دين الحكام: لعبة المتناقضات
كنت أشاهد إحدى حلقات يوتيوبر شهير يتحدث فيها عن رحلة هشام عشماوي التي بدأها ضابطًا بقوات الصاعقة المصرية لينتهي به المطاف أميرًا لإحدى الجماعات المتطرفة، وروى الرجل موقفًا محوريًا كان السبب (من وجهة نظره) في تحول عشماوي إلى نهج العنف والتكفير، وهذا الموقف ببساطة أن رجال المخابرات الحربية قاموا بتفتيش مفاجئ لمقر الوحدة التي كان يخدم فيها الرائد هشام عشماوي بعد ورود معلومات من مصادر سرية أنه متدين ويحفظ القرآن، وبعد التفتيش وجدوا لديه كتيب أذكار الصباح والمساء للشيخ الطريفي، وبتتابع الأسئلة والتحريات عرفوا أن الضابط هشام عشماوي يوقظ زملاءه لصلاة الفجر. وهنا كانت الطامة الكبرى فتمت إحالة هشام للمحاكمة العسكرية بجملة من التهم الجاهزة ومنها التطرف الفكري وخلافه. وكان الحكم البات والنهائي هو فصل عشماوي بشكل نهائي من القوات المسلحة، مما جعله فريسة سهلة للجماعات التكفيرية التي انتمى إليها لاحقًا.
بالطبع لم يكن أنا وأنت شهودًا على تفاصيل التحقيقات وخبايا الاتهامات، ولا أعتقد أنه من العقل أو من الحكمة مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى حين قال: «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كان عنه مسؤولا»، ولكن..
من يسمع قصة من هذا النوع ومن مثل هذا المصدر الذي أشرت إليه يصل له شعور مؤكد أن الجيش المصري ومعه النظام الحاكم يكره حفظة القرآن والمصلين وخصوصًا ذلك الذي يقوم لصلاة الفجر، وعلى وجه التحديد حينما يقوم المسلم لأدائها في وقتها المفروض، فهل هذه هي الحقيقة؟
لن تدوم حيرتك طويلاً لتكتشف أن هذا بالطبع ليس هو السبب، فبعد سويعات من مشاهدتي للفيديو المذكور قرأت خبرًا قديمًا في غاية اللطافة وهو أن الجيش المصري قد حصل على المركز الأول في مسابقة حفظ القرآن الكريم وتجويده عالميًا، وذلك في المسابقة الدولية العسكرية لحفظ القرآن الكريم والتي شارك فيها ضباط ينتمون لجيوش 26 دولة حول العالم! توقفت قليلاً ثم قمت بإعادة سماع الفيديو أكثر من مرة حتى لاح لي هذا السؤال: هل أنظمة الحكم في بلادنا مع التدين أم ضده؟ وهل نستطيع وصفها بالإلحاد والكفر أم بالتدين وحب الدين؟
وقبل أن أجيبك على هذا السؤال، يبدو أنه لا غنى لنا عن دخول حقل ألغام فكرية في محاولة لفتح الطريق أمام الوعي الجمعي لشعوبنا؛ حتى لا نكرر أخطاء الماضي في سعينا نحو الإصلاح والنهوض.
دعني أيها القارئ الكريم أحدثك عن مسألة مزروعة في أعماق اللا وعي لأبناء الحركة الإسلامية، وهي أن أنظمة الحكم في بلادنا تعادي الإسلام وتكره المتدينين وعمار المساجد وحفظة القرآن، ولهذه الفكرة شواهد تؤيدها، فإنه ولسبب ما (لا أدري في الحقيقة ما هو) فإن كل متدين تظهر عليه مجموعة من الأمارات هو عرضة للتنقيب عما في قلبه وللتحقق من انتماءاته وعلاقاته، ويكون على هذا الشخص أن يسلك في حياته أحد طريقين: فإما أن يخفي نفسه قليلاً حتى لا تُفتح عليه أبواب هو في غنى عنها، أو أن يدعي انتماءه لفريق مأمون لدى الأمن كـ«التبليغ والدعوة» وحبذا لو كان التصوف وشيوخه وسوف يكون حينها في مأمن من العواقب غير المحمودة.
وقد تختار لنفسك بعد طول بحث ونظر طريقًا ثالثًا: ذلك أن حكامنا وأجهزة الأمن والحمد لله مسلمون يحافظون على أداء الصلاة في جماعة وينظمون مسابقات لحفظ القرآن الكريم للعسكريين والمدنيين، وهم أيضًا يدعمون مؤسسات الأزهر الشريف والأوقاف بمليارات الجنيهات سنويًا من ميزانية الدولة المصرية للإنفاق على أقدم جامعة علمية عرفها العالم حتى يومنا هذا، فلدينا في مصر 1.5 مليون طالب موزعين على معاهد وكليات الأزهر الشريف الذي يجعل الإسلام شرطًا للالتحاق به، ويجعل حفظ ما تيسر من كتاب الله شرطًا للتخرج منه وحمل شهادته، إذن فقد أكرمنا الله بحكام أتقياء أوفياء يحبون الله ورسوله.
والمهم ألا نستمع للدعاية الساذجة من هؤلاء ـ«المرتزقة الخونةـ»، فحكام منطقتنا العربية متدينون والحمد لله، وقد تواترت عندي المرويات عن مآثر هؤلاء الحكام حتى لقد حكى لي أحد إخواننا السوريين قصة جميلة عن كيف أنه في يوم من الأيام كان يعمل في خدمة رئيسه وولي أمره حافظ أسد على متن الطائرة الرئاسية في إحدى رحلاته المظفرة، وحينما أتاه بطعام الغداء اعتذر السيد الرئيس بلطف وتواضع قائلًا إني صائم اليوم فنحن في يوم الإثنين يا أخي.. وهو ما جعل صاحبنا يبغض الثورة السورية وأصحابها لأنهم يحاربون أولياء هذه الأمة وصالحيها.
إذن المشكلة ليست في حكامنا والحمد لله، وإنما المشكلة في ذلك العبء الثقيل الملقى على كاهل هؤلاء الرجال الأشداء، والمشكلة الأكبر هي تلك الشعوب البليدة المتكاسلة التي تؤخر بتباطئها ركب التطوير ومسيرة التحديث المظفر.
كلنا يعرف أصحاب هذا الطريق الثالث وسماتهم ولحاهم الطويلة، ولكن الحقيقة أن حل هذه الإشكالية يحتاج منا أن نكون أكثر عمقًا وموضوعية، بل يحتاج منا أن نكون أكثر شجاعة في الاعتراف بأخطاء سابقة حصلت خلال التعامل مع نظم حاكمة تعرف جيدًا مفاتيح هذه البلاد وكيف يمكن التعامل معها، وتدرك قيم المجتمع وثوابته والتي لن يكون من المعقول سياسيًا مهاجمتها أو النيل منها.
ولكي نكون أكثر تحديدًا، فأنا أحدثك عن مصر على وجه التحديد، وعن جيل الضباط الأحرار ومن بعدهم، فلقد اعتاد أولو الأمر على إرسال رسائل متناقضة تترك الحليم حيران، وتحافظ على تلك الحالة من التوسط بين فريقين كبيرين: الأزهر ومعه تدين المصريين السني البسيط من جهة، ومثقفو وزارة الثقافة ونخبهم التي تجاهر عيانًا بيانًا بالهجوم على ثوابت الدين واستفزاز العامة والخاصة، إنها وببساطة تلك المعادلة الذكية التي يستحق مصممها حكم مصر سنوات وسنوات، فقد جعل من نفسه رقمًا ثابتًا في كل المعادلات والحسابات في حين أن غيره ليس سوى رقم مؤقت، ولا بأس حينها أن يتكلم العلمانيون بما يسيء للدين فنحن في دولة مدنية وعلى المتضرر اللجوء للقضاء، كما أنه لا بأس أن يخرج الأزهر عن صمته فيسكت المتجرئون على دين الله فنحن في دولة ينص دستورها على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
والصورة التي تنقل للغرب هي أن الدولة تحاول جاهدة إيجاد مناخ آمن للأفكار التقدمية اللازمة لنهضة مصر، وأنها تحاول قدر المستطاع كبح جماح رجال الدين ومعهم جماعات الإسلام السياسي والذين هم تحت المراقبة في تصرفاتهم وتحركاتهم، غير أننا في الوقت نفسه دولة مسلمة لا يناسبها مواثيق حقوق الإنسان غربية المنشأ ولدينا من ديننا وثقافتنا (والتي لا يقبل الشعب بها بديلاً) ما نصوغ من خلاله ميثاقًا موازيًا لحقوق الإنسان. وهو موقف يسمح لأصحابه بالكثير من المناورة في الداخل والخارج، كما يسمح له بمخاطبة كل فريق بما يناسبه وفق ما تمليه المصلحة السياسية والظروف الآنية.
ومن جملة الشواهد الكثيرة على ما قلت، سأختار لك بعضها منذ قيام الجمهورية المصرية على يد الضباط الأحرار وحتى يومنا هذا:
الأول من العهد الناصري، حيث سمح لكثير من الشيوعيين بالحديث في وسائل الإعلام والهجوم على ثوابت الدين حتى ظن السوفييت أن عبد الناصر قد أصبح شيوعي الهوى، غير أن الرجل قد فاجأ مضيفيه في موسكو حين كان في زيارة لحلفائه بأنه يبحث عن مسجد ليصلي فيه في موسكو لأنه باختصار (رئيس مسلم).
والثاني هو موقف معاصر متكرر: فقد حافظت الدولة المصرية على تقليد الاحتفال بليلة القدر والاحتفال الخاص بالمولد النبوي الشريف، وهي التي تحافظ على لقاءاتها المستمرة بمن يطلق عليهم (المثقفون)، ولكي تدرك ما يدور داخل أروقة تلك الوزارة من فعاليات فسوف أقص عليك هذه القصة: فقد دعيت ذات يوم للمشاركة في ندوة أقيمت برعاية وزارة الثقافة وفوجئت بأن أحد الحضور من (المثقفين المصريين الشرفاء) ينادي بضرورة قراءة القرآن والإنجيل قراءة وطنية، فليس موسى وأتباعه من اليهود (يقصد نبي الله موسى عليه السلام) سوى مجموعة من المتمردين الخارجين على سلطان فرعون مصر وحاكمها، ولم يكن غرقه في البحر كما حكت الكتب المقدسة إلا شهادة في سبيل مصر ودفاعًا عن الغزاة!
وبين تلك المواقف المتناقضة تستطيع حل هذا اللغز العجيب في موقف الدولة من الدين، فالإبقاء على هؤلاء المثقفين ضرورة تحتاجها مصر لتثبت للغرب أنها ترعى حرية الفكر والمعتقد، ولن يقصر هؤلاء المثقفون الوطنيون في أي مهمة وطنية تطلب منهم خارج البلاد لتحسين صورة مصر أمام العالم، بينما لا يسمح لمثل هذه الأفكار المتطرفة أن تتجاوز حدود قاعات الندوات أو جدران مطابع وزارة الثقافة حتى لا يتسبب ذلك في أزمة رأي عام تكدر السلم كمثل الأزمة التي أحدثتها قديمًا رواية ـ«وليمة لأعشاب البحرـ».
وحتى لا يتكرر ذلك الموقف المحرج الذي أحدثته تصريحات وزير الثقافة في زمان مبارك (فاروق حسني)، حين سخر من المحجبات في أحد لقاءاته الصحفية مما اضطر كبار رجال الدولة للمسارعة في التبرؤ من هذه الخطيئة (السياسية)، وكلنا يذكر موقف الراحل كمال الشاذلي حينما خطب في البرلمان خطبة عصماء دفاعًا عن الحجاب والمحجبات وتأكيدًا أن الحجاب هو عنوان عفاف المرأة المسلمة، وهو موقف في غاية الذكاء سلب البساط من تحت نواب جماعة الإخوان الذين كانوا متواجدين في المجلس في ذلك الوقت، وحينما طلب فاروق حسني الاستقالة كان جواب طلبه هو زيارة من الأسرة الرئاسية لبيته وجلسة ودية تفهم فيها الوزير حساسية الموقف، ومن ثم فقد عاد لمباشرة مهام عمله. والأمثلة على ذلك تطول والله أعلم.
لست في هذا المقال في معرض الدفاع أو الهجوم أو اقتحام معترك السياسة، ولكني أردت رسم خريطة علاقات النظام الحاكم بالدين، والذي يثبت (من وجهة نظري) أنه لا يمكن بحال وصف هذا النظام بكونه نظامًا متدينًا أو نظامًا معاديًا للدين، ولعلك تسألني: وما فائدة مقالتك تلك؟ وجوابي هو أنك إن أردت سلوك طريق الإصلاح لما أفسدته الأحداث والمواقف السابقة، فأنت ولا شك تحتاج للوعي قبل السعي، وتحتاج لإدراك حقيقة الأمور كما هي حتى لا نقع في أخطاء السابقين، أو نضيع أعمارنا في مواقف أيديولوجية لا تسمن ولا تغني من جوع.