صعود وانحسار النفوذ السلفي
ثمّ تأويل سياسي لمحنة ابن حنبل يعتبِرُ أن الهدف النهائي والحقيقي للمأمون كان هو تقويض السلطة الاجتماعية لأهل الحديث في بغداد؛ حتى يستقرّ ملكه بعد فترة الاضطراب التي أجبرته على البقاء خارج بغداد لفترة ليست بالقصيرة. والحقيقة أن التأويل السياسي له مقدرة تفسيرية أكبر بكثير من التفسير العقدي مُجرَّدًا، والذي يُصوِّر المأمون كأنه محض مُعتزليّ «مُبتدعٍ» يذود عن مذهبه. فما عرف التاريخ الإسلامي سلطانًا ولا ملكًا متعصبًا مذهبيًا لوجه الله والحقيقة (إن كان ثمة!) إلا فيما ندَر، وإنما استخدم أكثرهم المذهب الأقرب لتسويغ أغراضه وتبرير سلطانه، وإضفاء بُعدٍ أكثر عمقًا على الخلاف السياسي بينه وبين خصومه. والأمثلة من تاريخنا كثيرة يجلّ عنها الحصر، لكن مثال الصفويين في إيران أحد أكثر تلك الأمثلة فجاجة؛ إذ تحوَّلت طريقة صوفية سُنية كردية إلى التشيّع، ومزجته بعناصر قومية فارسية بعد وصولها إلى الحكم؛ حتى تزيد الهوة بينها وبين خصومها السياسيين، العثمانيين منهم على وجه الخصوص، ويُمكنها من ثم التعبئة ضدهم بصورة أكثر كفاءة.
والحقيقة أن مثال دولة آل سعود الثالثة لا يبعد كثيرًا عن ذلك، فقد استغل عبد العزيز إخوان نجد لبسط ملكه على الجزيرة وتوطيده، وما إن استقر له الأمر حتى تخلى عن الحركة بالدعوة إلى الهلال الخصيب، بغض النظر عن رأينا في مضمون الدعوة نفسها، وعينه على تقلبات السياسة العالمية التي سمحت له بتأسيس ملكٍ داخل الجزيرة، على ألا يتجاوزها لما وراءها؛ فنكّل بالإخوان لتُمسي الدعوة/الحركة الوهابية محض ديباجاتٍ انتهازية لتبرير حكم آل سعود، مع لحظاتٍ نماذجيةٍ قليلةٍ يغلب عليها الإخلاص، وذلك بدلًا من النزوع «الإصلاحي» العالمي الذي توصف به الحركات الدعوية بطبيعتها.
ومع انتصاف القرن العشرين، بدأت عوائد النفط تتراكم في المملكة حديثة الولادة لتعاودها أحلام التمدد مرة أخرى، لكنه نمطٌ من التمدد الملائم لعصر الكولونيالية الجديدة، وللمصالح الاقتصادية المتنامية للنظام الذي يزداد ثراؤه يومًا بعد يوم. تمدد ثقافي ومذهبي ناعم سيمثّل، على المدى الطويل، نفوذًا ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا في أكثر بلدان العالم الإسلامي؛ ليمنح السعودية ثقلًا سياسيًا حقيقيًا في أكثر البلدان المنكوبة بذلك النفوذ، خصوصًا بعد تزايُد هجرات العمالة إلى المملكة، إبان عقدي السبعينيات والثمانينيات؛ العمالة التي تعود حين تعود إلى بلادها مُحملةً بأنماط عقدية واستهلاكية واجتماعية جديدة. وليس أنجع أثرًا وأقوى سياسيًا من نمطٍ عقديٍ يتحرك اجتماعيًا في حريةٍ بدعمٍ من ظهيرٍ اقتصادي معتبر.
والحقيقة أن ثمة عناية معدومة تقريبًا بالفترة التي تمدد فيها النفوذ السعودي-الوهابي ليهيمن على العالم الإسلامي (1961-1991م) بمساعدة الإخوان المسلمين وجماعة المودودي الإسلامية في باكستان، ومرجع ذلك إلى تعامل الأجيال المتصدرة مع هذا النفوذ بوصفه «حالة الطبيعة» أو طبيعة الأشياء التي خلقها الله، والتي وُلد أكثرهم في ظلها ولم يعرفوا سواها!، ومن ثم كانت العناية بالطريق التي تمدد بها ذلك النفوذ وقنواته أشد غيابًا، وما ذلك إلا لأن تلك القنوات نفسها (الإخوان وجماعة المودودي) تتعامل مع الأمر بمنطق المصالح السياسية والاقتصادية، الذي يحتم السكوت عن الخلافات لحفظ بعض المكاسِب، لا بمنطق الدعوة والحرص على الحقيقة، الذي قد يفضح تبنّيها له انتهازية أكثرهم وارتزاقهم باسم الدعوة إلى الله.
لقد ظلت الدولة السعودية الثالثة طوال عهد مؤسسها عبد العزيز دولة هامشية عربيًا وإقليميًا، ولم تكتسب شيئًا من الأهمية الحقيقية على الساحة الدولية إلا حين بدأ النفط يتدفق من أرضها، لكنها ظلت أهمية اقتصادية مجردة، مثلها في ذلك مثل كل الدول المصدّرة للبترول؛ مجرد مُزوّدٍ لمصانع الغرب بالطاقة، بل إنها ظلت تابعة سياسيًا لمصر، بدرجة كبيرة، حتى أواخر خمسينيات القرن العشرين تقريبًا (بدأت القطيعة السياسية عام 1957م، على خلفية «الوحدة» مع سوريا).
ومع تزايد المغامرات والحماقات الناصرية مطلع الستينيات، وانفصام عُرى الوحدة مع سوريا والقوانين الاشتراكية، بدأت المملكة الوليدة تجترئ على الاستقلال السياسي الكامل بمساعدة عدد كبير من الكوادر المصرية الهاربة من وجه العسف الناصري، خصوصًا ما بقي من عناصر الإخوان المسلمين خارج المعتقلات. كان الفائض المالي يسمح للملكة آنذاك بالتمدد سريعًا، جنبًا إلى جنب مع ولي عهدٍ طموحٍ جسّدهُ فيصل بن عبد العزيز، الذي تتحدّر أمه مباشرة من نسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ورغم أن فيصل تولى الحكم عام 1964م، إلا أنه كان الممسِك فعليًا بمقاليد السلطة في عهد أخيه غير الشقيق سعود؛ إذ كان عبد العزيز قد دفع بولده فيصل منذ وقت مبكر إلى دهاليز السياسة العالمية نائبًا عنه في مؤتمرات وزيارات للغرب (عُيّن وزيرًا للخارجية في 1932م)، كما أكسبه دربة في الشؤون العسكرية منذ عمر جد مبكر (قيادة القوات السعودية في عسير 1922م، وفي الحجاز 1925م وعمره 19 عامًا)، ناهيك عن الدربة في شؤون البلد الداخلية (نائب الملك منذ 1926م، ورئيس مجلس الشورى منذ 1927م). فإذا أضفنا لذلك كله نشأته في بيت جده لأمه عبد اللطيف آل الشيخ، وتلقّيه العلم على يديه، ارتسمَت لنا صورة شبه واضحة لما كانت عليه شخصية فيصل، ولا نغالي من ثم حين نعدّه المؤسس الحقيقي للدولة الثالثة، الذي رسّخ مؤسساتها ومكّن أذرعها المذهبية من الهيمنة على الداخل «السعودي» واحتلاله، ثم فتح الباب لنفوذها المذهبي والاقتصادي والسياسي ليتمدد إلى الخارج، كأنها مركنتالية «إسلامية»!.
لقد كان عقد الستينيات من القرن العشرين حاسمًا في تاريخ العالم الإسلامي؛ إذ مثّل حقبة انتقال قيادة العالم الإسلامي (والحركة الإسلامية) من مصر إلى السعودية، وهو الانتقال الذي أعاد تشكيل خارطة وأولويات الحركة الإسلامية حين تسممت تدريجيًا بما أسميه: الأثر السعودي-الوهابي، الطائفي بتعريفه. كانت الستينيات بحق عقد الأفول المصري وتقوض «المشروع» الناصري، الذي شهد انتعاشة جد قصيرة في النصف الثاني من الخمسينيات، ثم كانت قمة الرباط 1969م هي الإعلان النهائي عن تسلم السعودية قياد العالم الإسلامي، وربما كان المؤشر الأهم على ذلك هو رواية نجيب محفوظ الشهيرة: اللص والكلاب، التي نُشرت لأول مرة عام 1961م. كان نجيب محفوظ، وغيره من الأدباء المصريين، قد تنبؤوا في ذلك الوقت المبكر بسرقة «الثورة» وتقوض مشروعها، وهو ما صدقته هزيمة 1967م، لكن ثمة مؤشراتٍ أخرى أكثر صلابة على تقوّض النفوذ المصري الخارجي (ناهيك عن تقوض الوحدة مع سوريا وسوء علاقات مصر بأكثر الدول العربية والإسلامية)، ثقافيًا وسياسيًا؛ وخصوصًا في بلاد الحرمين. فبالتزامُن مع ما سُمي بـ«إصلاح الأزهر» (1961م!)، صدر عن السعودية متتالية من الإجراءات، في عامٍ واحد تقريبًا (1962م)؛ كانت جد كاشفة عن رفضها للنفوذ الديني المصري (الأزهري!)، ومحاولتها الاستقلال بخطابها الديني؛ لتؤسس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وترفض استلام كسوة الكعبة التي ترسلها مصر بأعذارٍ شتى، وأخيرًا تؤسس رابطة العالم الإسلامي، والتي ستمثل الأداة الأهم لبسط النفوذ السعودي-الوهابي بالخارج، وتمويل أنشطته.
لم تكن الرابطة مجرد منظمة دولية استخدمها السعوديون لتقويض منظمة المؤتمر الإسلامي، التي أوكل عبد الناصر أمرها لصفيه وخليفته: السادات؛ بل كانت كذلك تعبيرًا عن احتجاج السعودية على سياسة التقريب بين السنة والشيعة المصرية (الانتهازية والمسيّسة في غالبها)، وأداة فرض مفهومٍ طائفي/وهابي جديد لـ«الوحدة الإسلامية». وفوق ذلك كله كانت تعبيرًا عن تمام استيعاب النظام السعودي للشبكة العالمية الهائلة والمتشعبة للإخوان المسلمين، وتوظيفها لخدمة المملكة الساعية لانتزاع زمام قيادة دار الإسلام. لقد كان اصطفاف قطاع كبير من «علماء السنة» وراء الرابطة نكاية في الناصرية أول الأمر، وانحيازًا للإخوان المسلمين الذين سُحقوا بغير رحمة، قبل أن يرتبط هؤلاء «العلماء» تدريجيًا بالرابطة ارتباطًا وثيقًا بسبب سخاء وذكاء التاجر المحنك الذي قام على أمرها منذ اليوم الأول: الشيخ محمد سرور الصبّان. وأخيرًا شرع الكثيرون منهم بـ«التحول» لتبنّي بعض عناصر الاعتقاد الوهابي، حتى إن عالمًا في قامة أبي الحسن الندوي وبمثل خلفيته الصوفية شديدة العمق سيتم توظيفه لاحقًا ضد إيران والشيعة، وبصورةٍ فجة.
كذا، لم يكن تأسيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والذي اضطلعت به وجوه مشهورة من الإخوان المسلمين وجماعة المودودي الإسلامية، مجرد محاولةٍ لتقويض مركزية الأزهر الأشعري/الناصري فحسب، وهي المكانة التي احتفظ بها الأزهر لما يقرُب من خمسين عامًا، وكانت ذروتها مشيخة المراغي، بل كان كذلك بداية تأسيس شبكةٍ من الجامعات (في ماليزيا وباكستان مثلًا) والمؤسسات البحثية (مثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي) والاتحادات الطلابية في بريطانيا وأمريكا الشمالية، والتي بُنيت من خلال شبكة الإخوان المسلمين العالمية لتحمل معتقد القيادة الجديدة للحركة الإسلامية إلى شتى أنحاء العالم؛ ليتفشّى «المزاج السلفي» ويتغلغل مذ ذاك حتى صار «المذاق» الرسمي للإسلام السني!. وقد كان الإخوان أنفسهم هم أهم الكوادر العليا لتلك المؤسسات حتى وقوع الطلاق بين الإسلاميين (كما تسمى الإخوان بعد تدجينهم في السبعينيات) وبين النظام السعودي، الذي اختلق بديله الخاص ممثلًا في الجيوب السلفية المختلفة، وأهمها الطائفة المدخلية؛ لتكون أسلس قيادًا، وأقل «ثورية»!.
والحقيقة أن الاعتقاد الوهابي النظري قد انتشر انتشارًا واسعًا عن طريق الجيوب السلفية «العلمية» و«الدعوية»، وإن أثمر أحيانًا جيوبًا جهادية كان يتم تصريفها في أفغانستان والبلقان والقوقاز، وسائر مناطق الصراع الملتهبة، قبل أن ترتد هذه الجيوب إلى العالم العربي إبان تسعينيات القرن العشرين. وقد أدى ذلك الارتداد مثلًا لاصطدام جد عنيف بين بعض الأنظمة ما بعد الكولونيالية (مثل مصر والجزائر) وبين الجماعات المسلحة العائدة من الجهاد، وتشعب الصراع بدرجة لا يمكن بسطها هنا، إلا أنه قد نبه الكثيرين مذ ذاك بأن المعتقد السلفي/الوهابي هو جذر ذلك «التطرف» الذي أدى إلى ما عُرف لاحقًا بأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م، وذلك رغم أن مبعوثي السلفية/الوهابية «الرسمية» كانوا يقصِدون أفغانستان أساسًا في مهمة سياسية «رسمية» واحدة: تمزيق الشمل وتشتيت الجهود، بتبديع وتفسيق جمهور المجاهدين؛ حتى تتفرّق كلمتهم ولا يجاوزوا طرد السوفييت أنملة، وهو الدور الذي كانت تلعبه الطوائف السلفية «العلمية» و«الدعوية» في كل مكان آخر، حتى مع الإخوان وأشباههم، من المسالمين للنظام السياسي ما بعد الكولونيالي!.
وبعد أن كانت الجيوب السلفية «العلمية» و«الدعوية» خيارًا أمنيًا واستخباراتيًا مفضلًا في أكثر الدول العربية، شرعت بعض الدول بتقييدها، بل وباستبدالها بنُخبٍ دينيةٍ مختلفة، وذلك كما فعلت الأردن برعاية ابن عم الملك، الأمير غازي بن محمد، الذي استبدل السلفيين بصوفيةٍ أشاعرة، بهدوء وبغير كثير ضجيج. وقد تزامن ذلك كله مع تنامي وعي السعوديين أنفسهم بخطورة «القنبلة» المستقرة في أحضانهم بعد أن انفجرت فيهم حرفيًا عدة مرات، ومحاولتهم الموازَنَة في الدعم بين «الليبراليين» وأيديولوجية المؤسسة الدينية الرسمية، التي يستمد منها النظام شرعيته؛ إذ ثبت أن اطرادها كارثي!، ولم يمت عبد الله بن عبد العزيز حتى كانت أواصر علاقات الدولة مع «الإسلاميين» قد تمزقت تمامًا، وبدأ الانحسار السريع لدعم وتمويل التيارات السلفية خارج المملكة.
والحقيقة أن عبد الله قد لعب دورًا محوريًا، مثله في ذلك مثل فيصل، فإن كان الأخير هو المؤسس الحقيقي للملكة وأبي تمددها عربيًا وإسلاميًا، فإن عبد الله هو الراعي الرسمي لتآكل نفوذها الخارجي. صحيح أن انكفاء السعودية على الذات قد بدأ قبل وصول عبد الله للحكم بعقدين على الأقل، ربما منذ حادث الحرم إبان الثمانينيات؛ لكن الإجراءات والسياسات القُطرية الواضحة التي دشنها عبد الله، منذ كان وليًا للعهد، كانت هي المسمار الأخير في نعش قيادة السعودية للعالم الإسلامي.
ربما لم يكن ذلك واضحًا حتى شرعت السعودية بـ«اللعب الخشن» مع الإيرانيين في اليمن وسوريا. لقد كانت السعودية توكلُ اللعب الخشن قبل ذلك لأصدقائها الأمريكان وللحلفاء المصريين والباكستانيين، لكنها اضطُرت مؤخرًا لاستخدام السلاح الذي تبتاعه بمئات المليارات في ذلك اللعب، بغير خبرةٍ حقيقية!. لقد توهّم الجيل الجديد المترف من آل سعود، الذين لم يجرّبوا الجوع والمطاردة، أن اللعب الخشن مجرد سلاح حديث؛ ليسقطوا من حسبانهم قوتهم الناعمة التي صنع بها فيصل مكانة المملكة القيادية عربيًا وإسلاميًا. هذا الهزل الطفولي الذي كشف حقيقة السعوديين وحقيقة حجمهم السياسي والعسكري؛ إذ تخلوا عن القوة الناعمة، جعل دويلة تافهة مثل الإمارات تجترئ على آل سعود، ليس لترعى محفلًا مثل مؤتمر الشيشان فحسب، بل لتطمع بوراثة السعودية في قيادة العالم الإسلامي، وذلك في ظل إمساكها بلجام الجنرال المصري المخنث وشيخ الأزهر الإمعة!. ولعل الحملة الدعائية النارية والسباب والتكفير المتبادل بين إيران والسعودية تكشف إفلاس النظام السعودي خارجيًا، بعد أن أفلس داخليًا منذ وقتٍ ليس بالقصير.
إن ما وقع في الشيشان ليس فصلًا مُنبتًا لا علاقة له بالتاريخ، ولا هو انحراف عن مسيرة «أهل السنة» الوحدوية المتوهمة!، فحقيقة الأمر أن هذا التنافس المكبوت بين الأزهر والسلفية كان كامنًا طوال نصف قرن، خصوصًا في الاحتقار الواضح الذي يكنّه كثير من الأزهريين المتصدرين للسلفية، حتى وإن كانوا بعض رعاياها قبل أقل من عقدين؛ مثل علي جمعة. لكن كانت أزمة الأزهر، وما زالت، هي التبعية الكاملة للنظام الحاكم، الذي كان بدوره تابعًا للسعوديين منذ وصول مبارك للحكم، وقبوله بالرشى الضخمة التي كانت تحفظ أود نظامه.
لقد كان مؤتمر «غروزني» اطرادًا طبيعيًا لتآكل المرجعية الوهابية وانسحاب نفوذها السياسي من العالم الإسلامي، بأكثر مما يمكن اعتبارُه مؤشرًا على صحوة الأزهر، مثله في ذلك مثل مؤشرات لا تقل دلالة، لعل أهمها هو رفض باكستان المشاركة العسكرية في المغامرة السعودية باليمن. هذا الوهن السياسي والثقافي السعودي خارجيًا، والمصاحب لمظاهر مثل تآكل فعالية أيديولوجية الدولة داخليًا بتهميش هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتورط المملكة للمرة الأولى في تاريخها في صراع عسكري خارجي، وبشكلٍ مباشر، هو الإعلان الرسمي عن تخلي المملكة عن قيادة الحركة الإسلامية/العالم الإسلامي، والتي تحدث فعليًا وبشكل تدريجي منذ أكثر من عقد من الزمان. صحيح أنها كانت قيادة طائفة في جوهرها، استنزفت الحركة الإسلامية طوال نصف قرن، وأفرغتها من محتواها، مثلها في ذلك مثل الأيام الأخيرة من تسلط العثمانيين؛ إلا أن مقعد القيادة قد خلا هذه المرة بغير دولة أو حركة تحل محل تلك الذاوية. ويقيننا أنه لا إيران ولا تُركيا، بأوضاعهما الحالية، مؤهلتان لقيادة الحركة في هذه المرحلة المفصلية.
إن الحركة الإسلامية اﻵن بحاجة لقيادة عربية غير طائفية؛ قيادة لا وجهة لها سوى الدعوة إلى الله؛ لا إلى الرفاه، ولا إلى التقدم العلمي، ولا إلى البعث الحضاري؛ قيادة حقيقية تستعيد للحركة الإسلامية وجهتها الحقيقية. وقد كنت آمُل أن يقيّض الله لأهل مصر هذا الدور في 2011م، وما زلت آمُل في ذلك بدرجة كبيرة.