لمدة 30 عامًا، عمل بيتر بيرجن على تغطية كل ما يتعلق بالجهاديين، وبصفة خاصة أسامة بن لادن، إذ كتب عنه بيرجن في مقالات عدة وأكثر من 4 كتب معتمدًا على لقاءات ميدانية ومعلومات استخباراتية أمريكية.

آخر ما كتبه الصحفي الأمريكي هو «صعود أسامة بن لادن وسقوطه». في هذا الكتاب، يعتمد بيرجن على 470 ألف وثيقة وصلت إليه بطريقة لم يوضحها بيرجن، لكن الوثائق هي نفس الوثائق التي عثرت عليها القوات الأمريكية في مخبأ بن لادن بعد اغتياله.

صعود أسامة بن لادن وسقوطه - بيتر جرين
«صعود أسامة بن لادن وسقوطه» – بيتر جرين

يبدأ بيرجن مع أسامة منذ طفولته، فيحكي ما هو معروف مسبقًا من أن أسامة كان طفلًا بين 55 أخًا أنجبتهم زوجات أبيه. كان أسامة شابًا ثريًا متدينًا رحل إلى أفغانستان ليقاوم الاتحاد السوفيتي. لكن الوثائق تكشف أن أسامة لم يكن وثيق العلاقة بوالده، ولم يزره أسامة إلا مرات قليلة. كما أُرسل أسامه في شبابه إلى المدرسة الصيفية في أوكسفورد، كعادة أبناء الصفوة من الطبقات العليا في مختلف دول العالم.

في فترة المدرسة الصيفية تعرّف أسامة على فتاتين من إسبانيا وصار صديقًا لهما، كما اعتاد ممارسة التجديف في نهر التايمز، وزار أيضًا ستراتفور أون فون، باعتبارها وجهة سياحية عالمية لأنها مسقط رأس الكاتب المسرحي العالمي وليم شكسبير.

ينقل لنا الكتاب تغيّرًا في شخصية ابن لادن، دون توضيح ما وراء هذا التغير، في عمر السادسة عشرة، حيث ترك أسامة بريطانيا وعاد لبلاده. تركها وفي داخله قناعة بأن البريطانيين منحلّون أخلاقيًا. وبعد العودة لبلاده بعام، تزوج أسامة من ابنة عمه التي كانت تبلغ آنذاك في عمر 15 عامًا. كانت الفتاة هي الغصن الأول في شجرة العائلة التي أسسها ابن لادن، والتي تكونت لحظة قتله عام 2011 من 5 زوجات تترواح أعمارهن بين 28 عامًا و62 عامًا، وتتكون من 24 ابنًا وابنة تتراوح أعمارهم ما بين 3 أعوام و35 عامًا.

زوجتان تحملان دكتوراه

يروي بيرجن أن أسامة اعتاد أن يأمر بفصل أبنائه الذكور عن الإناث متى بلغوا 3 سنوات، واعتاد أمر الفتيات بالخروج من الغرفة إذا لاح أي رجل في الأفق، حتى أنه كان يطلب منهن مغادرة الغرفة حين يشاهد التلفاز كي لا يشاهدن الرجال، على حد رواية بيرجن.

لكن أيضًا كانت اثنتان من زوجات ابن لادن يحملن درجة الدكتوراه، واحدة في علوم القرآن والأخرى في علم نفس الأطفال. كانتا من كبار مستشاري ابن لادن، واعتمد عليهما كثيرًا في كتابة خطاباته العامة، والعمل على تحسين صورته في الدعايا وفي الوعي الشعبي. كما كشفت الوثائق المستخرجة من أجهزة الحاسوب التي وجدت في مخبئه، عن نقاشات مطوّلة خاضها ابن لادن معهما عن الاستراتيجية التي يتبعها ابن لادن في العمل.

طلّق ابن لادن زوجته الثانية عام 1993، بعد عشر سنوات من الزواج. وطلبت الزوجة الأولى الطلاق عام 2001، فطلّقها. أما الزوجة الخامسة لابن لادن فكانت من اليمن، فتاة تبلغ السادسة عشرة. يروي بيرجن أن ابن لادن أخبر زوجاته بأنها تبلغ 30 عامًا، وأنها على مستوى عالٍ من التعليم. لكن حين وصلت اكتشفن أنها لم تلق تعليمًا جيدًا، ولا تبلغ الثلاثين.

تفسير بيرجن لهذه الزيجة أن ابن لادن شعر بالخناق يضيق فأراد أن يوطدّ علاقته مع بعض قبائل اليمن كي يوفر لنفسه ملاذًا آمنًا إذا اضطر للهرب من أفغانستان. يتمادى بيرجن في الوصف فيحكي أنه في لحظة مداهمة القوات الأمريكية لابن لادن كان في فراشه مع الزوجة اليمنية، بينما كانت الزوجتان الأخريان في الطابق السفلي.

الابن الهارب

يروي الكتاب عن حياة ابن لادن في أبوت آباد الباكستانية، المدينة التي اختبأ فيها، وأنه حرص بصفة دورية على عقد لقاءات عائلية تجمع زوجاته الثلاث وأبناءه وأحفاده. كما حرص على تعليم أولاده وأحفاده تعليمًا راقيًا. كما يحكي الكتاب أن ابن لادن كان حريصًا طوال سنوات حياته على تربية أبنائه تربيةً خشنة كي يحتملوا ظروف الجهاد والاختباء والمطاردة.

أمثلة ذلك أنه كان يصطحبهم في رحلات شاقة وفي مناطق ذات حرارة مرتفعة، ويحدد لهم كميةً محددة من الطعام والماء، كما لم يكن يسمح باستخدام أي وسيلة تبريد أو أي أجهزة تكييف. حياة شاقة لأسرة رجل يطلبه العالم أجمع، ولم تكن العائلة تحتمل ذلك بسهولة.

ضاق الابن الأكبر بالحال أثناء إقامتهم في السودان، فترك أباه ورحل ولم يعد. كما قتلت الولايات المتحدة 3 من أبنائه، وتوفيت إحدى بناته أثناء وضعها مولودًا في إحدى مرات هروب بن لادن. وسجنت الولايات المتحدة زوجاته الثلاث اللاتي كن معه لحظة اغتياله. واحتجزت إحدى زوجاته و7 من أطفاله في إيران لمدة عشر سنوات.

يروي بيرجن عن وصيّة يزعم أن ابن لادن كتبها أثناء فراره من تورا بورا في ديسمبر/كانون الأول عام 2001. في تلك الوصية، يشكر ابن لادن زوجاته على دعمهن، ويعتذر ابن لادن فيها لأبنائه عن أنه لم يقض معهم وقتًا كافيًا وينصحهم، كما ينقل بيرجن، ألا يعملوا مع تنظيم القاعدة.

معركة جاجي وغزوة بدر

يتحدث الكتاب أيضًا عن معركة جاجي التي وقعت 1987 والتي وصفها ابن لادن بأنها أعظم معارك العصر الإسلامي الحديث. كما أنها هى المعركة التي صنعت من ابن لادن بطلًا للحرب في الوعي العربي ضد الروس. يقول بيرجن إن تنظيم القاعدة لم يخسر سوى 13 رجلًا فقط في تلك المعركة، وهى خسارة ضئيلة مقارنة بما خسره الأفغان، فيقول بيرجن إن الذي ألحق الهزيمة في تلك المعركة بالروس هم الأفغان، لا أسامة ولا رجاله.

يضيف بيرجن جملًا اعتراضية، ليس من الواضح هل استقاها من وثيقة أم هي تحليله الخاص، يقول بيرجن فيها إن أسامة بجنوده الـ300 في معركة جاجي أراد أن يصور المعركة كأنها نسختهم الخاصة من غزوة بدر الكبرى التي قام بها الرسول محمد.

كما يقول بيرجن إنه لاحقًا حفر أسامة ورجاله الخنادق ليختبئوا فيها وليكرروا في ذهنهم غزوة الخندق. ويضيف بيرجن أنه في تلك السنوات كان أسامة يرى نفسه رمزًا عالميًا، وآمن أتباعه بأنهم قادرون على طرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط.

في جمل سريعة ومقتضبة نفى بيرجن الشائعات التي تتحدث عن علاقة صدام حسين، الرئيس العراقي الذي أعدمه الغزو الأمريكي للعراق، وبين أسامة. كما نفى أن تكون باكستان قد وفرت حماية أمنية لابن لادن في مخبئه. كذلك نفى بيرجن وجود أي وثيقة تثبت امتلاك أسامة أسلحة دمار شامل. ويقول بيرجن إن مقاطع الفيديو المصورة لأسامة في مخبئه أكدت أنه كان يعرف كل نقطة فيه، وكان يتحكم في كل شيء.

رجال مخلصون تحت التعذيب

يروي بيرجن أيضًا أن الولايات المتحدة استخدمت أساليب تعذيب وحشية ضد أعضاء القاعدة البارزين الذين اعتقلتهم من أجل الوصول لمكان أسامة، وكانوا على الدوام يزودون وكالة الاستخبارات الأمريكية بمعلومات مضلّلة تحت وطأة التعذيب.

ويلفت الكتاب النظر إلى الولايات المتحدة في التوجه إلى العراق عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، في حين كانت الفرصة مواتية للقبض عليه في أعقاب الحادث مباشرة في تورا بورا إذا نشرت قوة استخبارات مدربة. لكن بيرجن يقول إن أعداد الصحفيين في تورا بورا فاقت أعداد القوات الأمريكية، وخشيت الولايات المتحدة على قواتها من انتقام رجال أسامة، أو أن يلحق بهم ما لحق بالروس.

يقول بيرجن إن توجه الولايات المتحدة لغزو العراق ثم انتهاء الحرب والانشغال بإعادة إعمارها، شعر أسامة بأنه لم يعد مطاردًا بقوة فطلب من حارسه الشخصي، إبراهيم عبدالحميد، تشييد منزل له في أبوت آباد الباكستانية لينتقل له مع جميع أفراد أسرته.

وبالفعل تم تنفيذ المنزل بتكلفة 50 ألف دولار، منزل مكون من 3 طوابق، الطابق الأول والثاني في كل منهما 4 غرف نوم لكل غرفة حمامها الخاص. أما الطابق الثالث، فبه غرفة واحدة بحمامها الخاص، وكانت غرفة خاصة لابن لادن فقط.

حبل غسيل حلّ كل شيء

تقول الوثائق إن أسامة ورجاله عمدوا إلى الهواتف العمومية لإجراء المكالمات المهمة، وكانوا على الدوام ينزعون بطارية هواتفهم كي لا يتم تعقبها. كما كان أفراد الأسرة نادرًا ما يغادرون المنزل باستثناء إحدى بناته التي غادرت المنزل مرتين لتلد تحت اسم مستعار وبأوراق هوية مزورة. كما كانت تتظاهر بالصمم لتتجنب الإجابة على أي أسئلة.

أمسكت الولايات المتحدة طرف الخيط حين رأت رجلًا في مدينة بيشاور يُعتقد أنه إبراهيم الحارس الشخصي لابن لادن، وبتتبعه بدأت عملية المراقبة وجمع الأدلة.

بحسب الوثائق، كان الدليل الأكثر إثارة للاهتمام هو حبل الغسيل الموجود في المنزل، إذا كان يمتلئ بملابس أكثر بكثير مما يمكن أن يرتديه 11 حارسًا شخصيًا. لأن أسامة كان حريصًا تمامًا فلم تكن قمامة المنزل تخرج منه بل تُحرق في الفناء، كما احتوى على حديقة بها أشجار التفاح والعنب، كما تحوي الأبقار والدجاج، فلم يكن سكان البيت بحاجة للخروج، فلم يكن في البيت شيء يتغير سوى الملابس على حبل الغسيل، هى التي روت كل شيء عن عدد وأعمار وجنس قاطني المنزل.

كان البيت بمثابة سجن كما يصفه بيرجن. يقول إن البيت كان سجنًا من صنع أسامة، ويلفت النظر أنه حتى في وقت تمشيته في الحديقة كان يتمشى مرتديًا قباعة رعاة البقر حتى لا تُلتقط صورته من قمر صناعي. ويكشف بيرجن أن خطابات ابن لادن كان تحوي احترامًا لقدرة الاستخبارات الأمريكية، وعدم استهانة بإمكاناتها.