«بقايا اليوم»: الرواية في حضرة السينما
جاءت تلك الكلمات على لسان «مستر ستيفنس» بطل رواية «بقايا اليوم» من تأليف الكاتب الياباني «كازو إيشوجورو». شخصية خيالية بدعها كاتب ياباني أليس كذلك؟؟ ولكن قل لي – بيني وبينك – كم مرة تلوت على نفسك تلك الكلمات في المرآة دون أن تكون قد قرأت الرواية أبداً؟
هنا بالضبط تكمن روعة رواية «بقايا اليوم»، فأنت قطعاً لم تعمل في وظيفة رئيس خدم في قصر إنجليزي عريق، ولم تعرف أحداً يعمل بتلك الوظيفة، ولم يمر بخيالك أبداً كيف يمكن أن تكون حياة رئيس الخدم الإنجليزي هذا، ولكنك بشكل ما عندما تقلب صفحات الرواية، سوف تقابل ذاتك، سوف تصطدم بحقائق كثيرة، رغم رتم الرواية الهاديء البطيء، كما الحياة تماماً، ثم تترسخ هذه الحقائق عندما تشاهد الفيلم الذي يحمل نفس الاسم والذي لعب فيه «أنتوني هوبكنز» دور «مستر ستيفنس».
الكرامة والفلسفة وأشياء أخرى
تدور أحداث الرواية حول «مستر ستيفنس» الراوي الذي يحكي لك قصة حياته كرئيس خدم في قصر «دارلنجتون هول» الذي كان يؤمه علية قوم المجتمع الإنجليزي وصفوة رجال السياسة حول العالم، يحكي عن مخدومه «لورد دارلنجتون» ويحكي عن زملاء العمل وعلى رأسهم «مس كنتون»، تكتشف أنه عاش حياته من خلال من حوله، لم تكن له أي حياة خاصة، فنى شبابه وكهولته في خدمة اللورد، وكان يرى أن هذا هو دوره الحقيقي.
هناك مقولة في علم الفلسفة تقر أنه «كل إنسان فيلسوف بشكل ما»، وقد طبق بطل الرواية تلك المقولة بشكل حرفي، كان «مستر ستيفنس» يفلسف كل شيء حسب وجهة نظره الخاصة ويخترع مذهباً يرضي به حاجته الإنسانية للتقدير، ولما كانت الرواية تتبع أسلوب «المونولوج الذاتي» فقد استطاع الكاتب أن يلقي على القاريء وجهات نظر البطل في مواضيع شتى، كالكرامة مثلاً.
كان البطل يفلسف معنى الكرامة باختصار على أنها القدرة على خدمة السادة بمنتهى الإتقان وعدم الوقوع في الأخطاء مطلقاً، عدم اهتزاز صورته أبداً، بمعنى آخر يمكننا أن نقول أن البطل كان يخشى أن يخطئ حتى لا يوبخه أحدهم ويكتشف فجأة أنه «خادم»، فقام بفلسفة فكرة الكرامة في قالب يناسب حاجته إلى الشعور بأهميته وقيمته الإنسانية.
هنا بالضبط يمكننا كقراء أن نغلق الكتاب ونأخذ نفساً عميقاً ونعترف للكاتب أنه «جه عالوجيعة»، هذا ما يحدث بالضبط كل يوم، بل كل ساعة، في كل شيء في حيواتنا، نحن نقوم بلي عنق الحقيقة كثيراً حتى نقبل أنفسنا، حتى نستطيع أن نشعر أننا مهمين، أننا ذوي قيمة، وأننا أعزاء.
أنت في الرواية.. وفي المرآة
استطاع الكاتب عن طريق شخصية خيالية بريطانية تعيش في عشرينيات القرن، يتكلم كلاماً يبدو عادياً جداً دون الكثير من الأحداث الصادمة، أن يجعل الشخصية تتماس معك أنت الذي تعيش في العام 2016م وتعمل مبرمجاً ربما، وتقرأ الرواية بصيغة (pdf) على هاتفك الذكي، تلك هي الفلسفة الحقيقية.
بل استطاع الكاتب أن يجعل «لورد دارلنجتون» والذي لم يكن الشخصية الرئيسية في الرواية، محفزاً لك أن تفكر في مبادئك الخاصة، نبله وقراراته التي كانت تهدف وقتها لتجنب الحرب وإقرار السلام ومحاولاته المستميتة للدفاع عن القيم الإنسانية وتجنب الحرب واعترافه بالخطأ في أواخر عمره، كل تلك الأمور تجعلك تفكر هل قراراتك كلها سليمة؟ هل أنت جبان خانع أم أنك مجرد ترس في عجلة الدنيا؟ استخدم الكاتب الفلسفة في أرقى صورها، دون الكثير من التنظير، وبتماس شديد مع واقعك اليومي، تماس يجعلك تخاف أحياناً من أن تكون مخطئاً، أو أن تكون غير ذو قيمة، أو – على الأقل – أن تكون مخدوعاً.
ثم قصة حب «مستر ستيفنس» لمدبرة المنزل «مس كنتون»، هذا الحب الذي لم يعترف به أبداً لنفسه حتى، الحب الذي كان يمكن أن ينقذه من بين براثن عقله عندما يموت اللورد ويواجه «مستر ستيفنس» نفسه بعد مضي الوقت، عندما يكتشف فجأة أنه لم يكن مهماً بتلك الدرجة التي جعلته منهمكاً في دوره كرئيس خدم، قصة الحب الرقيقة جداً التي لم تتبلور سوى في ثلاثة مشاهد على الأكثر والتي لم يعرها البطل الاهتمام الذي يليق بها وقتها، والذي جعله يجلس على الجسر باكياً في آخر مشاهد الرواية، كم فرصة ضيعت أنت في سبيل أفكاراً اكتشفت بعد زمن أنها لم تكن بتلك الأهمية؟ كم تشبه حياتك حياة «مستر ستيفنس» رئيس الخدم؟ تلك هي المسألة.
السينما في مواجهة الحياة
أحد المشاهد التي تبلورت فيها حقيقة حب البطل لمدبرة المنزل في الرواية كان في غرفة رئيس الخدم، المشهد لا يستغرق زمناً في أحداث القصة، ولم يدر فيه حواراً عن الحب أصلاً، ولكنك لن تملك إلا أن تعيده مرات عديدة عندما تشاهده في الفيلم.
هنا سوف تشعر بأهمية السينما في حد ذاتها، لن تشعر بكل تلك المشاعر وحدك دون أن ترى «مستر ستيفنس» وظهره للحائط ينظر إلى «مس كنتون» وهي تحاول أن تنزع كتاب من يده لتعرف ما فيه، هنا تصل لحظة الصراع ذروتها في قلبه، وتتمنى أنت أن يقرر صناع الفيلم أن يحيدوا عن الرواية ويخترعوا تخريجة لكل هذا الحب ليكتمل.
الإضاءة الخافتة، والديكور المتقن لغرفة رئيس خدم في قصر عريق، ونظرة «أنتوني هوبكنز» وأنفاسه التي تتسارع والتي تلفحك بنار الصراع عبر الشاشة، كلها أشياء لا تقدر بثمن، كلها أشياء لا يقدر على خلقها سوى السينما.
كان الفيلم من الأفلام القليلة التي خدمت الروايات التي أخذت عنها، هذا الصراع الأبدي بين الرواية المكتوبة والمرئية، وتفوق إحداهما على الأخرى، لم يكن الانتصار تلك المرة من نصيب أحداهما على حساب الأخرى، فقد كان الفيلم متقناً كالرواية تماماً، بل خدمها وأخرجها للنور دون أن ينتقص منها شيئاً.
تلك المرة كانت السينما في صف الرواية، السينما التي يمكنها أن تجمع بين كونها جميلة جدًا، وحزينة جدًا، كالحياة تمامًا.