صعود الدولة ونهاية الدعوة
“إن أبرز مناصري النظرية الكامنة وراء هذا الأمل؛ أن يصبح الراديكاليون أكثر تعقُلًا بعد توليهم الحكم هو، للمفارقة؛ جورج دبليو بوش نفسه. هذه القناعة هي التي دفعت بوش إلى الإصرار، في ديسمبر2005؛ على الانتخابات الفلسطينية، مع أن الفلسطينيين والإسرائيليين قد حذروه من فوز حماس. فأجاب بوش بأنه من المفيد لحماس أن تحكم، و تصير عُرضة للمحاسبة من قبل الشعب”. – مارتن إنديك، مدير مركز سابان في معهد بروكنغز وسفير أميركي سابق لإسرائيل؛ مجلة نيوزويك العربيّة، 10 يوليو 2007.
نظريًا؛ تقع الدول والحركات على طرفي نقيض، أو، لنكون أكثر دقّة؛ على طرفي طيفٍ لا يُمكن معه الفصل بينهما فصلًا كاملًا في الواقع، وإن أمكن تمييزهما وتمييز تجلياتهما بسماتٍ تُميِّزُ كلًا منهما. وربّما جاز لنا استخدام لفظتي اليمين واليسار، ببعض ظلال المدلول السياسي التقليدي؛ في توصيفهما. فالدول بطبيعتها تقع في أقصى يمين الطيف المحافِظ والأكثر صلابة وجمودًا وتمسَّكًا بالوضع القائم أيًا كان، بينما تقع الحركات بتعريفها في أقصى يسار الطيف المُعبِّر عن الراديكالية والاندفاع والتجدُّد ورفض الواقع المُتردّي. وهو ما ينطبق على القاسم الأعظم من الدول والحركات/الدعوات، وإن كان لا يعني بضرورة الحال أن الدول والحركات هي “مقامات” نهائيّة أبديّة لا تتغير؛ فما أيسر تحوّل الحركات إلى دول (ثورة إيران الإسلامية أنموذجًا)،وما أيسر تحطُّم الدول حين يحق عليها القول لتتبلور حركات جديدة من شظاياها (الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا أمثلة). رُبّما لهذا نجد صورة الطيف أكثر مقدرة على التعبير عن الصورتين وتنويعاتهما؛ فبعض الحركات قد تتكلَّس بنيتها فتصير أقرب للدول من حيث إخلادها إلى الأرض، وهو ما يَنتُجْ إما عن شيخوختها وتحوّلها لبنية هرميّة حزبيّة صلبة أو اندماجها خوفًا/طمعًا في بنية الدولة وهرميتها الصلبة، وهو ما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي، وجماعت إسلامي في شبه القارة الهنديّة؛ إذ دُمجت شظاياهما في أنظمة مجموعةٍ مُتنافرة من الدول القوميّة القُطرية؛ فنقلتهما هذه الصورة الحزبيّة إلى مواقع أكثر صلابة ومحافظة، بل ورجعيّة؛ من أنظمة الدول التي يعملون داخلها. وبعد أن بدأتا كحركتين تجديديتين شابّتين تضجّان حيوية؛ إذا بهما وقد تكلستا إلى مجموعة من الأحزاب السلطويّة الرجعيّة بلافتات إسلامية تفتقد لأهم تجلّيات المرجعيّة الإسلاميّة المدّعاة: عالميّة الدعوة والحركة. إذ تشظَّت الحركتان إلى عدة أحزابٍ قُطرية ترفُض البُعد العالمي ضمنًا، انهمامًا بالسياسة القُطريّة؛ فخرجت من عباءاتهما حركات أخرى أكثر راديكالية وعالميّة، وإن كانت رؤيتها جميعًا تُعاني قصورًا وتشوّهًا من نوعٍ مُختلف. لقد صار همّ الحركات القديمة، التي تكلَّست في تنظيماتٍ هرمية؛ هو دخول الناس في تنظيماتها أفواجا، وليس دعوتهم لقيمة مُجرَّدة تُجسِّدها حركتهم الإنسانية والاجتماعية (دخول الناس في دين الله أفواجا). لقد انتكست الدعوة في هذا النموذج لتصير هي الجماعة، وتضخَّمت الجماعة لتُمسي هي الأمة. هذا الغلو الحزبي الواضح، الذي يُشبه غلو الأزهر الأشعري والكنيسة الكاثوليكية؛ قابله غلوٌ من نوعٍ آخر من التنظيمات الأكثر راديكالية التي خرجت من عباءتي التنظيمين الكبيرين. إذ قوبل كل تهميشٍ ارتكبه التنظيمان لعناصر إسلامية في أيديولوجيتهما الجديدة؛ قوبِل بتضخيمٍ ومبالغة من الحركات/الجماعات الأصغر والأكثر هامشية وراديكالية. وبعبارةٍ أخرى؛ أثمر كُل تفريطٍ إخواني إفراطًا جهاديًا/تكفيريًا/سلفيًا/صوفيًا … إلخ، وقُل مثل ذلك عن جماعت إسلامي في شبه القارة الهندية.
…..
إن الحركة الإسلامية بالأصل هي قاطرةٌ المجتمع المُسلم؛ تتحرَّك به أفقيًا وتنساح مُتفلِّتة من قيود الجغرافيا مع التزامٍ واعٍ بحدود التاريخ. حركة اجتماعيّة فوق سطح الأرض كلها، تبتغي في نهاية الأمر دعم تزكية الفرد المسلم لنفسه؛ ليصير كل مُسلمٍ بذاته دعوة متحركة، وهي في ذلك أقرب وجدانيًا لأنظمة البداوة والترحال. أما التنظيم الهرمي الذي تنتكس إليه الحركات حين تبدأ بالتصلُّب فهو وجودٌ سكوني أصلًا؛ هرمٌ ثابت راسخ يلزمه الاستقرار على بقعة معينة من الأرض ليُسجن في الجغرافيا ولو سعى، نظريًا؛ للتمرُّد على قيود التاريخ، مُتوهِّمًا قُدرته على إقامة فردوس أرضي (طوبيا). صحيح أن كل حركة مآلها للتوقُّف الهرمي (راجع مقالنا السابق: بين النظام والثورة)، لكن الكارثة أن تبدأ الحركة أصلًا وهي مُعلَّقة البصر بذلك الهرم باعتباره هدفها المبتغى. إذ أن أهم ما يُميِّز الحركة الإسلامية عن غيرها من الحركات هو وعيها بأنه حتى إن كان السكون/البرودة مآلًا لا مفرّ منه في هذه الدنيا، فهو ليس وجودها الأمثل؛ بل يجب أن تجتهد في تأخير وصولها إليه قدر استطاعتها، ففي طيّات ترفه المؤسسي ستجد نهاية دعوتها.
ويجب على الحركات الإسلامية أن تُدرك كمون هزيمتها في تحقُّقها كدولة/حزب/تنظيم هرمي مغلق، وتَعلُّق النهاية الحقيقية لدعوتها بهذا التوقُّف عن الحركة العالمية، والتمركُز حول الجغرافيا/الدولة؛ الذي يؤدي تدريجيًا لتجاهُل قيود التاريخ، وبدء وهن صلتها بمركزها الدعوي الكائن خارجه: الوحي الإلهي. إن الهزيمة الحقيقية ليست هي فقر موارد الحركة، بل هي تُخمتها وتعلُّق قلبها بغنائمها وتزايُد إنجازاتها الماديّة التي تُثقل حركتها. إذ لا تكمُن هزيمة الحركة في الغنيمة بحد ذاتها، بل في تعلُّق القلب اللازم بتلك الغنيمة، الذي يتكوَّن بطول صُحبتها. إن هزيمة الفقير طمعًا في الغنيمة تكون مؤقتة، مثلما حدث في غزوة أُحُد؛ وذات طابع تربوي إنذاري في الغالب. لكن هزيمة المترَف لتعلُّق قلبه بالغنيمة/الدنيا هي هزيمة قاصمة؛ كما وقع لمسلمي الأندلس في بواتيه (بلاط الشهداء). الأولى هزيمة تقويم والثانية هزيمة استبدال.
وإذا كانت الحركة بطبيعتها تتدفَّق في الأرض بقوّّة كما حدث في فتوحات الراشدين الدعويّة، فإن الدولة المستقرِّة المثقلة بالإنجازات أبعدُ ما تكون عن تلك القوة والفعاليّة الدعويّة، ولا يُمكن لمُنصفٍ مقارنة فتوحات الراشدين شبه المُعجِزة بانعدام فتوحات العباسيين في المشرق أو الأمويين في الأندلس، إبّان ما يُعتبر “ذروة” الحضارة الإسلامية. وبرغم ذلك؛ لم تكُن فتوح الراشدين هدفًا بحد ذاتها، ولا كانت من ورائها قوّة إمبريالية توسُّعية شرهة كما حدث بعد انتكاس الخلافة إلى مُلكٍ عضوض، بل كان أزهد الناس في الفتح إمامٌ في قوة وعدل وحكمة عمر بن الخطاب. لكن الفتح كان مركب الدعوة الضروري لتقويض الطواغيت، الذين يحولون دون انسياح رُسل الدعوة في الأرض؛ كما تُظهر إجابة ربعي بن عامر لرُستم قائد الفُرس. ولا يُمكن من ثم مقارنة فتوحات عُمر بتوسُّعات الرشيد أو المعتصم أو سليم العثماني أو اسماعيل الصفوي أو محمود الغزنوي أو غيرهم. لقد كان الدافع جد مختلف، والمآل كذلك. فمثلًا تعرَّبت كل الأقطار التي فُتحت في عهد الراشدين طوعًا، ودخل كثير من سكانها في دين الله أفواجا، وذلك بعكس الأكثرية العظمى من فتوحات الملوك وسلاطين الجور بعد ذلك؛ التي أدت غالبًا لإحياء النعرات المذهبيّة، واستعادة خطاب الجاهليّات القومية/الشعوبية، وتذكية النزعات الانفصالية، وفرَّقت ألسنة المسلمين وقلوبهم.
إن شباب الحركة الإسلامية الأولى وقدرتها البادية، التي جسَّدها الاتساع السريع للفتوحات الراشدة؛ كان يعني تخفُّف الدُعاة من كل متاع الدنيا تسليمًا لقيمة تشرَّبتها القلوب، فتجسَّدت في سلوك الحركة زرافات ووحدانا: التوحيد. كان التوحيد وحده هو حادي الحركة المُتجرِّدة المُجرَّدة من كل متاع، في حين كانت أديان الملأ والشرك، التي يتسلَّط بها الطواغيت على عباد الله في سائر البقاع المنكودة؛ مُثقلة بتجسُّدٍ مادي داخل الجغرافيا وتحقُقٍ نسبي للقيم التي بُنيت عليها تلك الدول. إن العبوديّة لقيود الجغرافيا والتعدّي على الحدود التاريخية، الذي يَسِم كل الدول في ذُرى ازدهارها؛ لا يتحقق إلا على أنقاض الدعوات، إذ لا تدوم حياة وفعاليّة الدعوة بغير تحلُلٍ تام من قيود الجغرافيا مع التسليم الراسخ بالحدود التاريخية للإنسان وقُدراته وطبيعة مهمته في الأرض. وحينما يعتقد المجتمع المتحيِّز جغرافيًا أن القيم التي استقر عليها هرمه قد تحققت فيه تحقُّقًا نهائيًا، وأنه قد أوشك على بلوغ الفردوس الأرضي (الطوبيا)؛ فإنه يكون قد انتكس لعبادة إنجازاته وبناه ونظمه، متجاوزًا القيم التي يُفترض أن تُمثِّلها تلك الإنجازات؛ لتصير الدولة/التنظيم التي تُجسِّد القيم المُدّعاة معبودًا ومعبدًا. ويثقُل المجتمع حينها تمامًا بإنجازه الدنيوي الموهوم، الذي يعتقد ضرورة الذياد عنه أبدًا كأنه الدعوة نفسها. يثقُل بحضارته كما ثَقُل بدرعه الحديدي الكامل، المعقَّد والمتقن الصنع؛ الذي يمنعه تقريبًا من الحركة. في هذه اللحظة يصير المجتمع في أضعف حالاته؛ صحيح أنه مُحاطٌ بدرعٍ ثقيلٍ متين، إلا أنه شبه عاجز عن الحركة والمناورة به، ليصير لخصمه غير المتدرِّع مزية لا تُنكر وقُدرة فائقة على الكر والفر والضرب حتى الإنهاك التام. فإذا ما خلع المتدرِّع درعه مُتخففًا؛ صار هدفًا سهل المنال، ليس لأنه أُنهِك فحسب؛ بل لأنه فقد بمرور الوقت القدرة على القتال الحقيقي اعتمادًا على مناعة درعه.
إن الحركة الإسلامية لا تنساح بخفةٍ لأن قيم الوحي الحاكمة هي حاديها المجرَّد والمتجرِّد فحسب؛ بل لأنها مُتخفِّفة كذلك من الإنجازات الدنيوية وأوهاق الحضارة الماديّة وتبعات التحقُّق التاريخي المرتبط بجغرافيا مُعيّنة. تتحرَّك بدافع من إيمانها بقيمة إلهيّة تتطلَّع إليها؛ قيمة تُدرك أن تجسُّدها في الواقع/التاريخ محدود، وأن السعي لتحقُّقها هو ما تُعبِّد به بنو آدم؛ السعي في كل الأرض. أما الدولة فهي حين تتحرَّك مُثقلة، وعلى مضض؛ تجُر خلفها تاريخًا من الإنجاز مع جغرافية مُعقَّدة لمتاعها الدنيوي، إنها تتحرَّك بأبنيتها وحجارتها، ومصانعها وحضارتها، وسياستها واقتصادها. وإذا كانت الإنجازات تدفع بالطاقة إلى أوردة الحركة لتُغذّيها؛ فإن تراكُمها كالدهون في الجسد هو الذي يقعُد بها، ويُثقل حركتها، ويهبط بها لدرك الدولة. إن الدولة هي حركةٌ أُتخمِت من الدنيا، وتفلَّتت من واجب الدعوة بقدر تُخمتها. تفلتت من هذا الواجب لحساب ما ابتكرت من أنظمةٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية وقانونية تقتضي الإخلاد إلى الأرض، بالتفلُّت من واجب الدعوة؛ لتستقر ممارساتها. صحيح أن الدولة قد تقوم لفترة على واجباتها في “حراسة الشرع” أو في الدعوة إلى مذهبها؛ إلا أنها تفعلُ ذلك بميلٍ مُحافظ تتسم به طبيعة البنية المستقرِّة نفسها، ببقايا طاقتها الكامنة من الاندفاعة الأولى، وليس بحرارة الاعتقاد التي كانت تدفع الحركة في طورها الأول. فجُلّ قوة الدولة تكمُن في بنيتها، أما الحركة فمصدر قوّتها هو حاديها المُجرَّد المتجاوز لوجودها؛ الأولى رصيد طاقتها مؤقت محدود ومتمثل في الشحوم التي تراكمت في جسدها، أما الثانية فإن طاقتها تتجدد باستمرار ما دامت تحوم حول أصل مُعتقدها، المتجاوز لبنيتها وتاريخها؛ مُستدفئة به. لهذا؛ كان تحطُّم الدول أيسر كثيرًا من تحطُّم الحركات، فالنيل من بنيةٍ راسخةٍ أيسر كثيرًا من النيل من مُعتقد حركةٍ من الحركات، بل إن الحركات قد تكتسب طاقة إضافية إذا أحدقت المخاطر بمُعتقدها.
إن الدولة ليست نهاية الدعوة فحسب، بل إنها قد تطرد للانسلاخ من الملة والمروق من الدين جُملة؛ في سبيل الحفاظ على المكتسبات والمصالح الدنيوية التي تسبغ عليها شرعيّة دينية، وهو تطوّر سوسيومعرفي يحدُث غالبًا بغير وعي، وإن كان مدفوعًا بحرصٍ واضح على ما حُصِّل من متاع. ساعتها تصير الدولة/التنظيم كنيسة حقيقية؛ لا حقيقة سواها ولا خلاص خارجها، بل وتصير في روع أهلها نقطة ميتافيزيقية مٌتجاوزة للتاريخ، برغم وقوعها في أسر الجغرافيا واستسلامها لقيود السياج والمرعى كالأنعام. وبعد أن كانت الجغرافيا مجرد بقعة،كغيرها؛ قد تصلح لبناء الهرم واستقراره، تصيرُ مُطلقًا مُتجاوزًا للتاريخ ونواميسه (وموضعًا لحلول المقدَّس وكمونه)؛ لتخمُد الحركة العابرة لأسيجة الجغرافيا في سبيل حركة متوهَّمةٍ وعبثيّة لتحطيم قيود التاريخ وبناء الفردوس الأرضي. لقد تجسَّدت القيم في البنية الهرمية المتحيّزة جغرافيًا، بقدرٍ؛ فانعدمت في روع المجتمع من ثم كل حاجة للحركة. بل نُحيِّت القيم المتجاوِزة نفسها، ولو بشكل غير واع؛ لحساب عجرفة البنى والمؤسسات وهرميتها الوثنية، وانتكس الإنسان لعبادة ما نحتت يداه؛ لا فارق بين دولة “إسلامية” حديثة أو نظام سياسي آخر يدعي تجسيدًا للإسلام.
…..
ومن أكثر الأمثلة شيوعًا للخلط، بين الحركة الاجتماعية بالدعوة الإسلامية كفريضة توقيفية تُعبِّد بها كل أحد، وبين الدولة كمطلبٍ توفيقي لا يجب أن يشغل أي حيِّز في أفق الحركة، ناهيك عن شغل موضع الغاية؛ هو الخلط بين الخلافة باعتبارها وظيفةً إنسانيّة واجتماعيّة ضروريّة، وبين الأوهام التي انحدرت إليها تصوّرات المسلمين عن الخلافة؛ باعتبارها مفهومًا نظريًا ساكنًا تتولَّد عنه بنية سياسية واجتماعيّة متوهَّمة. وأحد أهم أسباب هذا الخلط على الإطلاق هو تدثُّر الملوك الجبريين والطواغيت، من الأمويين والعباسيين والعثمانيين وغيرهم؛ بمُسمّى الخلافة زورًا وبُهتانًا. وهو الخلط الذي أوهم معه جمهور الأمة أن الخلافة بنية سياسية واجتماعية تُشبه بعض بنى الملك التي اصطلاها المسلمون بعد الخلافة الراشدة. والحقيقة أن الخلافة وظيفة إلهيّة تُعبِّد بها كل مسلم نيابة عن رسول الله، وهي لا ترتبط ببنية مُعينة ولا شكلٍ مُحدد من النُظم القديمة أو الحديثة، ولا حتى ببنية مُفترضة ورثناها من الراشدين؛ بقدر ارتباطها بمجموعة من القيم الحاكمة التي جسَّدتها الحركة الدعويّة للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الأربعة عليهم رضوان الله. أما ما عدا ذلك من المفاهيم والأوهام النظريّة الساكنة، التي تراكمت في عقول المسلمين وتفاقمت محاولات “تنزيلها” في العقود الأخيرة؛ فلا علاقة لها من قريب أو بعيد بتلك الوظيفة.
إن وعي الغرب بخطورة الحركات التي ليس لها أجساد ولا رؤوس ولا مصالح ماديّة يُمكن ضربها، أو التفاوض حولها؛ هو بطبيعة الحال وعي لا يقتصر على الحركات الإسلاميّة فحسب، وإن اكتسبت الأخيرة (خصوصًا الأكثر راديكالية منها) بعض خصوصيّتها من مرونتها الفائقة وقُدرتها على التجدُّد والإثمار في كل مكان مثل الفِطر، حتى إن كانت الثمار مُرَّة أو سامّة بمعايير الإسلام. هذا العداء للحركات الحُرّة غير المرتبطة بالجغرافيا مرجعه لانعدام قُدرة الغرب، ووكلاؤه؛ تقريبًا على هزيمتها وتقويضها، برغم ما أوتوا من أدوات وتقنية وقوة عسكرية ضاربة. لذا؛ فإن أول ما يسعى إليه كل نظامٍ سياسي في مواجهة أية حركة تجديدية هو محاولة احتوائها ودمجها في نظامه، ولو في هامش “المعارضة” الرسميّة؛ المهم ألا تبقى خارج النظام بغير مصالح ومُكتسبات تسمح بابتزازها عند اللزوم، وهو ما يُسمّى “الاعتدال بالدمج”؛ أي نزع فتيل الحركية والراديكالية بدمج الحركة في نظام مستقر، وتحوّلها لحزبٍ مُعارض. من ظاهرة حركيّة إلى ظاهرة صوتيّة.
وقد نجح الغرب في تدجين كثير من الحركات بدمجها، أو بعض قطاعاتها؛ في النظم التي أقامها. وما حكومة شيخ شريف أحمد (الراديكالي السابق!) الصوماليّة عنّا ببعيد. وقد ظلَّ تنظيم القاعدة، والجيوب الجهادية الأصغر؛ يُمثِّلُ إزعاجًا حقيقيًا للغرب والعالم حتى ظهور تنظيم الدولة المسمّى “داعش”. وبغض النظر عن موقفنا من أيديولوجيات القاعدة والجهاديين بشكل عام؛ فإن داعش تبدو لحظة نماذجية حقيقية للأيديولوجيات الجهادية. هي نماذجيّة لأن بناء دولة “حقيقية” بهذا الحجم للجهاديين، ولو لشهور؛ يعني وصول (أم دفع؟!) القطاع الأكبر من الأيديولوجيات الجهادية لنقطة الذروة، وبداية مرحلة تآكل الألق الجماهيري، الذي تنامى منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين؛ حين تبدأ مآسي التكلُّس الدولتي بالظهور واحدة تلو الأخرى. إن أزمة داعش الحقيقية ليست في أنها حركة حداثيّة مُعادية للتاريخ والإنسان فعلًا، ولا في أن دولتها تعني نهاية المد الجهادي العالمي الذي بدأ مع غزو السوفييت لأفغانستان وبلغ ذروته بغزو الأمريكان للعراق، وهو ما سيُفيد منه الغرب بدون شك؛ بل إن أزمتها الحقيقية هي توهُّمها أنها قاب قوسين أو أدنى من الفردوس الأرضي، والذي لن تكتشف أنه جحيمها إلا حين تصطليه. نسأل الله العافية.