسة فهو يتجاهل بعد التقمص شديد الأهمية في بناء الرواية كله، فتمقص فاريشتا لكبير الملائكة يوحد بينهما ويكشف أبعاد الملاك كما يكشف القناع، فتضيع المسافة بين الممثل والدور، بين الحقيقة والتمثيل، ويغدو الكل لا حقيقة [14] الإسلام والتحليل النفسي، ص56 [15] ما بعد ذهنية التحريم، ص398 [16] فتحي بن سلامة، الإسلام والتحليل النفسي، ص55 [17] يشير كونديرا في الوصايا المغدورة لحضور هذا الكشف عن التعقد في الرواية، في إثارتها قضية حدود الخير والشر وغيومتها حتى على مؤسسي الأديان ذاتهم.ص28، ونحن قد نتفق مع هذه الرؤية وإن كنا لا نراها مضطردة في مجمل الرواية، خصوصا تصوره للنبوة والوحي البعيد عن إدراك أي تعقيد كما سنوضح.[18] انظر (الشيطان شهيدًا) الجزء الثالث [19] سيرة ابن هشام، باب مبعث النبي، والحديث أخرجه البيهقي في الدلائل وأبو نعيم في دلائل النبوة، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد وضعفه الالباني [20] لا تصمد قصة المساومة التي قام به النبي محمد مع القريشيين عبر قبول عبادة آلهتهم الثلاثة الكبرى مع الله أمام الفحص التاريخي، ونظن أن أقوى نقد قدم للقصة هو نقد التونسي هشام جعيط لقيامه على إعادة تركيب الأحداث وفق منطق مقبول تاريخيًا، وقد تناولناه مسبقًا بالشرح وعبر إضائته بمفاهيم اسمان عن الدين المضاد في مقال بعنوان جعيط ناقدًا للاستشراق [21] يقرأ العظم الجزء الخاص ببيت حجاب والذي أثار الجدل بل الحنق الأكبر، على أنه محاولة من بعل الشاعر الجاهلي الانتقام الرمزي من محمد عبر فضح حريم بعل المسميات على أسماء زوجات محمد، وظننا أن العظم بقراءة كهذه يهدر دلالة القناع والتنكر والتقمص الذي تحدث عنه طويلا وطويلاً كشيء ربما يستحق الثمين في ذاته! بدلا عن هذا فنحن نريد أن نذهب بهذه الدلالة لمداها ووفقا لما تقوله الرواية بالفعل عن إن كل واحدة من نساء بيت حجاب ظنت بالفعل أنها زوجة النبي التي تقوم بتمثيل دورها لعبا وأصبحت تتصرف على أساسه، حين نقوم بهذا سنجد أن التقنع هنا يصل حد التقمص الحقيقي الذي يؤدي للكشف عن شخصية المتقمَص، ولأن المتقمَص هنا زوجات النبي متخفين وراء الحجاب، يصبح تقمص وتنكر بعل والذي يتمقص دور محمد أيضًا وعاهراته هم تقنية روائية غرضها أن تتسل عبر التقمص لما وراء الحجاب وتكشف عن شخصيات زوجات النبي وعلاقة النبي بهم، وعبر هذه التقنية يكمل رشدي كتابة ملمحته المحمدية وفقا لأردأ تصورات الاستشراق بل والتصورات الأوروبية الأكثر شعبوية على الإطلاق.[22] ما بعد ذهنية التحريم، ص55 [23] ذهنية التحريم،ص 245 [24] روجيه كايو، الإنسان والمقدس، ص154 [25] هذا المقطع غير موجود في الترجمة العربية الموجودة على الإنترنت، وهي ترجمة لا يظهر فيها جهة نشر أو اسم مترجم، وربما هي نفس الترجمة التي تحدث عنها العظم في رده على العماد مصطفى طلاس في تمهيده لما بعد ذهنية التحريم، لتشابه المقاطع فيها مع المقاطع التي ذكرها العظم، وهي وفقًا له ترجمة تمت في دمشق، وربما هي نفس الترجمة التي قال عنها طلاس أنها أنجزت ووجدت ضعيفة فلم تنشر .