تعرضت الهالة التي أحاطت بالقوة القتالية للأكراد للانهيار بعد هزيمتهم المنكرة في عفرين وانسحابهم المفاجئ وترك المجال أمام تقدم الجيش الحر المدعوم من تركيا. لاذت وحدات حماية الشعب الكردية بالفرار تجاه مدينة سنجار على الحدود العراقية السورية. ارتبط تاريخ تحرير عفرين بذكرى انتصار العثمانيين في معركة «جناق قلعة» على الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، حيث ظنت الأخيرة أنها أنهت القوات العثمانية بالكامل على الجبهة، وبدأت إنزالًا بحريًا واسعًا في 18 مارس/ آذار 1915.

لكن خاب ظنهم، وكان هذا الإنزال بمثابة الكارثة الكبيرة بالنسبة لهم. قُتل 300 ألف جندي من الحلفاء الذين كان عددهم الإجمالي 490 ألفًا، بينما قُتل 250 ألف جندي من الجيش العثماني الذي كان عدده الإجمالي 315 ألف جندي. وتحت نشوة الذكرى والانتصار أعلن الرئيس التركي أن قواته العسكرية تدك مدينة سنجار، للقضاء على التنظيمات الإرهابية هناك. ليجد الأكراد أنفسهم بين فكي التخلي الدولي عنهم في عفرين، ورغبة تركيا في التخلص من خطر تأسيس دويلة انفصالية على حدودها الجنوبية إلى الأبد.


تل رفعت: ثمرة غصن الزيتون الناضجة

خريطة النفوذ في شمال سوريا 30 آذار/ مارس 2018

أحسّ السوريون بخيبة أمل بعد شعورهم بأن عملية غصن الزيتون تستهدف الوجود الكردي في عفرين فقط، وأنها لن تستكمل تحرير مدينة تل رفعت المحتلة منذ عامين من الأكراد المدعومين روسيًا، إبان انشغال المعارضة بقتال تنظيم الدولة.

هدد الأهالي بالتظاهر إذا لم يستجب لهم، وظهرت كتابات في الشوارع تحض عناصر الجيش الحر على تحرير مدينة تل رفعت تحت وسم غضب الزيتون. اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي لتأييد تلك الدعوة . وتولد الغضب الشعبي بالدرجة الأولى من قبل قرابة 250 ألف سوري من أصول عربية هجرتهم وحدات حماية الشعب من مناطق سكنهم في تل رفعت ومحيطها، وما زالوا يعيشون التهجير بظروف صعبة جدًا.

وبالفعل أعلن الرئيس التركي أن الهدف المقبل لغصن الزيتون هو تحرير مدينة تل رفعت. وقد تضاربت الأنباء التي تحدثت عن تحرير المدينة، إذ نشرت بعض المصادر المحلية التركية أخبارًا عن سيطرة قوات المعارضة على مدينة تل رفعت عشية إعلان أردوغان، وهو ما كذبته شبكة المرصد السوري التي أكدت سيطرة الجيش الحر على نقاط محيطة بالمدينة فقط، لكنه لم يدخلها، ولم يسيطر على مطار منغ، وهو ما أكده الناطق باسم الأكراد، الذي وصف الأخبار التركية بأنها تأتي في إطار الحرب الإعلامية النفسية.

ويبدو أن هناك رفضًا إيرانيًا لأي اتفاق تركي روسي فيما يخص تل رفعت، لأنها تقع على طريق استراتيجي بين مدينتي عفرين ومارع التي تُعتبر معقلًا رئيسيًا للمعارضة المسلحة شرقًا، ويمكّن الاستيلاء عليها من الربط بين مناطق المسلحين في عفرين ومارع.

إذا تمكنت تركيا من تحريرها، بالتفاهم مع روسيا، نظرًا لحاجة الأخيرة إلى الأولى من جهة، ولرغبة روسيا في تجديد توتر الأجواء بين أنقرة وواشنطن التي تسيطر على منبج من جهة أخرى، فسيحقق تحرير تل رفعت عدة أهداف؛ أهمها استمرار ولاء قوات درع الفرات وغصن الزيتون لتركيا لاستكمال الحرب على الأكراد، ما سيجدد مصداقيتها لدى الأهالي. إلا أن الأهم من ذلك موقع مدينة تل رفعت الاستراتيجي، الذي سيسهل على تركيا تحرير منبج آخر معاقل الأكراد في غرب الفرات. ومن ثم القضاء تمامًا على فكرة فرض الواقع بالدولة الكردية الواصلة بين ضفتي الفرات.


الحرب الباردة تفرد راحتيها للتقدم التركي

تقع تل رفعت على الطريق الواصل بين معاقل المعارضة المسلحة غرب الفرات، ما يسهل في المستقبل الحرب على الأكراد المدعومين أمريكيًا في منبج

اشتعلت الدول الغربية غضبًا بعد الهجوم الكيماوي الروسي على لندن، بمحاولة اغتيال الأولى للعميل الروسي سكريبال المسجون في أحد سجون إنجلترا. وعلى إثر ذلك طرد حلف الناتو سبعة دبلوماسيين روس من مقر الحلف، ورفض إعطاء ثلاثة آخرين تصاريح للعمل ضمن البعثة الروسية. وكانت أكثر من عشرين دولة، وفيها الولايات المتحدة، قد اتخذت تدابير مماثلة شملت طرد أكثر من مائة دبلوماسي روسي.

أكد الرئيسان الفرنسي والأمريكي في محادثة تليفونية ضرورة تكثيف التعاون مع تركيا ضد الصعوبات الاستراتيجية المشتركة في سوريا، لاسيما الخطر الروسي. وقعت بولندا أكبر صفقة لشراء أسلحة في تاريخها، إذ اتفقت مع الولايات المتحدة على شراء منظومة صواريخ «باتريوت» التي تنتجها شركة «ريثيون» بقيمة 4.75 بليون دولار، وذلك في إطار تحديث قواتها في مواجهة روسيا. كانت بولندا وعاصمتها وراسو أحد أهم معاقل الوجود السوفيتي في الماضي، والتي يدور حولها صراع روسي غربي؛ حيث يحاول الناتو تقوية أعضائه، مذ قيام الروس بالسيطرة على شبه جزيرة القرم في 2014.

في ظل الأجواء المتوترة بين روسيا ودول أوروبا تبرز أهمية تركيا، وتستفيد الأخيرة من هذه الأجواء بإنفاذ مخططها للقضاء على الوجود الكردي على حدودها

وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه أن يصبح لاعبًا دوليًا بدون بلاده. إن تركيا تتفهم حاجة أمريكا والغرب لها، وهي تتصرف على هذا الأساس، وهو ما يفهم من عدم حدوث معارضة حقيقية من الأخيرة ضد عمليات غصن الزيتون.

لذا عندما أعلن أردوغان عن بدء عملية عسكرية في سنجار العراقية، كان رد فعل وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس تأكيده أهمية الأمن القومي التركي، وأن التحرك الأخير نتيجة قيام حزب العمال الكردستاني (الإرهابي) بقتل الأبرياء من الأتراك. أى إعطاء الضوء الأخضر والشرعية لهذا التحرك، رغم إدراكهم جميعًا استحالة حدوث عملية عسكرية موسعة، وأن الأمر لا يعدو كونه تهديدًا للضغط على الأكراد للانسحاب من سنجار نحو جبال قنديل، وعودة القوات العراقية لتأمين المناطق الحدودية بين بغداد وأنقرة. وهو ما أكده رئيس الوزراء التركي يلدريم في اتصاله مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي.

تحرك تركيا في سوريا يعود لأسباب عديدة، أهمها سياق الحرب في سوريا، بجانب وجود قوات برية موالية لها، أما في الحالة العراقية فلا يتوفر لها ذلك، فضلًا على وجود تبادل تجاري قوي بين تركيا والعراق، وصل إلى ما يزيد على 12 مليار دولار.

تحاول واشنطن حل خلافاتها مع أنقرة بعد الزيارة التي قام بها الوزير المقال ريكس تيلرسون، حيث تم الاتفاق على تشكيل آلية عمل مشتركة لمناقشة الخلافات القائمة بين البلدين. وتشمل الآلية إنشاء 3 أفرقة عمل ثنائية، يُعنى أولها بقضية تنظيم فتح الله كولن الذي يقيم في الولايات المتحدة. يرتبط الفريق الثاني بالملف السوري، حيث سيقوم ببحث كيفية التزام واشنطن بتعهداتها التي قطعتها لتركيا حول منبج. أما الثالث فيهتم بمسألة الحرب المشتركة ضد منظمة بي كي كي الإرهابية.

تعرض المشروع الكردي للانحسار بعد قراره المتهور بالاستفتاء على إعلان استقلال إقليم كردستان العراق، ومنذ ذلك الحين يتعرض لانكسارات متتابعة، ويبدو أن حاجة الغرب لتركيا في المرحلة المقبلة ستكون وبالًا على ذلك المشروع الانفصالي.