محطات العلاقة بين الكنسية والسياسة فى مصر
شهد الفضاء السياسي المصري مؤخراً، حضوراً لافتاً للكنيسة الأرثوذكسية ،و تمدداً ملحوظاً في دورها السياسي ،أعاد إلى الأذهان مشهداً مشابهاً في عهد المخلوع مبارك ، أثار حضور الكنيسة فيه جدلاً حاداً ،حول مدى التداخل و التشابك بين الروحي و السياسي في خطاب و دور الكنيسة ،و مدى وصايتها على الخيارات السياسية لعموم الأقباط ، و مدى آثار ذلك الدور على تعميق النزعة الطائفية في مصر.
النصف الأول من القرن العشرين .. الأقباط والأمة المصرية
يتسم المجتمع المصري بالتجانس والتمازج العرقي و الإثني و تقوم العلاقة بين المسلمين و الأقباط في مصر على أساس من التعايش و التشارك، فطوال تاريخهم لم يعانِ الأقباط فى مصر من أى عزلة نفسية أو جسدية أو مهنية، فقد عملوا بمختلف هيئات الدولة المصرية، كما احترفوا مختلف المهن، وشتّى الحرف، كما تغيّرت لغتهم من القبطية إلى العربية، بل وأبدع الكتّاب والأدباء الأقباط بالمعجم الحضاري العربي الإسلامي، وهو ما يعنى تبنيهم للخطاب الحضارى القائم الذى لم يحل دون تعبيرهم عن هويتهم الدينية، الأمر الذى كان من شأنه تعميق انتمائهم إلى الوسط الحضاري المحيط، كما أدى الانتشار الرأسي للأقباط في كافة طبقات المجتمع إلى إفشال الخطط الاستعمارية الرامية إلى تغريب الأقباط، عن طريق منحهم الامتيازات الأجنبية، وعن طريق فتح المدارس الأجنبية أمامهم، فإذا كانت نسبة ما من أقباط مصر قد استفادت من هذا الوضع، فإن السواد الأعظم من الأقباط من الفلاحين، ومن أبناء الطبقة الوسطى، ظلوا بمنأى عنه ولا يعانون من الاقتلاع، وظلوا داخل التشكيل الحضاري العربي الإسلامي(1).
بيْد أنه وبين الحين و الآخر، تحدث حالة من الاحتقان الطائفي، لسبب أو لآخر؛ ففي مطلع القرن العشرين في العام 1908 نشب سجال طائفي حادّ على خلفية حملة قامت بها صحيفتا «مصر» و«الوطن»، تبّنت خطاباً طائفياً هاجم فكرة الجامعة الإسلامية ، رد عليه الشيخ عبد العزيز جاويش بعدّة مقالات في صحيفة «اللواء» كان عنوانها «الإسلام غريب في بلاده».(2)
وفي السياق أسسّ زعيم الطائفة الإنجيلية أخنوخ فانوس في سبتمبر 1908 حزباً حمل اسم «الحزب المصري» كان هدفه تحقيق الاستقلال عن طريق الصداقة المصرية – البريطانية، و كان أبرز ما في برنامجه المطالبة بجعل التمثيل النيابي قائماً على أساس طائفي.
وفي العام 1910 تحوّل السجال إلى فتنة طائفية ،بعد اغتيال بطرس غالي باشا على يد إبراهيم الورداني، بدوافع سياسية و ليست دينية، استطاع العقلاء من الطرفيْن تطويق آثارها وإخماد نارها بعد المؤتمر المصري عام 1911.
ثمّ جاءت ثورة 1919 لتشهد التحام عنصري الأمّة المصرية معاً عبر المشاركة في فعاليات الثورة، و كان من أبرز سمات حقبة ثورة 1919 أنها فتحت أبواب المجال العام أمام المشاركة الشعبية، والتي شملت بالطبع مشاركة الأقباط، والذي كان السياسي الكبير مكرم عبيد باشا المثال الأبرز لها بمقولته الشهيرة «أنا مسيحي ديناً مسلم وطناً».
وفي آواخر الأربعينيات ظهر تنظيمان قبطيان اتخذا طابعاً طائفياً هما :
الأول :«الحزب الديمقراطي المسيحي»، الذي كان أمينه المحامي رمسيس جبراوي و الذي تغيّر اسمه بعد يوليو 1952 إلى «الحزب الديمقراطي القومي»، و قد كان ضمن مطالبه أن تتبنّى الحكومة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأن تُكتب العربية بحروف لاتينية ،وأن تُحذف خانة الديانة من الأوراق الرسمية.
الثاني : «جماعة الأمّة القبطية» التي تأسست في أكتوبر 1952 على يد المحامي إبراهيم فهمي هلال، وقد دعا برنامج الجماعة الأقباط إلى التمسّك بالكتاب المُقدّس، و التحدّث باللغة القبطية، كما طالب الحكومة بإنشاء محطة إذاعية خاصة بالأقباط ،و ندّد بدستور 1923 لأنه ينص على أن دين الدولة هو الإسلام وعلى وجوب أن يكون الرئيس مسلماً.
وفي عام 1954 هاجمت مجموعة من شباب الجماعة المقر البابوي، و أرغمت البطريرك يوساب الثاني تحت تهديد السلاح على التوقيع على وثيقة تنازله عن منصبه ،إلا أن السلطات المصرية ألقت القبض عليهم، و أصدرت قراراً بحلّ الجماعة.(3)
دولة يوليو 1952 و تأميم الكنيسة
بعد قيام «الضباط الأحرار» بانقلابهم في 23 يوليو 1952 قام النظام الجديد بإغلاق المجال العام، و«تأميم» الحياة السياسية عبر إلغاء الأحزاب السياسية في يناير1953 ، وإنشاء نظام الحزب الواحد أو التنظيم الشمولي الأوحد، وأدت محصّلة تلك الخطوات إلى تجفيف بحر السياسة في مصر، و عزوف المصريين بشكل عام عن المشاركة السياسية و عودة الأقباط إلى الكنيسة، وكانت هذه هي لحظة بداية ظهور الدور السياسي للإكليروس القبطي الذي تمدد لاحقاً.
و في أعقاب كارثة يونيو 1967 وهزيمة المشروع القومي الناصري، ازداد حضور النزعة الدينية بشكل ملحوظ في الفضاءيْن الاجتماعي و السياسي في مصر، عقب قيام نظام السادات بإفساح المجال أمام التيار الإسلامي من أجل تضييق الخناق على الناصريين واليساريين، كان هذا بالتزامن مع وصول الأنبا شنودة الثالث إلى الكرسي البابوي في الكنيسة الأرثوذكسية، حيث شهدت الفترة التالية لولايته زيادة مساحة الدور الذي تلعبه الكنيسة في الحياة السياسية، بعد لجوء الأقباط إلى داخل أسوارها بحثاً عن كيان يجمعهم و يُمثّلهم، لاسيّما بعد وقوع عدّة أحداث عنف طائفي شهدت مصادمات بين المسلمين و الأقباط كان أبرزها حادث الخانكة 1972 و الزاوية الحمراء 1981، و صادف هذا رغبة لدى القيادة الكنسية الجديدة، التي أرادت أن تلعب دور «زعامة» سياسية و طائفية معاً، بالإضافة إلى ظهور ما سُمي بـ«أقباط المهجر» الذين لعبوا دوراً صبّ في خدمة توجهات الكنيسة .
ومنذ ذلك الحين تزايدت مساحة الدور السياسي للإكليروس الكنسي، في الحياة السياسية ، حتى صارت الكنيسة هي الجهة الوحيدة المُحتكرة لتمثيل الأقباط دينياً ، و سياسياً ، و اجتماعياً، و للتحدّث باسمهم، والتعبير عن مشاكلهم، و المطالبة بحقوقهم.
وفي فترة الرئيس المخلوع مبارك دخلت العلاقة بين الدولة و الكنيسة إلى مرحلة «الدعم المُتبادَل»، و التي بموجبها تنازل نظام مبارك عن جزء من سلطة الدولة على بعض مواطنيها للكنيسة، باعتبارها الممثل الوحيد للأقباط في مقابل قيام الكنيسة بدعم النظام سياسياً عبر تأييد كافة توجهاته، وتسويغها لدى عموم الأقباط.(4)
حتى بلغ مستوى الدعم تأييد البطريرك الراحل شنودة لـ«التوريث» علناً، و في السياق نفسه رفضت الكنيسة مشاركة الأقباط في مظاهرات 25 يناير 2011 بعد انطلاق الدعوات المنادية لها ،وطالبتهم بالاعتكاف في الكنائس، وحتى بعد اندلاع الثورة ظلّت الكنيسة تدافع عن مبارك حتى اللحظة الأخيرة.
إلا أن التحالف بين نظام مبارك، و قيادة الإكليروس القبطي متمثّلة في البطريرك الراحل شنودة ، لم يحل دون حدوث بعض الصدامات بين الطرفيْن، قامت خلالها الكنيسة بـ«ابتزاز» النظام، و الحصول على مكاسب إضافية ،حتى بدت الكنيسة في بعض الأحيان وكأنها دولة «فوق» الدولة.
وذلك مثلاً عندما تحدّت الكنيسة أحكاماً قضائية باتة ونهائية، و رفضت تنفيذها والامتثال لسيادة القانون، وكذلك عندما رفضت مراراً إخضاع الكنيسة لرقابة الدولة المالية، بالرغم من كوْن الكنيسة مؤسسة عامة من مؤسسات الدولة المصرية، خاضعة لسيادتها ،وعلاقتها بها من المفترض أن تكون علاقة تابع بمتبوع، و جزء من كلٍ .
25 يناير و الأقباط .. بارقة الأمل المتأرجحة
بالرغم من تحذيراتها ،لم تأبه أعداد كبيرة من الأقباط بموقف الكنيسة من الثورة ،و خرجوا للمشاركة في المظاهرات ، و الاعتصام بميدان التحرير، وهو الأمر الذي شكّل نقطة تحول في علاقة الأقباط بالكنيسة، و كسرهم للعزلة التي فرضتها عليهم لعدّة عقود، وخروجهم إلى المجال العام للمطالبة بحقوقهم كمواطنين مصريين، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
وهو ما أنعش الآمال بقدوم عصر جديد من المشاركة الشعبية،في تفاعلات المجال العام، الذي فتحت أبوابه ثورة 25 يناير، أمام مختلف فئات الشعب وطوائفه ،في ممارسة حق التعبير و الاختيار دون وصاية . إلا أنه سرعان ما خبت تلك الآمال في أول استحقاق سياسي ، بعد الإطاحة بمبارك ،عندما تحوّل استفتاء 19 مارس 2011 على التعديلات الدستورية ،إلى استفتاء على «الهويّة» عبر فرز و استقطاب طائفي، شهد الحشد و الحشد المضاد.
و ازداد الأمر سوءاً بوقوع عدّة أحداث عنف طائفي ،شهدت اعتداءت على كنائس و ممتلكات قبطية ،بدأت بحادثة هدم كنيسة صول في الجيزة في مارس 2011 ،ثم حادثة كنيسة مارمينا بالجيزة في مايو 2011 ، ثمّ هدم كنيسة المريناب بأسوان في سبتمبر 2011 ،ثمّ وقع حادث ماسبيرو في أكتوبر 2011و هو الحادث الطائفي الأسوأ في الفترة الانتقالية عقب تنحّي مبارك، و الذي كان له أسوأ الأثر على مدى المشاركة العامة للأقباط بعيداً عن وصاية الكنيسة.
و شهدت الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة يناير مشاركة الأقباط، في تأسيس أحزاب سياسية ،و الانضمام إليها ،مثل حزب «المصريين الأحرار» الذي أسسّه رجل الأعمال نجيب ساويرس ،و الحزب «المصري الديمقراطي الاجتماعي».
وألقى الاستقطاب السياسي الحاد ،الذي اندلع على خلفية استفتاء 19 مارس بظلاله الكثيفة ، على الانتخابات البرلمانية التي أجريت في نهاية العام 2011 حيث قامت الكنيسة بدعم قائمة «الكتلة المصرية»، التي تشكّلت من الأحزاب ذات التوجهات الليبرالية واليسارية ،إذ دفعت المصلحة المشتركة بين الكنيسة، و تلك الأحزاب إلى التنسيق المُتبادل، لحصول مرشيحها على أصوات الأقباط، من أجل مواجهة الحشد الإسلامي المقابل ، وكانت محصّلة المشهد التصويتي ، هي إعادة إنتاج الاستقطاب السياسي ،و تحوّله في كثير من الأحيان، إلى اصطفاف واستقطاب طائفي.
و في أول برلمان بعد ثورة يناير، كان إجمالي النوّاب الأقباط هو 11 نائباً جاء ستة منهم بالانتخاب بنسبة 1% من النوّاب المنتخَبين، إلى جانب خمسة آخرين أتوا بالتعيين من قِبل رئيس المجلس العسكري، و ظهرت حالة الاستقطاب السياسي و الطائفي تحت قبّة البرلمان ،ومن أمثلتها رفض رئيس البرلمان طلب النائب عماد جاد، بمناقشة بيان عاجل حول ما حدث بقرية النهضة بالعامرية، إثر تهجير عدد من الأسر القبطية.(5)
وبعد مرحلة الصعود الكبير للإسلاميين في الانتخابات البرلمانية ،جاء انتخاب محمد مرسي رئيساً للجمهورية في الانتخابات الرئاسية 2012 كأول رئيس مدني مُنتخب ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين.
وبالرغم من كل التطمينات التي حملها خطاب مرسي تجاه الأقباط إلا أنه لم ينجح في تبديد موروثات الشك و التوجس الطائفي، التي خلّفتها العقود الماضية من جهة ،والتي ساهم في إذكائها هلامية مفهوم المواطنة لدى غالبية الإسلاميين ،عبر الخلط بين «الشرعي» و «التاريخي»، وعدم التفرقة بين الأوضاع في دولة «الخلافة»، و بين مكونات الدولة «الوطنية» الحديثة من جهة أخرى. إلى جانب اتساع مساحة الاستقطاب السياسي ، و زيادة حدّته ، و الحضور الكثيف للخطاب الهوياتي في الفضاء السياسي ، و نزعة البعض الزائدة لتأكيد الذات الحضارية خاصة في عملية وضع دستور 2012 والتي انتهت بانسحاب ممثلي الكنائس المصرية من الجمعية التأسيسية، احتجاجاً على المادة 219 الخاصة بتفسير مادة الشريعة الإسلامية .
دفعت محصلة هذه العوامل الأقباط إلى العودة إلى أحضان الكنيسة مجدداً ،التي وجدت الفرصة سانحة أمامها من أجل استعادة الأرضية التي فقدتها بعد 25 يناير، وتزامنت تلك التطورات، مع تولي الأنبا تواضروس الثاني منصب بطريركية الكرازة المرقسية في نوفمبر 2012 واتباعه لسياسة كادت أن تتطابق مع سياسة سلفه شنودة.
الكنيسة ونظام الثالث من يوليو .. عودة لأحضان الدولة
و مع تفاقم الأزمة بين مرسي ومعارضيه، ازدادت حدّة الاستقطاب السياسي، و ازدادت مساحة التراشق الطائفي، خاصة بعد مظاهرات 30 يونيو وصولاً إلى مشهد الثالث من يوليو 2013 الذي شهد الإطاحة بمحمد مرسي و عزله عن منصبه، بحضور البطريرك تواضروس في تفاصيل المشهد، إلى جانب وزير الدفاع –آنذاك – الفريق عبد الفتّاح السيسي، و فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب و بقية الحضور .
وبعد قيام السلطات المصرية بفضّ اعتصامي رابعة العدوية و النهضة، في أغسطس 2013 اندلعت موجة من أعمال العنف التي استهدفت كنائس، و ممتلكات قبطية، حيث أشارت تقارير بعض المنظمات الحقوقية إلى تعرّض نحو 44 كنيسة إلى الهجوم.(6)
وتواصل الدور السياسي للكنيسة في دعم مسار 3 يوليو بشكل ملحوظ، حيث شاركت الكنيسة بممثليها في لجنة الخمسين لتعديل دستور 2012 ،ودعا البطريرك تواضروس الأقباط علناً إلى الموافقة على الدستور المُعدَّل، و كتب مقالاً في صحيفة الأهرام الحكومية تحت عنوان «قول نَعم يزيد النَّعَم».(7)
كما تواصل الحضور السياسي – الإعلامي للبطريرك تواضروس بعدها ، بصورة تجاوزت حتى ما كان في عهد سلفه شنودة الثالث؛ ففي مارس 2014 أجرى غبطته حواراً مع تليفزيون «الوطن» الكويتي، حثّ فيه المشير عبد الفتّاح السيسي على خوض الانتخابات الرئاسية ،واصفاً ترّشحه بـ«الواجب الوطني» ،كما وصفه بـ«أن المصريين يرونه مُنقذ وبطل 30 يونيو»، كما وصف تواضروس ثورات الربيع العربي بـ«الشتاء العربي» المُدبّر، الذي حملته أيدٍ خبيثة إلى المنطقة العربية ، من أجل تفتيت دولها إلى دويلات صغيرة لا حول لها ولا قوة (8)
إلا أن الأسوأ هي الدلالات الطائفية الغير خافية ،التي حملتها تصريحاته عن 30 يونيو، و مشاركة الأقباط فيه ، و «خروج الراهبات إلى جانب أخواتهنّ المحجبات للخلاص من حكم الإخوان».
وعلى المنوال نفسه وفي ديسمبر الماضي أدلى البطريرك تواضروس بتصريحات لصحيفة «الوموندو»الإسبانية ، قال فيها أنه: «يؤيد الإفراج عن مبارك بسبب عمره ،و أن الأقباط نعموا خلال 3 عقود من حكمه بالسلام ،وأن المجتمع المصري تعرّض لحالة من الغليان خلال حكم مرسي، و رفض المواطنون النظام الديني، كما تحدّث عما رآه (شروط) عودة الإخوان المسلمين إلى الحياة السياسية»(9)
و يشير مجمل هذه التصريحات إلى ازدياد مساحة الدور السياسي للكنيسة مقارنة بدورها السياسي في الماضي، كما أن خطابها صار أكثر انغلاقاً، و يؤكّد أنها صارت جزءاً من النظام السياسي الجديد، كما تكشف تلك التصريحات عن تبنّي الكنيسة، لآراء وتوجهّات سياسية تتطابق مع آراء «فلول» النظم السلطوية الاستبدادية، و القوى الرجعية الإقليمية ،الراعية للثورات المضادة التي تردد الخطاب نفسه، عن ثورات الربيع العربي، و تصفها بـ«المؤامرة» التي تستهدف زعزعة استقرار دول العالم العربي وتقسيمها.
أما الأسوأ فهي الدلالات الطائفية الواردة في تصريحات غبطة البطريرك ،و التي جاءت في وقت تمر فيه البلاد بمرحلة دقيقة، دون تبصّر بعواقبها، فمثل تلك التصريحات تمثّل وقوداً مثالياً لنشر التطرّف، كما أن من شأنها زيادة حدّة الاحتقان الطائفي في البلاد.
من المفترض أن يقتصر دور الإكليروس القبطي على الجانب الديني أو الروحي ،و لا يتطرّق إلى الشأن السياسي، و لكن خطاب الكنيسة حالياً يشير بوضوح إلى طغيان السياسي على الروحي، وإلى رغبة القيادة الكنسية في استعادة الأرضية التي فقدتها بعد 25 يناير، بحيث تكون هي الممثل الحصري للأقباط عبر «زعامة» سياسية ،و تحوّل الكنيسة إلى ما يشبه «الحزب السياسي»
وهنا تتلاقى رغبة ومصلحة النظام الجديد مع رغبة و مصلحة القيادة الكنسية، في إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه ، عندما كانت العلاقة بين النظام والكنيسة تقوم على «الدعم المتبادل» في عهد المخلوع مبارك، عبر تنازل النظام عن جزء من سلطة الدولة على بعض مواطنيها للكنيسة، باعتبارها الممثل الوحيد للأقباط، في مقابل قيام الكنيسة بدعم النظام سياسياً. وإعادة إنتاج العلاقة بينهما في هذا الإطار، يصب في مصلحة النخبة الحاكمة التي ترغب في الحصول على تأييد الكنيسة للمسارالسياسي من جهة، كما أن عودة الأقباط إلى داخل أسوار الكنيسة و الالتزام بخياراتها السياسية، يصب في نجاح عملية «تأميم» المجال العام التي يستهدفها المسار السياسي الحالي ،عبر إحكام الدولة لقبضتها على حركة تفاعلاته من جهة أخرى.
من جانبها ترغب الكنيسة في استعادة مكانتها السياسية السابقة، و التي فقدتها بشكل كبير بعد 25 يناير ،ولم تبدأ في استعادتها إلا بعد الضربات المتلاحقة التي أصابت عملية التحوّل الديمقراطي، بعد الاستقطاب السياسي الحاد ،الذي تحوّل إلى اصطفاف طائفي.
مستقبل الأقباط .. بين الطائفية و الجامعة الوطنية
احتكار الكنيسة للشأن القبطي بالمعنى الروحي، و السياسي ، يلحق ضرراً كبيراً بالجامعة الوطنية عامة ،و بالأقباط خاصة؛ فهو أولاً يمثّل ضربة قاضية لمبدأ المواطنة، الذي يقوم على المساواة بين المواطنين دون تمييز، وفقاً لسيادة القانون ،ففي ظلّ ثنائية (النظام – الكنيسة) يتم احتواء مشكلات الأقباط عبر سياسة الصفقات و الترضيات التي من شأنها تعطيل – وليس تطبيق – نصوص القانون ،أو بعبارة أدق علاجها ب «المُسكنات» التي تتعامل مع أعراض الأزمة الطائفية، دون القضاء على جذورها.
كما أنه يلحق ضرراً فادحاً بفكرة الجامعة الوطنية ،التي تقوم على التعايش و التشارك، و التفاعل ،بين مكوناتها عبر ممارسة أنشطة جماعية، تعمل على تذويب الحواجز بين أطرافها، و البحث عن مساحات التوافق الوطني، والعمل على توسيعها.
و احتكار الكنيسة لتمثيل الأقباط و التعبير عنهم ، من شأنه أن يزيد من عزلتهم ،و انزوائهم ، و عزلة الأقباط تستحضر الانطواء على الذات الدينية، وتُعمّق النزعة الطائفية ، كما أنها تولّد الفرز و الاستقطاب، عبر البحث عن مساحات التمايز و الاختلاف.
و الحقيقة أن غياب المشروع الوطني عن مصر، لعدة عقود متتالية، قد أغرق المجتمع في حالة من اللامشروع واللاهدف، و أدى إلى ظهور العديد من الاستقطابات، التي تبدأ من الاستقطاب الطائفي، وتمر بالاستقطاب السياسي، و الطبقي، و الجهوي، و تنتهي بالاستقطاب المهني.
فغياب المشروع الوطني الذي يعمل على تجميع الفئات ،والطبقات تحت هوية وطنية جامعة لعقود طويلة ،أدى إلى بروز هويّات فرعية، و ثانوية ،ناتجة عن تضخّم الذات الطائفية ،و المهنية ، والجهوية، وحتى الذات الرياضية ، ليكون المجتمع أشبه بـ«جزر منعزلة» ، بعد تمكُّن «القوارض» الاجتماعية من جسده و تفكيك شبكة العلاقات بين فئاته ،على حد وصف المُفكّر الراحل مالك بن نبي.
فمن المعلوم أنه عند غياب الانتماء الوطني الأكبر، الذي يعمل على احتواء المجتمع و تجميع كافة فئاته، وطبقاته ،فإن المجال يكون مفتوحاً أمام حضور الانتماءات الأقل، و الأدنى ،مما يجعل المجتمع عُرضة لانتشار الانقسامات الرأسية و الأفقية في جسده، ففي لحظة 25 يناير توّحد المصريون خلف هدف واحد يجمعهم ،وتلاشت الاختلافات، و الانقسامات ،و الاستقطابات، بما فيها الاستقطاب الطائفي ،إلا أنه و بمجرد تنحي المخلوع مبارك ،و غياب قيادة تُحسن اغتنام تلك اللحظة الفريدة التي جمعت المصريين، عادت الانقسامات و الاستقطابات القديمة إلى الحضور مجدداً.
مثّلت لحظة 25 يناير فرصة مثالية لتحرّر الأقباط من هيمنة الكنيسة، و خروجهم إلى المجال العام كمواطنين مصريين، من أجل التعبير عن آرائهم ،و المطالبة بحقوقهم السياسية، و الاجتماعية، بعيداً عن الوصاية الكنسية، إلا أن الإخفاقات و الانتكاسات التي مُنيت بها مسيرة التحوّل الديمقراطي المتعثّرة، و طغيان الموروثات الطائفية للعقود العجاف الماضية، كانت لها أسوأ الأثر في إعادتهم إلى أحضان الكنيسة مجدداً.
هذا ويتوقف مدى الدور السياسي الذي ستمارسه الكنيسة في المستقبل، وهيمنتها على المشهد القبطي بشكل كامل ،على تطورات المشهد السياسي في مصر، وما سيطرأ عليه من مُستجدات، قد تساهم في حلّ الأزمة السياسية المستحكمة -التي انتقلت من خانة الانقسام السياسي إلى خانة الانقسام الاجتماعي- أو قد تدفع بها نحو المزيد من التأزّم و التعقيد.
كما يتوقف أيضاًعلى مدى قبول قطاعات الشباب،و الطبقة الوسطى المدينية القبطية ،التي شاركت في ثورة 25 يناير، بالعودة مجدداً إلى داخل أسوارالكنيسة، و الإذعان لرغباتها السياسية ،و ميولها التصويتية في الاستحقاقات الانتخابية، حيث أن هذه القطاعات كانت قبل ثورة يناير تتخذ موقفاً رافضاً، تجاه ممارسة الكنيسة لدور سياسي .
ولا حلّ لمشكلات الأقباط إلا بعودة الكنيسة إلى دورها الروحي، و تحرّر الأقباط من وصايتها السياسية، وخروجهم إلى المشاركة العامة من أجل المطالبة بحقوقهم كمواطنين مصريين ، في ظل قيام نظام ديمقراطي تعددي، يقوم على دولة وطنية ،تقف على مسافة واحدة من جميع مواطنيها دون تمييز، وفق مبدأ المواطنة ، وهذا لن يتحقق إلا بانفتاح المجال العام أمام مشاركة جميع المصريين دون إقصاء.
أمّا إعادة إنتاج تحالف «الدعم المُتبادل» بين النظام و الإكليروس القبطي على طريقة ثنائية «مبارك – شنودة»، فهذا من شأنه تحقيق مصالح «الأقلية» المُحتكرة للسلطة و الثروة في المجال العام، و «الأقلية» المحتكرة لتمثيل الأقباط في المجال القبطي الخاص ، على حساب مصلحة الجامعة الوطنية ، لأن إعادة إنتاج ذلك التحالف ستزيد من حدّة الاستقطاب الطائفي ، كونه يقوم بالأساس على سياسة المساومات و الصفقات التي تُطيل زمن العلّة و لا تداويها.
- 1) عبد الوهاب المسيري – أقباط مصر و الانتماء الوطني – صحيفة الأهرام – 19 مايو 2000
- 2) طارق البشري – المسلمون و الأقباط في إطار الجماعة الوطنية – دار الشروق – الطبعة الرابعة 2004
- 3) أبو سيف يوسف – الأقباط و القومية العربية – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى
- 4) شحاتة عوض – إرباك سياسي :أقباط مصر بين مظلّة المواطنة ومظلّة الكنيسة – مركز الجزيرة للدرسات
- 5) مي مجيب – الأقباط في الصراع السياسي و الاجتماعي – مجلة الديمقراطية
- 6) تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية – إسحق إبراهيم – من يتحمل مسؤولية ما جرى للأقباط؟
- 7) البطريرك تواضروس الثاني – صحيفة الأهرام 13 يناير 2014
- 8) لقاء البطريرك تواضروس مع فضائية "الوطن" الكويتية مارس 2014